العدد 1066 - السبت 06 أغسطس 2005م الموافق 01 رجب 1426هـ

أوال بين بحرين هل تنعى سواحلها؟

ما أكثر الجدران حين تعدها...

جدار اسمنتي عريض وأسلاك شائكة تجاوز الشاطئ إلى عمق المياه الضحلة. فبعد المالكية، ها هي سند ودمستان، وبالأمس صدد وتوبلي تتعرض لحملة بيئية بشعة.

انه تجن على الطبيعة الخلابة التي حباها رب الكون إلى فقراء هذا الوطن. ولكن حتى هذه السواحل أصبحت مصدر جذب إلى عيون كثير من الهواة والمحترفين بل والمتنفذين أيضا!

ما أكثر جدران العزل في بحريننا الحبيبة وما أكثر أسلاك الشوك! وما أكثر الحواجز غير القانونية التي لا تستقيم مع أي منطق سماوي أو إنساني!

ثلاثة وأربعون عاما وهو يصحو مبكرا، ليباشر مهنته في الاسترزاق في عمق البحر المجاور لقريته الصغيرة المطلة على أحد أجمل السواحل غربي جزيرة البحرين الأم... قرية تتغنى برمالها وبحرها اللوذعي الجذاب، هذه القرية تمثل لأبنائها عروسا حقيقية بل أما حنونا تحتضنهم وترعاهم.

الساعة كانت تشير إلى الخامسة فجرا مع تباشير صباح جميل، يتوجه كما هي عادته عند كل صباح طيلة أربعين عاما، يتوجه وهو في شوق مستمر إلى معانقة رمال الساحل الذهبية التي ربما لا تحضى به أجمل المدن والحواضر الحديثة.

يمضي مجدا في المسير نحو أنسه الأول والأخير، نحو البحر الذي تجمعه معه علاقة عشق لن ينفك رباطها بالسهولة التي يتوهمها الآخرون، لم يرتكب جرما، بل ذهب ليسترزق، ليأكل قوتا، حلالا لكي يتنعم بجمال منقطع النظير... يخطو خطوات، ويمد كفيه بعيدا إلى أقصى ما يمكن لعينيه ان تراه... ماذا هناك؟


البحر لهم، ولهم فقط !

انها أسلاك شائكة يرى ناصبوها ان البحر حكر على امتعتهم، البحر لهم، ولهم فقط!

ولكن عزاء هذا المواطن البحريني أنه ليس الوحيد الذي صدم بهذه الحواجز المصطنعة، فجدران العزل في مملكتنا لم تعد حادثا استثنائيا، لأنها أصبحت أقرب إلى القاعدة التي يراد تثبيتها منه إلى الاستثناء والشواذ.

وكما هو الحال في قرى الساحل الغربي، بل قرى البحرين قاطبة فان لـ "البحر" معنى، وللبحر لغة في قاموس الأهالي لا يفصله أكثرهم عن مقدرتهم على العيش من عدمه. فالبحر في المناطق المحرومة يشكل في المقام الأول متنفسا وحيدا لمن لا يملك ثمن النزهة في منتجعات أو أبراج عاجية، ويشكل ثانيا مصدر رزق رئيسي خصوصا لمن يعيش بمحاذاة السواحل.

الرحلة إلى قرى البحرين بقدر ما هي جميلة فإنها تحمل آهات وآهات، فهذا الطريق يعبر عن مأساة مواطنين بسطاء الحال، كبيري الحلم، لا يجدون في غير سواحلهم الجميلة سلوى لهم، فغالبية هذه المناطق تفتقر إلى كثير من الخدمات والمقومات الطبيعية.

غير أن حال الحرمان التي يكابدها اهالي معظم القرى، لم تكن على ما يبدو حائلا دون تسلط المتنفذين على سواحلها، انه اغتيال للأرض، للماء، للحلم الجميل الذي يمكن أن تقراه في عين أصغر طفل من أطفالهم... حلم بمستقبل أفضل، يخفف عن الأهالي جزءا من الحيف الكبير الذي طالهم في عقود طويلة من الزمن.

كان الجو جميلا منعشا، وكانت نسائم الطيور تحلق فوق الطراد الصغير الذي حملنا من أقصى نقطة في الساحل الذي بدأ يتقلص مع طغيان الإنسان وأنانيته التي لا تمنعها أنات بسطاء القوم.


من أين كانت البداية؟

من أين كانت البداية؟ سؤال طرحناه على أهالي إحدى القرى الذين يتجمعون على هيئة سرب يحلقون حول ساحلهم.

أمين سر لجنة الساحل والمرفأ في دمستان حسين الماجد تحدث لـ "الوسط" عن تجربة قريته في حركة المطالبة بالساحل قائلا: المطالبة بالساحل كانت متدرجة، والساحل كان مفتوحا قبل العام ،1985 ولم تكن عليه أية منشآت أو بيوت من الهملة إلى المالكية مرورا بقرية دمستان. وقد بدأ وضع اليد من قبل متنفذين على كل المنطقة المحاذية للساحل خلال العشرين عاما. والأهالي نظرا لطبيعة الأوضاع السياسية لم تكن تسمح للمطالبة بوقف هذه التجاوزات. المتنفذين لم يكتفوا بتغطية البحر، بل قاموا بمد عوازل من الأسلاك والحيطان "أمتار عدة في عمق البحر" بمحاذاة أراضيهم، ما أدى لفقدان الكثير من الصيادين حضورهم، وعدم وجود متنفس للأهالي".


... بين مكاتب المسئولين

أهالي القرية وجدوا في العهد الإصلاحي الجديد بارقة أمل في المطالبة باستملاك الساحل للأهالي لاستخدامه للمنفعة العامة. واستغلت اللجنة الأهلية زيارة جلالة الملك للمنطقة الغربية في مدينة حمد قبل ثلاث سنوات بتقديم رسالة تتضمن مطالب أهالي قرية دمستان، ومن ضمنها فتح الساحل وأستملاكه لأهالي المنطقة الغربية "..." وكانت تلك البداية الجدية للمطالبة، بعد ذلك قامت اللجنة الأهلية ببدء التحرك الفعلي للمطالبة عن طريق زيارة محافظ الشمالية، وقدمت في هذا اللقاء ملفا إلى نائب المحافظ. وفي "العاشر يناير/ كانون الثاني 2003 قامت اللجنة بزيارة إلى النائب عن المنطقة الغربية جاسم عبدالعال وعرضت عليه مطالب اللجنة بضرورة إنشاء مرفأ للصيادين واستملاك ساحل القرية، ورحب النائب بمطالب القرية، ووعد بمتابعة هذا الملف، إذ قدم النائب إلى المجلس النيابي رغبة بقانون باستملاك السواحل. واستمرت المتابعات مع المسئولين في المحافظة الشمالية، إلى أن تم إنشاء منفذ إلى المرفأ في فبراير/ شباط .2004 وذلك اثر مهرجان يوم القرية تحت شعار "الانتفاع بالبحر حق مشروع" في 7 فبراير 2003 الذي نظمته اللجنة على مدخل المرفأ الحالي، شارك فيه النائب البرلماني جاسم عبدالعال والنائب الثاني لرئيس مجلس الشورى منصور بن رجب وعضو الشورى حبيب مكي هاشم ورئيس المجلس البلدي سيد مجيد سيد علي، وتفاجأ الأهالي بقيام أحد الاشخاص بجرف أرض البحر ووضع سياج من حديد من طبقتين في عمق البحر.

وبعد الانتهاء من المرحلة الأولى من إنشاء الشارع المؤدي إلى المرفأ، تفاجأ الأهالي بقيام شخص آخر بدفن جزء من البحر بجوار منفذ المرفأ بمخلفات إحدى شركات النظافة في 10 يوليو/تموز 2003 وتمت مخاطبة بلدية المنطقة لوقف هذا الردم الغير قانوني من الجهتين البيئية والقانونية، إلا أن البلدية لم تتفاعل مع الموضوع.

وبعد قيام أهالي القرية بالتجمع السلمي توقف الشخص المذكور بشكل مؤقت عن ردم البحر بالمخلفات، إلا أن المتنفذ عاد بوتيرة متسارعة جدا عن طريق أحد المقاولين بمواصلة الردم لوقت متأخر من الليل. وقد توجهت اللجنة بمخاطبة أحد القائمين على مشروع الدفن للوصول إلى حل ودي بين الطرفين ملكن من دون استجابة حقيقية.

ويضيف الماجد : نحن متفائلون بجهود وزارة البلديات في التفاعل مع هذه القضية إذ بدأت قبل ايام بوادر تبشر بالخير لحلحلة الموضوع، وذلك من خلال البدء بإزالة جدار الحديد العازل، ونتمنى ان تتوج هذه الجهود بحل دائم للقضية يرضي جميع الأطراف.

وعن مطالب أهالي القرية قال سعيد علي "أمام ضياع المرفأ، وحرمان الصيادين من أرزاقهم، وعدم وجود متنفس لأهالي المنطقة وبالخصوص قرية دمستان لارتياد البحر بعدما كان الساحل مفتوحا، يناشد الاهالي جلالة الملك والجهات الرسمية باستملاك الساحل وجعله للمنفعة العامة".

ويقول أحد سكان القرية إن ساحل دمستان "كان يمتد سابقا من قرية الهملة إلى كرزكان، وكان نقطة تلاقي وجذب كل اهالي المنطقة الغربية المفتونين بجمال هذا الساحل "..." اما الآن فقد تقلعت أراضي الساحل، ودخلت ضمن الحيازات الوهمية، وبقي الفتات ليشهد سياجا عاليا منيعا لا طاقة للاهالي على مكابدته".

ويشرح هموم الأهالي بعد أن فصلوا تعسفيا عن ساحلهم قائلا: "البحر تلك النعمة الالهية التي حبا الباري جل شأنه قريتنا بها، فلقد اوقعها القدر على الساحل الغربي لبحريننا العزيزة، قريتنا مطلة على الامواج المتدافعة والمفعمة بعبق الماضي التليد وامل المستقبل الواعد، ومحط رحال الكثيرين من المناطق النائية".

ويضيف قائلا: "وعلى رغم من تزاوج القرية بالساحل، إلا أنك لا تجد دربا طبيعيا مؤديا إليه لكي يسلكه المترددون بأمان وطمانينة، فلا زال الطريق وعرا ومحفوفا بشتى العراقيل ومختلف العثرات، حتى ان تلك الخشبة "السفينة" البالية جاثمة في مكانها منذ امد بعيد، لتعطي دلالة رمزية على تردي الوضع. ان استئثار قلة من النفعيين بالملك العام يحول دون ان تأخذ القوانين مجراها للتفعيل او الممارسة، وقد تكثفت التجاوزات والالتواءات على النظم العامة خصوصا في زمن سيادة منطق المصادرة".


قانون السواحل لايزال مؤجلا...

وقبل عامين من الان، وتحديدا في الحادي عشر من يوليو العام 2003 أكد النائب جاسم عبدالعال أنه "يتعين على السلطات التنفيذية تطبيق القانون على المخالفين في ردم السواحل بالمخلفات التي تزيد من تدمير الحياة البحرية".

وأكد عبدالعال حينها أن المجلس النيابي ينتظر رد الحكومة في انعقاد الدور التشريعي الثاني على مشروع اقتراح بقانون إلى الحكومة يمنع تملك السواحل المحادية إلى القرى والمدن الساحلية، ويمنع التعدي على السواحل وردمها من دون ترخيص، وكذلك فتح المنافذ البحرية للقرى، ومساءلة المسئولين في الاجهزة المعنية بالحفاظ على البيئة عن الانتهاكات التي تجري في حق السواحل".

ولكن انفض الدور التشريعي الثاني بل واشرف الثالث على الانتهاء من دون أي تحرك جدي لوقف مثل هذه الانتهاكات.

بعد عامين من هذا التصريح، وأمام استمرار المتنفذين في مشروع "حيازة السواحل" ماذا يقول النائب عبدالعال: "هذا القانون قدم في الدور الأول من عمر المجلس، وهو قانون يتعلق بحماية السواحل للقرى والمدن الساحلية، وكان غالبية النواب داعمين لهذا المقترح. ورفع هذا الاقتراح للحكومة وتأخر لمدة سنة كاملة، وبعد إرجاعه تم التصويت عليه في مجلس النواب وقرر إحالته إلى الشورى في 2004 العام، واستغرق القانون في مجلس الشورى أكثر من ثمانية شهور "..." والآن بعد مناقشته سيعود إلى النواب مرة أخرى لإقراره".

وعن مدى تطبيق بعض الاشخاص لهذا القانون يرى عبدالعال أنه بالتأكيد يكون هناك متنفذون يعارضون القانون "ولكن تطبيق القانون هو من صميم عمل السلطة التنفيذية، ونحن كمجلس نيابي نراقب عمل هذه السلطة".

وعن قضية دمستان وتفاعلاتها في الاونة الأخيرة يوضح عبد العال ان قضية دمستان متشعبة إلى شقين، هما الساحل والمرفأ "فهناك مطالبة بفتح الساحل للأهالي، وبتخصيص المرفأ للصيادين، وحسب علمنا أن الشخص يملك جزءا من البحر، ولكن ملكية البحر لا تعطي صاحبها تخويلا بتدمير البيئة. وبامكاننا مع الأهالي أن نطالب بما بعد الدفان" مؤكدا انه "في تواصل مع اللجنة الأهلية لبحث الأسلوب الأمثل المرضي للأهالي خلال الفترة المقبلة، وسنوسع قنوات الحوار ونتبع النهج السلمي والحضاري في مطالبنا "..." وبعد جهود متميزة من وزارة البلديات وتعاون الطرف الآخر تلوح في الافق ملامح لحل الموضوع، ولكن نحن - والكلام مازال لعبدالعال - نعول كثيرا على موافقة السلطة التشريعية على سن أول قانون وطني لحماية السواحل التي تتعرض حاليا لتجاوزات".


فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟!

فعلا إنها اسيجة تخترق السواحل، وتقتسم حلاوة الماء الضحل. ويصرخ الصياد عندما تجفو العيون ليلا، ليخاطب البحر بترنيمة ايليا ابو ماضي شاعر الطبيعة الملهم:

أنت مثلي أيها الجبار لا تملك أمرك

اشبهت حالك حالي وحكى عذري عذرك

فمتى انجو من الأسر وتنجو؟!

انه سؤال أبو ماضي، وسؤال كل هؤلاء الصيادين البسطاء، وسؤال كل اهالي المنطقة: متى يكسر ساحل دمستان قيوده؟ جواب قد لا نجده الا في قلوب في بعض الناس طالما يجفو القانون في دولة القانون ردحا من الزمن

العدد 1066 - السبت 06 أغسطس 2005م الموافق 01 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً