ليس عيبا أن يفرح أهل غزة ومعهم أهل فلسطين برحيل الاحتلال وانسحابه القهري التكتيكي من المستوطنات المقامة على أراضي القطاع، وفي أكثرها خصوبة. فهو منذ زمن بعيد أراد ذلك وكرر حديث الانسحاب أكثر من مرة، وكان للعمل الفلسطيني المقاوم تأثيره المباشر في عملية تسريع الانسحاب. ولولا المقاومة الفلسطينية الفعالة لما جاء الانسحاب ولما قال شارون "خطوة الانسحاب مؤلمة بالنسبة إلي بشكل شخصي... الجيش سيعيد انتشاره عند حدود الدفاع خلف الجدار الأمني"... وحرص شارون على القول أيضا "إننا نقوم بهذه الخطوة "الانسحاب" انطلاقا من موقع قوة وليس من موقع ضعف ولأن طريق السلام بين الشعبين تحطم على سور الكراهية والتطرف". كلام شارون واضح ويفسر نية الطرف الإسرائيلي في التوجه بعد حصار غزة خلف الأسوار وعزلها عن العالم الخارجي إلى القضايا التي تهم مجتمعه وهي القضايا الاقتصادية والداخلية، ثم إلى القضايا الأخرى الأهم والتي تمس جوهر الصراع مع الفلسطينيين وهي القدس والضفة ومستوطناتها وحق العودة واللاجئين. أما عملية "فك الارتباط" أو "إعادة الانسحاب" فقد أخذت تسميتها من شارون نفسه.
نعم، ليس عيبا أن يحتفل الذين عاشوا تحت الإرهاب الصهيوني 83 سنة بجلاء وحوش الاحتلال عن حياتهم اليومية، وابتعادهم قليلا عن منازلهم وأملاكهم وشرفات بيوتهم وغرف نومهم ومطابخهم وموائدهم، ومدارس وملاعب أطفالهم... ليس عيبا، فهذا حلم بدأ يتحقق بعضه وإن كان ليس تماما كما أرادوا أو كما تصوروا، لكنه صار حقيقة على الأرض، فالمستوطنات إلى زوال، وقطعان الوحوش الصهيونية سترحل، وحواجز الجيش التي كانت تقسم القطاع ستذهب بلا رجعة وستزول. هذا كله يدعونا للفرح مع أهل غزة ولكن يجب ألا ينسينا الهدف الأهم وما سيليه من حياة تحت الحصار وخلف الأسوار. ويجب ألا يجعلنا نترك عقولنا تنجر خلف فرحة قلوبنا.
لا نعتقد أن أهل فلسطين عموما وغزة خصوصا ستنسيهم الفرحة تلك بأنهم مازالوا تحت الاحتلال، وبأن بناء الجدار تم في رفح، وانتهى العمل به وأصبح جاهزا على الحدود مع مصر. إذ باكتماله سيصبح قطاع غزة الذي يحتفل بالانتصار والحرية مثل سجن كبير خلف الأسوار. إذ لا سلطة للجانب الفلسطيني على المعابر ولا على الأجواء والبحر، يعني سلطة فقط داخل السجن الضخم، إذ ستبقى الحدود برا، بحرا وجوا تحت سيطرة الاحتلال، وهذا يعني أن الصهاينة بانسحابهم خففوا العبء فقط عن كاهل جيشهم الذي كان يحفظ أمن قطعان الإرهاب الاستيطانية المستوردة والمجلوبة من كل بقاع الكرة الأرضية. ويعني كذلك أن على الجانب الفلسطيني بشقيه الرسمي والفصائلي عدم المبالغة بتلك الاحتفالات وبالمظاهر التي تجعل العالم الخارجي يعتقد أن شارون وجيشه الهمجي وسلطته العنصرية واحتلاله البغيض أعادوا فعلا الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحققوا الرغبة الدولية في الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن القطاع تحرر تماما، إذ لا القطاع تحرر من الاحتلال ولا الاحتلال زال منه، لأنه تحرر فقط من الداخل لكنه مازال محتلا ومحاصرا ومطوقا من الخارج، وسيكون تحت رحمة جندي صهيوني على معبر ايريتز ومجندة صهيونية على معبر رفح. وواجب كل فلسطيني أن يبدأ منذ الآن حملة مضادة تؤكد عدم زوال الاحتلال تماما وعدم وجود سيادة للفلسطينيين على قطاع غزة وفضح مشروع تجزير وتقسيم الأراضي الفلسطينية وجعلها بضعة جزر معزولة وغير مرتبطة ببعضها بعضا.
على الفلسطينيين الاحتفال بزوال بند أساسي في الحلم الصهيوني وسقوطه تحت أقدام أطفال غزة وبساطير شهداء القطاع وكل فلسطين. وهو حلم الآباء المؤسسين لكيان صهيون في فلسطين، حلم أمثال شارون من قادة المشروع الاستئصالي العنصري في كيان "إسرائيل" الدخيل، حلم "إسرائيل الكبرى"، إذ اقتنع شارون ومن هم على شاكلته بأنه لم يعد ممكنا تطبيق حلم دولة "إسرائيل" من الفرات إلى النيل. لذلك نراهم اليوم يعيدون الانسحاب من القطاع ويخلون مستوطناته دونما تحديد وترسيم للحدود، ودونما ترك أي ممر أو طريق يصل القطاع بالضفة الغربية. يتركون غزة بعد 83 سنة من الاحتلال الذي كان يواجه بالمقاومة. يتركون الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع من دون تواصل جغرافي، مقسمة ومجزأة. يتركونها أولا وأخيرا تحت ضغط المقاومة وبفعل الكلف الباهظة لوجودهم هناك. فالانسحاب من داخل القطاع سيخفف عن كاهل الاحتلال كثيرا، لأن الأخير سيتجه بقوته ووقته وإمكاناته لحل مسائل أخرى، مثل قضايا الضفة ومستوطناتها والقدس واللاجئين وحق العودة والوضع الإسرائيلي الاقتصادي بشكل أساسي والداخلي عموما.
نضال حمد
العدد 1085 - الخميس 25 أغسطس 2005م الموافق 20 رجب 1426هـ