لم ير أحد وجهها الذي تخفيه وراء حجاب. كانت أول شخص احتجز بعد هجوم "القاعدة" على الولايات المتحدة بتاريخ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول العام .2001 غير أنه سرعان ما أفرج عنها وعن طفلها الرضيع. منذ ذلك التاريخ تعيش نيشي بهجة حياة صعبة لأنها متزوجة من رجل تحبه لكن نصف العالم يبغضه ويطالب رأسه.
عند الوصول إلى محطة القطارات الرئيسية في مدينة هامبورغ يلمح القادم ملصقات عليها صورة تعود للمغربي سعيد بهجة الذي تلاحقه عدة دول في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. تغير هذا الملصق قبل وقت وسحبت منه صورة اليمني بن الشيب عقب اعتقاله في باكستان قبل أكثر من عام. وكانت هامبورغ مقرا لخلية محمد عطا الذي أقام في ضاحية هاربورغ على أطراف مدينة هامبورغ مع زياد الجراح ومروان الشحي وهؤلاء الثلاثة قادوا الطائرات الثلاث التي اختطفت في الولايات المتحدة واستخدموها في هجومهم على شرف الولايات المتحدة.
في الغضون تقيم نيشي بهجة في الطبقة السادسة من المبنى الذي فرض الصحافيون طوقا حوله مدة أشهر، ولم يبق في العالم جهاز أمني إلا وطرق بابه بحثا عن خيط يرشد لخلفية الهجوم على الولايات المتحدة أو إلى مكان سعيد بهجة الذي أمه ألمانية. تصف نيشي حياتها الحالية كحياة إنسانة داخل سجن. النوافذ مغطاة بستائر مزدوجة تخفي حتى أشعة الشمس. حين تغادر منزلها تعرف دائما إلى أين تتجه: إما إلى الصيدلية أو إلى المخبز وإما لقضاء حاجة ملحة لها أو لطفلها.
خارج المنزل تبدأ بالنسبة إليها حدود عالم مليء بالأعداء. إنها تسمي الألمان "الكفار" وهي تخشاهم وتتحاشاهم كي لا يؤثروا عليها أو على طفلها البالغ اليوم أربع سنوات من العمر. قالت انها لن تسمح لطفلها اللعب مع أطفال الكفار كما لن تسمح له تناول الحلوى الألمانية المصنوعة من دهن الخنزير. داخل سجنها في هامبورغ تقضي نيشي بهجة بعض الوقت في قراءة القرآن وكما تزورها بعض النساء التركيات المحجبات وهن قليلات ويجلسن في عالمهن الخاص. فرضت نيشي هذه الحياة على نفسها خشية أن يشير الناس إليها في الشارع: هذه زوجة الإرهابي. وأن ينادوا ابنها بابن الإرهابي. هذه الحياة الصعبة زادت صعوبة. إنها تحب زوجها الذي تلاحقه نصف دول العالم. سعيد بهجة الذي وصفته وسائل الإعلام بأنه أبرز مخططي هجوم الحادي عشر من سبتمبر العام 2001 قبل ثمانية أيام على تنفيذ الهجوم استقل طائرة تابعة للخطوط الجوية التركية واتجه إلى اسطنبول ومنها إلى كراتشي. منذ ذلك الوقت تلاحقه وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" وكذلك البوليس السري الألماني. وهؤلاء يعتبرونه أحد أبرز مخططي الهجوم على الولايات المتحدة. تظهر صورة سعيد بهجة على ملصقات ليس في محطة القطارات في هامبورغ وحسب بل في مخافر الشرطة والموانئ الجوية والبحرية خارج ألمانيا أيضا وتحت صورته كلمة: مطلوب. وعبارة تشير إلى أنه متهم بالانتماء إلى تنظيم إرهابي والمشاركة في القتل في أكثر من 3 آلاف حالة. قد يكون ملايين الناس شاهدوا صورته وهو اليوم أصبح عمره 29 سنة. غير أن زوجته ليس لها وجه. أصعب وقت في حياتها كانت ليلة الثالث عشر من سبتمبر العام 2001ولم تكن قد مرت 48 ساعة على وقوع الهجوم على نيويورك وواشنطن حين داهمت الشرطة الألمانية شقتها وقادتها تحت أضواء عشرات المصورين إلى التحقيق وفي اليوم التالي ظهرت صورتها في صدر الصفحات الأولى في صحف العالم وهي تحمل رضيعها وتشده إلى صدرها: هذه زوجة الإرهابي سعيد بهجة.
مرت بعد ذلك فترة زمنية لم يسمع أحد شيئا عنها. لكن في الغضون يراقب البوليس السري الألماني الرسائل المتبادلة مع زوجها عبر الإنترنت. إحدى الرسائل التي وردت من سعيد بهجة كان مصدرها مدينة كراتشي إذ اختفى فيها أثره. ويعتقد المحققون الألمان أنه مختبئ في مكان ما في المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان. بالنسبة الى الـ "سي آي إيه" والبوليس السري الألماني فإن مراقبة نيشي بهجة قد تقود إلى معرفة مكان زوجها الفار والأهم من ذلك أن يقود معرفة مكان الزوج الفار للتوصل لمكان أسامة بن لادن.
الحياة الزوجية بين نيشي وسعيد بهجة مستمرة عبر الإنترنت فقط وتحت نظر المحققين الذين يرصدون كل رسالة صادرة وكل رسالة واردة. أوصى سعيد في إحدى رسائله أن تربي نيشي ابنهما على تعاليم الإسلام. غير أنها لا تعرف مكان وجود زوجها وكل ما صرحت به أنه قد يكون في بلد يستطيع فيه أن يرتدي القفطان. قالت انه لم يمر يوم واحد منذ اختفائه من دون ان تفكر به وقالت أيضا: ينام ابنه مثله تماما، يده على وجنته وفمه مفتوح. واتصل سعيد ذات يوم بزوجته من مخبئه وقال لها أن مصيره بيد الله. وقد رصد المحققون هذه المكالمة وحاولوا التعرف على مكان مصدرها لكن سعيد تعجل في إنهاء المكالمة ما عطل عليهم معرفة مصدرها. لكن نيشي تتمنى لو يتصل مرة أخرى ليشعرها أنها ليست وحيدة. قالت: منذ أن غاب وأنا أشعر أن أحدا سرق مني كبدي. وقالت ان قلبها يحزن حين تفكر ماذا يتعين عليها أن تقول لطفلها حين يبدأ يسأل عن والده.
لكن في الغضون أصبح صبرها على وشك النفاد وبدأت تفكر بالطلاق. تبلغ نيشي اليوم 24 سنة من العمر وأبلغت مجلة "دير شبيغل" أنها لا ترغب في أن تموت في ألمانيا، بلد القردة على حد تعبيرها. ما هو رأي نيشي بالهجوم على الولايات المتحدة؟ أجابت أن ما حصل مؤامرة كبيرة وضعها الأميركيان وربما اليهود. وهي تقول أيضا ان زوجها بريء وأقسمت بأنه لم تكن في هامبورغ خلية إرهابية وأن زوجها سافر إلى باكستان للدراسة فقط. وهي تتمنى نار جهنم لجميع من وصفتهم بالمنافقين الذين يقولون العكس.
تبدأ سيرة حياتها مع سعيد بهجة، في مطلع العام 1999 حين شاهدته في أحد جوامع هامبورغ وكانت في سن الثامنة عشرة. كلاهما نشأ في ألمانيا ويجيدان الألمانية. كان سعيد يبلغ 23 سنة من العمر، أمه ألمانية ووالده مغربي وكان مولعا بالكمبيوتر. كان يناديها: وردتي. تخلت نيشي عن الدراسة وتزوجت سعيد. كان شاهد زواجهما محمد حيدر زمار، ألماني من أصل سوري كان عمل في تجنيد الشباب العربي للسفر إلى باكستان ومنها لأفغانستان للتدرب في معسكرات "القاعدة" وهو مسجون منذ وقت في سورية. شارك كثيرون من أعضاء خلية هامبورغ في حفل زواج سعيد ونيشي في مقدمتهم رمزي بن الشيب وزياد جراح ومروان الشحي. كثير من ضيوف حفل الزواج إما ماتوا أو اعتقلوا أو يحاكمون. لذلك ترى نيشي أن حفل زواجها كان مناسبة حزينة. أحد الضيوف صور الحفل الذي جرى بتاريخ 9 اكتوبر/ تشرين الأول العام 1999 في مسجد القدس بحي سانت جيرج وحصل المحققون على نسخة من الفيلم الذي يظهر فيه بوضوح زياد جراح ومروان الشحي وكلاهما شاركا في الهجوم على الولايات المتحدة.
احتفلت نيشي في ذلك اليوم مع أناليزه بهجت والدة سعيد ونساء أخريات في مكان آخر. لم تفكر حتى والدة سعيد أي خطر يمكن أن يصدر عن هذه الحلقة من الرجال ولم تفكر نيشي بالخطر الذي انجرت إليه من خلال هذا الزواج. قال والد نيشي، عثمان، انه لم يرغب في زواج ابنته من سعيد حين قصده هذا أول مرة ولمس أنه متطرف في اعتقاداته الدينية. في الغضون أصبحت نيشي تغادر المنزل وهي تغطي رأسها إلى أخمص القدمين. لم يحضر والدها حفل الزفاف لأنه لم يعثر على مكان مسجد القدس كما قال. يقع هذا المسجد في شقة تابعة إلى مبنى بين ناد للرياضة وليس له منارة تشير إلى أنه مسجد. حتى 11 سبتمبر كان مخفيا عن الأنظار. يشعر والد نيشي اليوم بغضب شديد تجاه سعيد وقال انه سيكسر أنفه إذا دخل منزله. وهو لا يتحدث مع ابنته عن سعيد حتى لا ينشب خلاف بينهما. وقالت أناليزه بهجت وهي تحاول التحكم بأعصابها: لو قررت نيشي الزواج من رجل آخر فإنني لن أقف في طريقها. لكن ليس بوسع نيشي الإقدام على هذه الخطوة ما دامت ترتبط بصلة مع رجل شبح.
لقد شبت نيشي بسرعة بعد كل ما مر عليها من تجارب منذ 13 من سبتمبر العام .2001 قالت انه بعد عودتها من التحقيق إلى مسكنها راح الجيران السكارى يصرخون: سعيد متى ستموت؟ اليوم تعيش في المبنى نفسه لكن في الطبقة العليا وعلى الباب الرئيسي اسم مستعار. تعيش نيشي على المساعدات الاجتماعية "نحو ألف يورو شهريا" وتصر الجهات الألمانية على أن تبحث عن عمل وتشعر أنها تعامل باحتقار من قبل موظفي الشئون الاجتماعية. أحدهم قال لها مرة: لست أدري ماذا يفعل زوجك مع رفاقه لكن بوسعه أن يرسل إليك بعض المال. أصبحت نيشي تكره المجتمع الذي حكم عليها مسبقا لأنها زوجة سعيد بهجت. في الغضون حصلت على رخصة قيادة السيارات. كذلك يكاد صبر سعيد أيضا ينفد. وقد طلب من زوجته أن تنتقل للعيش في تركيا لأن فرص لقائها أو الاتصال بها أسهل مما لو ظلت في ألمانيا. لكن نيشي خائفة من حياة خارج ألمانيا وربما تضطر إلى العيش مثل زوجها، وتحمل طفلها للفرار من مكان إلى آخر. تخشى نيشي أن يقع سعيد في قبضة الأميركيين وخصوصا أنها شاهدت كيف يجري معاملة المعتقلين في غوانتنامو. وهي تسخر من الأمة السوبر التي تشعر أنها ليست موجودة. لم يسأل أحد عني. صدمت نيشي حين قرأت رسالة جاء فيها أن بن لادن اعترف بمسئولية "القاعدة" عن الهجوم على الولايات المتحدة. قالت نيشي لمجلة "دير شبيغل" بن لادن مزق الأمة. لكنها قلقة أكثر على زوجها وتأمل ألا يكون تورط بخطة الهجوم. لا تعرف نيشي إلى متى تستطيع أن تصبر لكنها بدأت تفكر في أن تطلب من زوجها الشبح أن يطلقها
العدد 980 - الخميس 12 مايو 2005م الموافق 03 ربيع الثاني 1426هـ