نبيل علي صالح - كاتب سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية
11 أكتوبر 2010
يعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أنّ الأديان والطوائف والعشائر والقبائل - بفكرها وأعرافها وأنماطها السلوكية - تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة الحديثة باعتبارها مؤسسة متكاملة الأبعاد والجوانب.
وتبعاً لذلك فإن هذه الانتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأمة) تشكل - بمجملها - حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني وحكم دولة القانون والمؤسسات التي تشكل غاية الاجتماع المدني الإنساني، حيث ستصر تلك الانتماءات على التمظهر - الإرادي أو القسري - في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع، بما يمكّنها من الظهور والحضور المتواصل في مختلف جوانبه وامتداداته، وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة على الدولة الناظمة لحركية المجتمع بمختلف مواقعه ومؤسساته وهيئاته.
والأمر الذي نستغربه كثيراً في طبيعة هذا الطرح - وغيره من الطروحات المتماهية فيه أو المتوازية معه - هو إصراره الشديد على الخلط وعدم التمييز والتفريق بين الدين كحالة حضارية، وتجربة إنسانية لها مكوناتها الروحية - بالغة الرقي والتكامل - في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء. فالدين له مضمون ثقافي وروحي واجتماعي يتصل بالحياة وبالتحديات والمخاطر المتنوعة التي تواجه الإنسان فيها في قضايا الوعي والمسئولية، والحرية والحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك. ويوجد لهذا المضمون خطاب عملي يريد من خلاله أتباع هذا الدين - وهذا من حقهم بالطبيعة والفطرة - تحشيد الناس حول فكرته الحضارية في سياق عملية الإصلاح والتغيير. تماماً مثل أي فكر أو تيار آخر يريد أن يدعو إلى مبادئه وطروحاته، ويخاطب الجمهور عارضاً عليه أفكاره ومفاهيمه التي ينبغي ألا تتناقض لدى الجميع (من أتباع الحركات العلمانية أو الدينية) - في العمق الفكري والعملي - مع صيغة الدولة الحديثة (القائمة على العلمنة والحرية والمسئولية وتداول السلطة والدعوة السلمية الحضارية)، باعتبارها (أي الدولة) أهم ظاهرة اكتشفها أو توصل إليها الإنسان في سياق سيرورته التطورية ووعيه لوجوده الذاتي والموضوعي.
وهنا نلاحظ أن كل خطاب تغييري (أو إصلاحي) لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه - بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة - بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك، ألا يمكننا الحديث مثلاً عن جمود وماضوية الخطاب الفكري عن الحركات والتيارات التي تتبع المنهج والأيدولوجيا المادية الديالكتيكية التي مضى عليها أكثر من مئة عام، وخصوصاً أن تطبيقاتها على الأرض ألحقت دماراً هائلاً بالإنسان والواقع، وكلفت البشرية كثيراً من الدماء والدموع، ثم إن الماضي - أساساً - هو تجربة أناس عاشوا قبلنا فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً. أي ليكون لهم حضور ودور معين بين باقي الأمم والحضارات، ولذلك فإن الماضي شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا المهمة والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، وبأساس وجود الإنسان فيها. لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة. فالحياة تحتاج إلى أن تعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين الذين قدموا لها تلك الأفكار فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة في مدى الزمن كله، بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرف لها. فقيم ومبادئ العدل والحرية والعلم والتطور والتنمية، قيم ثابتة، ولكن مفاعيلها متغيرة وهي تكاد تكون هوية ثابتة في أي مجتمع حديث ومتطور.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارف وأفكاراً تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم بما يجعل إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً. ولكن تتم إعادة درسها وتحليلها وتفكيكها من باب التذكرة وأخذ الدروس والعبر التي يمكن أن تقدمها لإغناء تجارب الحاضر. أي أن نجعل من الماضي ساحة للدرس والاعتبار على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع.
وهذا الوعي الفعال بمكتسبات وأعمال الماضي لا يمكن أن يقودنا إلى تقديس أفكاره بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل - كما ذكرنا - بالحياة. فأفكار «الحرية» و «العدالة» و «التقدم» هي قيم ثابتة ومقدسة في كل طور ودور.
من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر - على حد زعم تلك النخب - «ماضوية» و «ما قبل وطنية أو قومية»، يمكن أن تكون سبباً وجيهاً للتوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتنا العربية الغنية بالتنوعات الفكرية والاثنيات والقوميات والأديان والمذاهب المتعددة، مثل الحديقة الغنّاء الممتلئة بكل أنواع الزهور والرياحين والورود. وبما يزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري العربي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.
وهذا الأمر لا يقتصر - في اعتقادي - على عالمنا العربي، إذ إنّ الأمم جميعاً مكونة من أقوام وشعوب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ومع ذلك فقد استطاعت تلك الأمم بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، على ما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.
ولذلك فقد آن الأوان كي تتخلص تلك النخب الثقافية - التي ليس لها جذور حقيقية في داخل تربة وكيان الأمة الثقافي والاجتماعي - من هاجسها وعقدتها النفسية التي تستمر من خلالها في تخويف المجتمع والناس عموماً من (الخطر الشديد؟!) الكامن وراء تلك الانتماءات المتهمة دائماً في نظرها. وكذلك عليها أن تدرك معنا حقيقة أساسية، وهي أن التعدد أمر طبيعي في داخل التركيب والتكوين الاجتماعي، ويمكن أن يكون حالة إثراء وغنى روحي وثقافي للمجتمع، وهو - بالتالي - لا يمكن أن ينتج الانقسام وينذر بكارثة التفكك إلا إذا تمّ توظيفه سياسياً من قبل بعض الأطراف من هنا وهناك، وخصوصاً طرف النظم والسلطات الحاكمة التي نشأت أصلاً على قاعدة تمكين العصبيات المحلية - على مستوى الطائفة والقبيلة والعشيرة - من كيان سياسي تتوسع وتمتد به حدود سيطرتها وتحكمها إلى كامل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أفضى ذلك إلى تشكيل أنظمة سياسية تأخذ «بالديكور» و «الموزاييك» السياسي الحديث مع إبقائها ومحافظتها - ضمنياً، وفي العمق - على مصالح المشايخ والزعماء والعشائر والقبائل.
ويبدو لنا أن حلّ هذه الإشكالية لا يكمن في تطبيق الحالة الاندماجية والتجانسية الواحدة - إذا صح التعبير - باعتبارها تفتقر للأساس الموضوعي في المقدمة والنتيجة. بل في البدء الفوري بإجراءات تحويل السلطة إلى ملكية عامة من حق المواطنين جميعاً، وإعادة السياسة إلى موقعها الحقيقي في المجتمع، وبحيث تكون (هذه السلطة) قابلة للتداول السلمي فيما بين أبنائه، ومن دون وجود عراقيل أو خطوط حمراء قد تتستر وراء شعارات المحافظة، والانغلاق، و...الخ، بما يؤدي إلى تفكيك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوي في داخل المجتمع الأهلي، من خلال فسح المجال لها لتعبر عن ذاتها بالحوار الواعي والعقلاني البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر. باعتبار أن السبب الجوهري الذي أدى إلى نشوء العصبيات - وتوظيفها سياسياً - يتحدد من خلال قيام نظام السلطة الحاكمة في اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي (منذ التاريخ الباكر) بالهيمنة والتسلط، واستخدامه لأدوات القمع والفرض المختلفة، واستبعاده للجماعات الاجتماعية الأخرى. الأمر الذي يولّد لدى هذه الجماعات - المقصيّة والمحرومة من حق المشاركة في صنع السياسة وتداول السلطة - شعوراً بالقهر والظلم في توزيع السلطة، والاستفادة منها؛ ما يدفعها للانكفاء، والانعزال، والتفكير بالعمل تحت الأرض، أو على الأقل التقوقع على همومها، وعصائبها الذاتية، وهواجسها المرضية، بما يضمن لها الدفاع - بالحد الأدنى - عن وجودها.
ولاشك بأن إفلاس الفكر السياسي العربي المعاصر - تحديداً فكر النخب السياسية وكثير من المواقع الثقافية المرتكز أساساً على ثقافة سياسية مضى زمنها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الواقع - هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج وصياغة أمثال تلك الأزمات والكوارث التي لاتزال تستنزف الجسد العربي. ولذلك لابد من البدء الفوري بإنتاج ثقافة سياسية جديدة تبنى على معايير وأسس واقعية وإنسانية، تضمن للفرد حرياته الفكرية والسياسية كاملة، وتضع الشروط المعنوية والنفسية والسياسية التي تحمي هذا الفرد المستقل، وتقوم عليها فكرة المواطنة والحكم الصالح. ومالم تبدأ الدولة العربية السير على هذا الطريق الواضح والصريح فإن أزمتها - التي تمثلت في إرادتها القسرية الهادفة لبناء مواطن مستقل ومتحرر من ضغط المجتمعات المتخلفة والعصبيات الجزئية المتحكمة - ستستمر وتتوالد ذاتياً بمظاهر وألوان جديدة متنوعة تقف على رأسها أزمة التطرف والعنف الرمزي والمادي التي ستزداد من جانب بعض الحركات الدينية أو من جانب بعض الحركات العلمانية، لأن العنف يستولد العنف، والظلم ينبئ بفيض من الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
العدد 2958 - الإثنين 11 أكتوبر 2010م الموافق 03 ذي القعدة 1431هـ