العدد 1100 - الجمعة 09 سبتمبر 2005م الموافق 05 شعبان 1426هـ

سناباد... القرية التي أصبحت مشهد غريب طوس

قرية صغيرة منسية، في الطرف الشمالي الشرقي من إيران، ما كان ليظهر اسمها لو لم يقض الإمام الثامن لدى المسلمين الشيعة فيها مسموما عن 55 عاما، على يد الخليفة العباسي المأمون. .. وبسبب قبر حفيد الرسول، تحولت "سناباد" إلى مشهد... حيث مهوى قلوب الملايين. في كل عام يفد عليها 12 مليون زائر، من داخل إيران وخارجها، في ثلاثة مواسم سياحية تغص بهم فنادق وشقق المدينة: في شهر محرم حيث ذكرى عاشوراء، وفي عيد النوروز الايراني، وفي العطلة الصيفية من كل عام. في هذه المواسم الثلاثة، يزيد الضغط على المرافق والخدمات والسكن، وترتفع الأسعار بشكل كبير، ويقع الزائر ضحية قانون العرض والطلب الذي لا يرحم، بدءا من السكن وانتهاء بوجبات الطعام وعلب الماء والخضراوات والفواكه، حتى الهدايا والتحف والحلويات التي سيتحف بها الزائر أهله بعد عودته إلى بلاده!

شرائح السياح

مشهد، على رغم أن العدد الأكبر للزوار يأتي من داخل إيران نفسها في حركة سياحة دينية نشطة جدا، "هناك 15 رحلة يومية بين طهران ومشهد فقط"، فإن هناك أعدادا أخرى من مختلف قارات العالم، على رأسها دول الجوار: دول الخليج العربية، باكستان، أفغانستان، أذربيجان، الهند، لبنان وتركيا... وتميز هذا العام بزيادة نسبة الزوار القادمين من العراق، كثير منهم من طبقات مقتدرة اقتصاديا. في إحصاء لمكتب العلاقات العامة لشئون الزوار الأجانب، نكتشف ان عدد القادمين من قارة آسيا في العام 2004 بلغ ،190112 ومن أوروبا ،3748 ومن أميركا ،753 ومن إفريقيا ،693 ومن القارة الاسترالية والاوقيانوس .151 اللافت أن عدد الزوار من البحرين زاد من ،10525 إلى 25 ألف هذا العام حسب تصريح السفير الإيراني لـ "الوسط"، مقارنة بعدد الزوار من السعودية العام الماضي ،13200 فيما سجل العراق عدد .99616

قصة قرية "السناء"

أصل الحكاية يعيدنا إلى إحدى فترات التاريخ الاسلامي المهمة، وتحديدا في عهد هارون "الرشيد"، الذي لجأ في مواجهة أئمة أهل البيت النبوي إلى المطاردة والسجن والاعتقال، ومصادرة أموالهم حتى أرسل أحد جلاوزته، ويدعى الجلودي، إلى دار أبناء أبي طالب بالمدينة المنورة لسلب نسائهم، وألقى بأبرز زعمائهم الامام موسى بن جعفر الكاظم "ع" في السجن لمدة 15 عاما. وكان من جراء هذه السياسة القمعية أن تفجر العالم الاسلامي بالثورات وحركات الاحتجاج التي قادها العلويون، كما نقرأ تفاصيلها في كتاب مثل: "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الاصفهاني. بعد رحيل هارون، شهدت الخلافة صراعا عنيفا بين ولديه الأمين والمأمون، انتهى بانتصار الأخير وتعليق جثة الأمين على أحد أبواب بغداد. ولاحتواء الساحة المضطربة بالثورات وامتصاص نقمة العلويين، استدعى الامام علي بن موسى الرضا "ع" ليكون وليا للعهد، الذي رفض العرض بشدة، فلجأ المأمون إلى إجباره، فقبل ولاية العهد على مضض بعد تهديده بالقتل، بشرط "ألا يحل ولا يعقد". وعليه انتقل الإمام إلى مرو، عاصمة خراسان. بعد عامين من الإقامة فيها وما لقيه الإمام من حفاوة وتعاطف جماهيري، خرج معه المأمون إلى بغداد، وعندما وصل الموكب إلى سناباد، القرية الصغيرة المنسية القريبة من "طوس"، قدم له المأمون السم ليتخلص منه، إرضاء لقومه العباسيين الرافضين لتنصيبه وليا للعهد من الأساس، وليدفنه في بستان لحميد بن قحطبة، إلى جوار قبر أبيه هارون "الرشيد" العام 818م "203هـ". هذا البستان تحول إلى مزار يؤمه عبر القرون محبو الإمام الذي اكتسب في وجدانهم لقب "غريب طوس"، لتتحقق النبوءة التي أطلقها الإمام يوما ما: "لا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري...". ومع اهتمام بعض الملوك في بعض فترات الانفراج التاريخية بالمقام، أصبح من أعظم وأروع التحف المعمارية التي تبهر عظمتها العيون، فهو يقارب الحرم المكي أو مسجد الرسول الأكرم "ص" في المدينة المنورة مساحة أو اتقانا وأبهة. ولاغرابة في ذلك، إذ أصبح الحرم الرضوي بوتقة تختزل الفن الايراني العريق ونتاج إبداع عدد ضخم من الفنانين والمهندسين والمعماريين والحرفيين والخطاطين. هذه العمارة أصبحت عنصر جذب للسياح الأجانب من قارة أوروبا وأميركا واستراليا، ينظم لهم مكتب العلاقات الدولية زيارات خاصة لبعض المواقع في الحرم الرضوي، مع شرح مفصل يتولى تقديمه مرافقون بلغات أجنبية: الانجليزية والفرنسية والالمانية والأوردية، مع توزيع كتب متنوعة ثقافية وسياحية ودينية عليهم، وعرض أشرطة سينمائية. على ان الحرم ليس مزارا فقط، فإضافة إلى البقعة التي تضم القبر الشريف، والتي يكثر فيها المصلون والمبتهلون وقارئو القرآن والركع السجود، هناك عدة صحون "أفنية": انقلاب "الثورة"، آزادي "الحرية"، الخميني، تقام فيها صلوات الجماعة، وتلقى فيها محاضرات دينية وتقام مراسم خاصة في مناسبات وفيات ومواليد أئمة أهل البيت النبوي الشريف، فضلا عن برامج ثقافية ودينية ومراسم الدعاء ليالي الجمعة. وتنتشر بين الصحون دورات المياه ومحلات الوضوء بما تمثله من مسطحات مائية تلطف الجو في فترة الصيف. أحدث الأفنية هو الصحن الجمهوري الذي أقيم بعد الثورة الاسلامية، والذي أصبح محل اجتماع الزوار العرب الخليجيين والعراقيين في موسم العطلة الصيفية. وشهد هذا العام إقبالا خاصا لوجود بعض المحاضرين من دول المغرب العربي غالبا ما يقدمون بعد صلاة العشاء قراءة للتاريخ الاسلامي ممزوجة بتجاربهم الشخصية في التحول إلى مذهب أهل البيت.

متحف ومدارس ومكتبات

من المعالم الرئيسية مضيف الامام الرضا، وهو عبارة عن مطعم كبير يستوعب المئات يوميا إيرانيين وأجانب، ويقدم وجبات الطعام التي يتهافت عليها الناس تبركا. وهناك مسجد جوهر شاد التاريخي، وهو مسجد أثري باهر العمارة، بنته العام "1437م - 841 هـ"، ابنة شاهرخ ابن تيمور، ومكتبة مسجد جوهر شاد، كما يوجد مقام الشيخ الطبرسي المعروف بشيخ الطائفة، إلى جانب مقام المحدث والفقيه الحر العاملي "توفي 1692م - 1104هـ"، ومقام الشيخ البهائي "توفي 1620م - 1030هـ"، وهما عالمان من جبل عامل لعبا دورا كبيرا في تحول إيران رسميا نحو تبني المذهب الشيعي، إذ كانت المذاهب الإسلامية الأخرى هي التي تسود إيران قبل تلك الفترة . كما توجد في محيط الحرم الرضوي مدارس إسلامية عدة، وجامعة اسلامية، ومستشفى عام، ومقر للشرطة وأكثر من مكتبة اسلامية حديثة، إضافة إلى متحف مكون من أربعة أدوار، يضم معروضات قديمة متنوعة، يعود أقدمها إلى أيام الامام الرضا، وأحدثها إلى بدايات الثورة الخمينية.

خراسان

محافظة خراسان، الواقعة شمال شرقي ايران، يزيد تعدادها عن 6 ملايين نسمة، ومساحتها 302,915 ألف كم مربع، وتحتوي على 60 مدينة و212 قرية. وفي هذه المحافظة تقع مشهد، إلى الجنوب من سلسلة جبال هزار مسجد، وهي حقيقة يمكنك ملاحظتها بسهولة حتى لو كنت ضعيفا في مادة الجغرافيا، بمجرد اقتراب الطائرة من الهبوط في مطار الشهيد هاشمي نجاد الدولي، وهي تبعد عن طهران العاصمة 912 كم، ويقارب تعداد سكانها 4 ملايين نسمة تقريبا. المدينة يميل عمرانها إلى البساطة، على رغم وجود حركة بناء فنادق جديدة لملاقاة الطلب المتزايد في المواسم الثلاثة، فالمباني في غالبيتها لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة أدوار. وتتميز المدينة بروحانيتها. وعلى رغم الجهد المبذول لتقديم ما يمكن لخدمة الزوار في إطار الحرم الرضوي، فإن الوصول إلى درجة مرضية سياحيا مازال هدفا بعيدا، فمازال هناك الكثير مما ينبغي إنجازه سياحيا للارتقاء بصناعة السياحة حتى في المدن المقدسة، بدءا من مستوى الخدمات في الفنادق والشقق المفروشة، وانتهاء بتسعير خدمات سيارات الأجرة والمواد الغذائية والاستهلاكية، كيلا يتعرض الزائر الغريب للاستغلال. فالكثير من الزوار، بالذات الخليجيين، يشكون من بعض "الجفاف" أو سوء المعاملة، إن لم يكن الابتزاز أحيانا من بعض الباعة أو أصحاب الفنادق عندما يكتشفون ان هؤلاء الزوار يتكلمون العربية، وهي ظاهرة غير صحية تزعج الزائر وخصوصا إذا كانت زيارته هي الأولى. ظاهرة أخرى قد تصدم الزائر الخليجي، خصوصا إذ كانت زيارته هي الأولى، هو ما يعتبره ضعف الالتزام بالحجاب الاسلامي في أول جمهورية اسلامية في العصر الحديث، خصوصا كلما ابتعدت عن المدن الدينية، لكن حتى في المدن الدينية تلاحظ هذه الظاهرة، ففي الوقت الذي يفرض على زائرة الحرم ارتداء الحجاب، إلا أن هناك نسبة ملحوظة من النساء يتهاون به بعد الخروج من محيط الحرم. إضافة إلى انتشار الأغنيات الشبابية في الأماكن العامة. هذه الملاحظة أرجعها أحد العرب المقيمين في إيران منذ عدة أعوام ويدرس في الحوزة العملية في قم إلى ما أنتجته سياسة الانفتاح التي قادها خاتمي، و"أدت إلى تخريب أخلاقي واسع لنفوس الفتيات والفتيان"، على حد تعبيره، وأعرب عن أمله بأن يوفق الرئيس الجديد في إعادة ترميمه.

بين التقشف والانفتاح

على أن المسألة تتجاوز مسألة المنع والحظر، فالوضع الاجتماعي والاقتصادي في إيران وصل إلى مرحلة بات من الصعب التدخل في "ضبطه" كما حدث قبل ربع قرن. ففي بداية الثورة أعرب الإمام الخميني عن أمله بأن تلتزم النساء بالحجاب، وتحول هذا الأمل أو "الإرشاد والتوجيه الأبوي" إلى مرسوم حكومي يفرضه القانون. اليوم أصبحت الثورة من حكايات الماضي، وشخصية الإمام غابت عن المشهد السياسي اليومي، وتحولت ايران إلى دولة مستقرة، تفكر جديا في حل مشكلات الاقتصاد والسكن والصحة وارتفاع معدل النمو السكاني. كما لم يعد الوضع النفسي الجماهيري يتقبل حال شد الحزام واجراءات "التقشف" كما كان العام ،1979 كما أن التقشف الثوري حال مؤقت، إذا أمكن بعض الافراد تحمله فإنه لا يدوم على مستوى الشعوب. من هنا يمكن أن يعيد الزائر الخليجي تصوراته المسبقة، ويعيد تركيب الصورة في ذهنه، بعد أن تصدمه ظواهر التسيب في الالتزام بالحجاب أو انتشار الأغنيات في "جمهورية اسلامية"، تماما كما يحدث في أي بلد نفطي خليجي. مقابل هذا الواقع غير المقنع لل

العدد 1100 - الجمعة 09 سبتمبر 2005م الموافق 05 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً