أكد عميد البحث العلمي بجامعة البحرين والباحث التربوي عبدعلي محمد حسن أن التربية لدى الإمام علي "ع" تستمد مبادئها وأهدافها من فكر الإسلام الذي وعاه كل الوعي، وأضحى هو نموذجه الواقعي، فحيث يراد معرفة الإسلام الأصيل، يطلب في سلوك علي وقوله وفعله. وأضاف: "ان المتأمل لوصايا الإمام علي ورسائله وخطبه ومواعظه المتعددة التي دونها التاريخ، يستخلص منها مبادئ وأهدافا للتربية، وإجراءات عملية واقعية تمكن المربين من تطبيق تلك المبادئ وتحقيق تلك الأهداف".
جاء ذلك خلال المحاضرة التي ألقاها مساء الخميس 25 أغسطس/ آب الماضي في مركز شباب رأس الرمان الثقافي، والتي تناول فيها بعض ملامح نهج الإمام علي "ع" التربوي.
أهمية القدوة الصالحة
فعن أهمية القدوة الصالحة في منهج الإمام علي التربوي قال حسن: "إن الإمام علي أكد في منهجه أن من يتكفل بشأن التربية يجب أن يكون نموذجا يقتدى بقوله وفعله في الأخلاق التربوية، والمعلم المربي قائد من قادة المجتمع وموجه رئيسي في مجال الأخلاق، وعليه أن يكون قدوة في قوله وفعله". يقول "ع": "من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم".
كذلك من تلك الملامح أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وأين وجدها أخذها، فالعلم والحقيقة العلمية ضالة المؤمن أين وجدها أخذها، ومن أي كان، لا تفريق بين أن تكون وطن الطالب أو في وطن بعيد عنه، ولا فرق بين أن تكون لدى مؤمن، أو غير مؤمن، طالما أن الهدف هو طلب الحقيقة العلمية. ويقول "ع" في هذا الصدد: "خذ الحكمة أنى كانت، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن". وقال: "الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق".
كذلك من تلك الملامح قول لا أعلم: إذ ينبغي للمعلم أن يعترف بالقصور وأنه لا يعلم كل شيء، بل يجب عليه أن يقول لا أدري، إن سئل عن شيء لا يعرفه. يقول "ع": "من ترك قول: لا أدري، أصيبت مقاتله".
هذا إلى جانب أهمية التطبيق العملي للمعرفة العلمية، إذ يجب أن تتحول المعرفة النظرية إلى سلوك عملي لتكون هذه المعرفة جزءا من كيان هذا الإنسان، لا أن تبقى ألفاظا وعبارات تقال من دون تطبيق على أرض الواقع. يقول "ع": "أوضع العلم ما وقف على اللسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والاركان". وفي وصيته لابنه الحسن يقول: "واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه".
التركيز على مضامين المعرفة
وعن أهمية التركيز على مضامين المعرفة والتعجيل بعملية التعلم مع الاستفادة من تجارب الآخرين والتلطف في عملية التعليم، أضاف حسن: "ان الإمام علي أشار إلى أهمية أن يركز المعلم على مضامين المعرفة بدلا من التركيز على أسانيد نقلها، لأن ذلك يعني التفكير والتعقل في مضمون الخبر والرواية. يقول "ع": "اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل".
وينبغي الإسراع بعملية تعليم الطفل منذ صغره، لأن هذه السن أفضل للتعلم، ولأن الطفل فيها يكون أكثر قدرة على التعلم، يقول "ع" في وصيته لابنه الحسن: "وانما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك".
كذلك مع تأكيد عملية التفكير والاستنتاج والتأمل في مضامين المعرفة، يجب الاستفادة القصوى من تجارب الآخرين والانفتاح على خبراتهم المفيدة، يقول "ع": "لتستقبل بجد رأيك من الزمر ما قد كفاك أهل التجارب بعيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه".
ويجب أيضا أن تبنى عملية التعليم والتعلم على العلاقة الوطيدة بين المعلم والمتعلم، ويجب أن تسود علاقة الحب والاحترام المتبادل بينهما. نلمس هذا من الخطاب الصادر عنه إلى أبنائه وتلامذته. مثلا في وصيته لابنه الحسن يبدأ بتقديم ثري للموضوع ويتلوه بتبيان الهدف في كلمات مؤثرة تبرز العلاقة الحميمة بينهما. ننقل بعض نصوص رسالته إلى ابنه الحسن "ع": " من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الدام للدنيا، الساكن الموتى، الظاعن عنها غدا، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك غرض الأسقام، رهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وحليف الهموم، قرين الأحزان، ونصب الافات، وصريع الشهوات وخليفة الأموات".
إظهار حب العلم
وتحدث عن إظهار حب المعلم وحرصه على المتعلم مع التركيز على الجوانب القيمية والأخلاقية في منهج الامام علي التربوي بقوله: "ان نهج الإمام علي التربوي أكد إبراز جانب الحب والمودة، والإخلاص لدى المعلم نحو تلميذه، ويتجه ذلك إلى استثارة العواطف والميول والاهتمامات، نلحظ ذلك واضحا في النص الآتي: "أما بعد، فإن فيما تبينت من ادبار الدنيا عني، وجموح الدهر علي، وإقبال الأخرة إلي، ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير اني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني رأيي، وصرفني عن هواي وصرح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب.
ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت، إليك كتابي هذا، مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت. فإني أوصيك بتقوى الله - أي بني - ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله عزوجل إن أنت أخذت به!".
كذلك التركيز على الجوانب القيمية والأخلاقية، اذ ركز نهج الإمام علي "ع" على الاهتمام بالبناء الوجداني، فضلا عن الجانب العقلي الذي أشرنا إليه سابقا، وأوصل رسائل قيمية بليغة إلى المتعلم من خلال الحقائق المشاهدة. والنص الآتي: "أحي قلبك بالموعظة، وأته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر ما فعلوا عما انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا! فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة، وحلوا دار العربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم.
فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وانكر المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومه لائم، وخض العمرات إلى الحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعود نفسك الصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبر والجىء نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهم وصيتي، ولا تذهبن "عنك" صفحا، فإن خير القول ما نفع".
العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ