لقد فقد الشعب الفلسطيني في الألفية الجديدة أبرز قادته على الإطلاق، ليس بداية برحيل الرئيس ياسر عرفات ولا باغتيال الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي أو وفاة واستشهاد غيرهم. .. هذا طبعا وقبل كل شيء بالإضافة إلى رحيل ثالوثه الثقافي العالمي، متمثلا بغياب إبراهيم أبو لغد قبل سنوات قليلة "2001" ثم رحيل البروفيسور الموسوعي ادوارد سعيد "2003" ، ووفاة البروفيسور هشام الشرابي في مطلع العام الجاري "2005"... كذلك بالإضافة إلى عدد مهم من كتاب وشعراء وأدباء ورجال دين وسياسة من أبناء وبنات شعب فلسطين. بغياب هؤلاء الأشخاص تكون الثقافة الفلسطينية ومعها كذلك العالمية قد تلقت ضربات ثلاث موجعة وقاصمة. وقد لا تستفيق منها الحال الثقافية الفلسطينية إلا بعد مرور عدة سنوات. فنوعية هؤلاء الرموز لا تتكرر ولا يمكن تعويضها بآخرين في وقت قريب أو في زمن قصير.
بدأت الألفية الجديدة على شعب فلسطين سوداء ومازالت تزداد اسودادا، إذ إن العام الماضي كان عاما فلسطينيا ممزوجا بالدماء ومحسوبا بتضحيات الشهداء، فقد حصدت آلة الموت والإرهاب الإسرائيلية حياة 963 فلسطينيا جلهم من قطاع غزة. وفق إحصاءات مركز المعلومات الوطني الفلسطيني. وجاء في التقرير أن شهر أكتوبر/ تشرين الأول أكثر شهور سنة 2004 دموية إذ بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين ،153 وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي بلغ عدد الشهداء 62 شهيدا ثلثهم من الأطفال وبينهم 51 من غزة و11 في الضفة.
هؤلاء الشهداء سقطوا في حال الدفاع عن الوطن والتمسك بالأرض والحقوق والصمود في البيت والحقل والمدرسة، أي في حال الاستمرار بالحياة على رغم سلوك وممارسات جنود وقادة الاحتلال، أعداء الديمقراطية والحياة الإنسانية. سقط الشهداء و عبدوا بدمائهم الدرب نحو الديمقراطية التي بدورها ستقود إلى الانتصار على الأعداء من احتلال وفساد وغير ذلك، وستحقق الاستقلال وستؤكد الحرية الفردية والجماعية في دولة القانون والسعادة والرخاء. فالشهداء لا يموتون لأجل الموت بل من اجل بعث الحياة. والحياة التي يبعثونها هي حياة حرة وكريمة وشريفة وسعيدة، تليق بمقام وتضحيات من ماتوا ومن مازالوا يواجهون مصاعب الحياة في ظل الاحتلال والتخلف والحرمان والإذلال.
بين الضربات السياسية والثقافية المؤلمة التي عانى ويعاني منها شعب فلسطين، مازال في هذا الشعب الخير والعقل المستنير الذي يوجهه بطريقة حضارية مذهلة. فقد تجاوز الفلسطينيون تلك المحن الصعبة وتابعوا مشوارهم على رغم زلازل غياب القادة والرموز من أهل السياسة والثقافة والعلم. واستطاعوا الانتقال بالسلطات بطريقة معقولة ومقبولة لرأب الصدع وسد الثغرات في الجسد المضرج بالدماء والمحاصر بالأوبئة والأمراض المعدية.ويقفون الآن أمام امتحان صعب آخر، هو حتمية استكمال النهضة الحالية بإجراء انتخابات فلسطينية شاملة للمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية يشارك فيها أبناء الشعب الفلسطيني كافة أينما كانوا في الداخل والخارج وفي الشتاتين العربي والغربي.
كما هو معروف فان الشرق العربي أو شرق المتوسط كما كان يحلو للراحل الكبير عبدالرحمن منيف تسميته، مازال يعاني من غياب الديمقراطية ومن ويلات الأنظمة التي بدورها مازالت تعاني من حساسية الانتقال إلى الحياة الديمقراطية بمعناها الحقيقي وضمن الاستفادة من متغيرات كثيرة جرت في عالم اليوم. صحيح أن العرب مازالوا بعيدين عن ركب التقدم والتطور بشكله الأوروبي الحالي، وصحيح أنهم لا يمارسون العملية الديمقراطية بشكلها المعمول به في أوروبا الحديثة، على رغم سطوع نجم التجربة الديمقراطية الفلسطينية العربية الوليدة من رحم المعاناة، والناهضة من تحت الأنقاض والدمار وعلى رغم حراب الاحتلال.
على العرب أن يعززوا حياتهم الديمقراطية وان يبدلوا ثوبهم الحكومي الحالي وان يجروا تعديلات وان يدخلوا إصلاحات تكون كفيلة بضمان منع التدخل الخارجي وخصوصا الغربي في شئونهم. لأن البقاء في زمن حكم العائلة والعشيرة والعسكر والشخص الواحد أو الحزب الواحد غير ممكن في هذا الزمن. ولأن الشعب الفلسطيني جزء أصيل من الأمة العربية وهو يؤكد ذلك دائما، لا بد هنا من التذكير بأنه يقف منذ أكثر من خمسين عاما وقفة عز تليق به وهو يدافع عن الأمة ويذود عنها، كما ويصد الهجمة الاستعمارية الاستئصالية الصهيونية الغربية الشرسة التي تحاول طمس العروبة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب. ويمكننا القول إن الشعب الفلسطيني يدافع أيضا عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين المحتلة ولا يسمح ليد الإرهاب الاحتلالية بالسيطرة على تلك الأماكن وضمها أو تغييبها وتزييفها. فالفلسطينيون دافعوا عن المسجد الأقصى وكنيسة المهد بأجسادهم العارية وحجارة أرضهم الطيبة. وسيدافعون عن ديمقراطيتهم بكل ما ملكت أياديهم، وسيكونون مثالا صالحا جيدا للشعوب العربية الأخرى من اجل استنهاض الأمة العربية والعمل على دمقرطة العمل والحياة في شرق المتوسط - شرق العرب. وسيكونون طليعة الفجر الديمقراطي في المنطقة، الفجر ذو الخصوصية المشرقية لا فجور الاستعلاء الأميركي والعنصرية الغربية.
نضال حمد
العدد 987 - الخميس 19 مايو 2005م الموافق 10 ربيع الثاني 1426هـ