إن إصلاح العقد الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أمر حاسم بالنسبة إلى مستقبل أسواق العمل في هذه المنطقة. فالعقد الاجتماعي القائم على إعادة التوزيع والتدخل الاقتصادي يعرض رفاه العاملين للخطر. إنه يحول مسار النشاط الاقتصادي إلى القطاع غير المنظم ويترك الكثيرين من العمال بلا حماية. إنه يقيد الاستثمار والنمو، ويقلل من قدرة الحكومات على الوفاء بالتزاماتها في مجالي الاقتصاد والعدالة الاجتماعية مع أن مقاومة الإصلاح يزداد، في ظل ظروف البطالة المرتفعة، ترسخا عند من يؤمن العقد الاجتماعي الحالي حمايتهم.
إن العقد الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يوفر لأقلية من العمال ضمان التوظيف، إلا ان هذا يجري عى حساب انخفاض الأجور ومستويات المعيشة. العقد الاجتماعي مهم في المحافظة على البرامج التي يستفيد منها طبقة الفقراء من العمال، غير ان شبكات الأمان الاجتماعي قد جرى مدها لحدود تفوق طاقتها. إن الانحدار الحاصل في إيرادات الدولة وما يبرز من فجوة توظيف هي الأسوأ بالعالم يجعل العقد الاجتماعي القائم غير قابل للاستمرار. إن أوجه الصلابة، والاقصاء، وعدم الفعالية، التي تطبع العقد الاجتماعي الحالي بحاجة إلى إعادة هيكلة. والإصلاحات لن تكون في نهاية الأمر موضع ثقة ما لم تأخذ في اعتبارها حاجات العمال الاجتماعية، وتكفل للنتائج الاقتصادية قبولا اجتماعيا بين مواطني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إن هذا الأمر يتطلب تجديد الالتزام السياسي لإجراءات اجتماعية هي ذات قيمة على نطاق واسع - عقد اجتماعي جديد يربط بين الإصلاح ومبادئ مكافحة الفقر، والمساواة بالدخل، والضمان الاجتماعي - وهذا ما استرشدت به سياسات بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا الاقتصادية زهاء 05 عاما تقريبا.
إن العقد الاجتماعي الجديد سيحمل لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فوائد بعيدة الأمد. إنه من شأنه ان يوازن بين حاجة سوق العمل للمرونة وبين حقوق العمال، وأن يساعد على اجتناب التفكك الاجتماعي والصراعات، من خلال تقديمه دورا ايجابيا للعمل في عملية الانتقال إلى نظم انتاج أكثر مرونة والتنسيق بينها. فضلا عن ذلك سيخلق العقد الاجتماعي الجديد آليات تدعم العمال في عملية الاستجابة لما يلحق بهيكلية التوظيف من تغييرات تقترن بالخصصة وبالانتقال إلى اقتصادات أكثر انفتاحا، وما يفترضه ذلك من شروط مهارات مختلفة واعتماد أكبر على التقنيات المعلوماتية الجديدة. إن ضمان هذه المكاسب يستلزم رؤية واضحة عن الكيفية التي يجب ان ينظم بها مستقبل أسواق العمل. فالمرغوب به في المحصلة النهائية ليس اسواق عمل غير منضبطة، من شأنها تعريض العمال لظروف عمل قاسية، وهشاشة في التوظيف، وعدم ضمان للدخل، ولا سوق عمل يجري النمو فيه من خلال سباق لأسفل، مع تدن في المستويات المعيشية للعمال، وازدياد عدم التساوي بالدخل سوءا. هناك حاجة لإجراءات جديدة للتطور، تدعم السباق نحو الأعلى، وتضمن مشاركة العمال فيها يحققه النمو الاقتصادي من فوائد.
إن ما يظهر من تحد لإعادة هيكلة العقد الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يرجع لنقص في المعرفة بشأن ما يجب أن يفعل. فالتصورات عن سبل الإصلاح هي أحسن بكثير اليوم عما كانت عليه لعقدين ماضيين فقط، وهذا يشمل أيضا الحاجة لتفصيل الاصلاحات بحسب مقتضيات البلد المعنية وربطها بما يرغب به اجتماعيا من نتائج. فالعقود الماضية قد انتجت معرفة واسعة بشأن ما يجدي أو لا يجدي نفعا في استراتيجيات التطور وسياسة الإصلاح.
فهم العوائق التي تعترض الإصلاح أمر حاسم
لماذا، على رغم الركود، واستنفاد ما جرى اختياره من استراتيجيات للإصلاح، وازدياد ازمات التوظيف سوءا، لاتزال حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتقاعس عن اجراء تغيير في مسارها؟ غالبا ما يفسر هذا التقاعس بردة فعل منطقية من قبل القادة في المنطقة مفادها أن كلفه الإصلاح مطلوب سدادها فورا، في حين أن الفوائد منها، فوق أنها متأخرة، فهي غير أكيدة.
إلا ان كره المجازفة السياسية هو في أحسن الأحوال تفسير جزئي للمسار الذي يتخذه الإصلاح الاقتصادي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، بلا ريب، مراحل من التحول الاقتصادي يستلزم القيام بها تكبد كلفة لا يجري توزيعها بشكل متساو بين فئات المجتمع. وعلى الطرف الآخر، هناك قوى اجتماعية نافذة لديها مصلحة واسعة في إبقاء الأمور على حالها.
إن الحذر السياسي والانتباه لتأثير الإصلاح على العمال والفقراء أمور مؤكدة. إلا انه يوجد أيضا كلفة أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية، تترتب على ابقاء الأمور على ما هي عليه من جمود. ويوما بعد يوم، تصبح هذه الكلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أشد قسوة، ما تؤكد الاعتقاد بأن الإصلاح البطيء والانتقالي تعوزه الصدقية، وانه يفاقم من حدة الاستقطاب الاجتماعي.
إن الاستجابات غير الملائمة لحال الركود الاقتصادي المستمرة أصبحت تشكل نزيفا خطيرا على القدرات السياسية لحكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ووجد الذين يستفيدون من بقاء الأوضاع على حالها، أن أوضاعهم تتزعزع أكثر فأكثر. إن التآكل الحاصل في مستويات المعيشة لشرائح من السكان يزيد من السخط الشعبي، وهذا يظهر على نحو مطرد مع تقدمه تقنيات الاتصال الجديدة للمواطنين من إطلاع أكثر عن حجم الفجوة الحاصلة بين ظروفهم الاقتصادية وظروف من يعيشون في بقاع أخرى من العالم.
قيود الموازنة المرنة والتحديات السياسية أعاقت الإصلاح
إن ما عرفت بقيود الموازنات المرنة قد هيمنت، خلال الثمانينات والتسعينات، على تركيبة إجراءات الإصلاح وحدودها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فالكثير من العائدات تولدت خارج نطاق الاقتصاد المحلي، وتدفقت إلى الدولة مباشرة عبر المساعدات الخارجية، عبر تصديرات النفط، ونجحت استراتيجيات الريع كذلك في تغطية أثر الركود الاقتصادي فسمحت للحكومات بأن تتبنى إصلاحات محدودة في حين أنها عمدت إلى تأجيل القرارات الصعبة بشأن التعديل الهيكلي للعقد الاجتماعي وإعادة بنائه.
برز عامل آخر شكل عائقا أمام عملية الإصلاح هو التحدي المتمثل بالحركات السياسية الراديكالية. فقد أصبح التزاوج ما بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي هشا، أو لعلها قد تفرقا كلية، عندما ردت الحركات على نجاح حركات المعارضة، وفي بعض الحالات على العنف الذي تقوم به الجماعات المتطرفة، باحيائها لاستراتيجيات التسلط السياسي والتشديد على مسائل الأمن القومي التي تعوق إصلاحات نظام الحكم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وكانت النتيجة ان جاءت إدارة الإصلاح بحسب أساليب فوقية، وحلت محل الجهود السابقة الرامية إلى مساندة الإصلاح الاقتصادي من خلال الانفتاح على الساحة السياسية. لقد بقي الانشغال بالاصلاح انتقائيا ومحدودا، وتوافق توقيت الجهود المبذولة للدفع قدما ببرامج التعديل الهيكلي مع التآكل الحاصل في قيمتين سياسيتين هما: التضمينية "الاندماج" والمساءلة.
لقد أدى هذا الجمع، بين الإصلاح بأسلوب الأوامر الفوقية والتضييق على الساحة السياسية، إلى تقييد فرص تطور قدرات الدولة المطلوبة خصيصا لمساندة عملية التحول البعيدة المدى نحو نظم الاقتصاد السياسي الآخذة بنهج السوق في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وليس أقل من ذلك أثرا أن أصبحت احتمالات حصول إجماع على تجديد العقد الاجتماعي أكثر بعدا.
الربط بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي
لقد وصلت هذه الاستراتيجيات إلى نهايتها. وظهر ذلك في ضعف قدرة الحكومات على معالجة ما يعتري أسواق العمل من اختلالات وظيفية، أو في تقديم رؤية جديدة للعقد الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشكل انطلاقا لعلاقات أكثر إنتاجية فيما بين الدولة والقوة العاملة والقطاع الخاص. ويبدو، في ظل هذه الظروف، ان الإعراض عن تطبيق الإصلاحات الاقتصادية يتعارض مع ما ترغب حكومات هذه المنطقة فيه بشدة من استقرار على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
إن هذه الحكومات، إذ ما ارادت لعملية الإصلاح ان تتجاوز محدداتها الحالية، ستحتاج إلى إحياء الحوارات القومية، عن إصلاح سوق العمل، وعن إعادة هيكلة برامج إعادة توزيع الدخل، وإعادة تحديد مقومات العقد الاجتماعي. ويبدو، مع تميز مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوجود شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة فيها، أن إحياء الحياة السياسية - الذي هو شرط للنمو الاقتصادي - أمر ممكن لا ريب. وفي الوقت نفسه، فإن اختيارا انتقائيا للإصلاح الاقتصادي، موجها من أعلى لأسفل، ومتجنبا الحاجة إلى تغيير سياسي من شأنه أن يؤمن شرعية الإصلاح ويضمن وفاء الحكومة بالتزاماتها، لم يعد يفي بعد الآن بالمراد.
مساندة الشركاء من الخارج أمر حيوي
في الوقت الذي تتقدم فيه المنطقة باتجاه تحقيق وعودها نحو مستقبل أفضل، فإنه يتعين على شركاء هذه المنطقة من الخارج، باعتبارهم دعاة للإصلاح ومؤيدين له، أن يلعبوا دورا مهما في مساندة العملية الانتقالية التي تضطلع بها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى رغم أن اوروبا هي أهم شريك تجاري لهذه المنطقة، فإنه ينبغي على بقية شركائها أيضا ان يدعموا المنطقة في عملية تكامل اسرع وأعمق مع الاقتصاد العالمي، وفي تسهيل ارتباط المزيد من دولها بمنظمة التجارة العالمية، وتشجيع نمو التجارة والاستثمار في داخل المنطقة، وإزالة العقوبات الاقتصادية. وإن سياسة أوروبية أكثر تحررا تجاه الصادرات الزراعية والعمالة المهاجرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمن شأنها أن تعزز أسس شراكة أوروبية - شرق أوسطية قوية.
وفي حين أن أية مساعدات مالية واقتصادية خارجية ستكون موضع ترحيب، إلا أن ازدهار المنطقة يعتمد، وبشكل كبير، على ترسيخ أمنها واستقرارها الاقليمي. وهناك أدلة قوية على أن العنف والنزاع في المنطقة قد عرقلا بشكل حاد وتيرة الإصلاح والتكامل التجاري والاستثماري بدرجة لا تقل عن التأثير السلبي الذي احدثته السياسة المحلية الضعيفة. إن النزاعات المتواصلة كانت لها تأثيراتها السلبية الواسعة على دول المنطقة، إذ لم تقتصر هذه التأثيرات على الدول التي تعاني من النزاعات بل جاوزتها إلى ما يجاورها من دول في المنطقة. والمطلوب من جانب حكومات بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا أن تبذل جهودا أكبر في سعيها لاحتواء مصادر عدم الاستقرار على الصعيدين الداخلي والاقليمي. وعلى المجتمع الدولي أن يعيد النظر في كيفية تعامله مع النزاعات المتواصلة في المنطقة. إن جهودا دولية عاجلة مطلوبة من أجل حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وتطبيع الاوضاع في العراق.
تبقى المنطقة هي المسئولة الرئيسية
منذ نحو عقد مضى، طلب تقرير للبنك الدولي من حكومات المنطقة أن "تكون جديرة بمستقبلها"، وأن تتخذ الخطوات الضرورية التي تؤمن لمواطنيها الرفاه الاقتصادي. ومنذ إعداد تلك الدراسة المبكرة، تم تحقيق بعض التقدم، إلا أن الحاجة لتحقيق المزيد لاتزال قائمة. إن مشاهد الشباب من ذوي التعليم الجيد متعطلين عن العمل هي التي تسمم الآن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر من غيرها في العالم. إن قادة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يجدون انفسهم الآن، بسبب عدم اقدامهم في الماضي على اتخاذ الخطوات الضرورية، في مواجهة خيارات أشد صعوبة، وضغوط للتحرك أكثر إلحاحا. إن العقد الاجتماعي القديم لم يعد صالحا بعد اليوم باعتباره نقطة انطلاق للإصلاح.
هناك حاجة ملحة إلى عقد اجتماعي جديد. عقد يحقق التكامل ما بين استراتيجيات النمو القائمة على اقتصادات السوق مع مراعاة قيمتي التضمينية "الاندماج" والمساءلة، وبين الالتزامات القائمة منذ أمد طويل نحو العدالة الاجتماعية. * الاستاذ المشارك للاقتصاد في جامعة «جورج تاون» الاميركية
العدد 982 - السبت 14 مايو 2005م الموافق 05 ربيع الثاني 1426هـ