ولد للحياة وهو يبتسم، يداعب الشمس ويرقص معه القمر على ضفاف وطن جميل. .. فجأة انكسر الحلم وتلاشت الابتسامة من شلل أطفال أكل رجله اليمنى... وعلى رغم ذلك لم تنكسر إرادته فراح يطوق شمس البحرين بعشرات الميداليات الذهبية وراح يزرع في كل عام من عمره كأسا على جبين الوطن ليرى البحرين شامخة في المحافل الدولية... جلست معه... كان يتحدث بلغة جنائزية مكتنزة بوجع المعيشة وضعف الحال وقساوة الزمن... خنقته العبرة في أكثر من موقع حين أسأله وكأني انبش جرحا تختبئ خلفه آهات رياضية وأوجاع وطنية. انه نور الوداعي صاحب الـ 27 ربيعا التحق بالاتحاد البحريني لرياضة المعوقين العام 1993م فحقق أكثر من معجزة رياضية. ذهبت إليه في بيت ابيه إذ يسكن في غرفة في الطابق الثاني محشورا هو وزوجته وابناؤه في غرفة صغيرة تفاجأت بالمكان إذ الغرفة لا تكاد تستوعب كؤوس وميداليات هذا اللاعب المحترف، فهي تحيطه من كل مكان، على الجهة اليمنى كومة الكؤوس والميداليات الذهبية وفي الجهة اليسرى وفي الشمال والجنوب... كانت الصورة التراجيدية المزينة بذهب الانجازات تكفى عن أي سؤال يخطر في البال. سيدنور لا أعرف من أين أبدأ السؤال لكن دعني اسألك من حيث هذه الكومة من الميداليات والكؤوس ما القصة؟ - أنا الذي لا اعرف كيف أبدأ... هذه الكؤوس والميداليات حصيلة عمري... لا تتعجب من كثرتها فما بقي منها سوى النصف والنصف الآخر منها ضاع هنا وهناك. أنا متألم للميداليات التي ضاعت فهي ثمرة تعب السنين العجاف... أنا مهووس بالبطولات وفي كل عام أخذ على عاتقي مهمة ان احفر اسم البحرين في ذاكرة الشعوب التي اذهب إليها... يعرفونني في كل مكان وينادوني الاجانب "مستر نور"... حفظوا اسمي وانا احصد كل ذلك لكني كما تراني مرتهن للحزن والوجع اليومي...فعلا انا حزين لكن هذا الحزن يقويني لان احصد مزيدا من الميداليات لوطني. أنا بالميداليات اكسر عقدة العجز لأقول لكل الناس إن الشاب المعوق يستطيع ان يحقق مالا يقدر ان يحققه الإنسان السليم إذا امتلك الإرادة والعزم وهذه انجازاتي بين يديك. ما هي إنجازاتك؟ - الحصول على المرتبة السادسة على العالم في بطولة فرنسا العام 2002م. والأول على العرب في العام 1999 إذ حصلت على 4 ذهبيات التي عقدت في الأردن، والأول على الخليج محتكرا للرقم من العام 95م إلى 2003م، فأنا الأول في ذلك على الخليج العام 1995م والعام 1997م والعام 1999م وفي 2001 و2003م. إضافة إلى ذلك حصلت على المركز الأول على العرب في الدورة المغاربية العام 1995 وحصلت هناك على ثلاث ميداليات ذهبية وقمت بتحطيم ارقام الخليج لعام 1997م واضيف لك شيئا آخر إذ حصلت على شهادة السجل الذهبي في العام 2001م واستطعت ان احطم الرقم المحلي في مسافة 100 متر في العام 1995م. وتأهلت للمشاركة في اولمبياد اتلانتا في سباق 100م والتأهل إلى دور ما قبل النهائي وشاركت في بطولة الخليج الثانية في الرياض وحققت ذهبية 100م و200م و400م. شاركت في سباق يوم الجري الأولمبي وحققت المركز الأول. وحصلت على شهادة السجل الذهبي الخليجي في 100م وكذلك في 200م، وشاركت في بطولة كرة السلة للكراسي المتحركة التي اقيمت في الكويت وحزت لقب احسن لاعب في مباراة البحرين وقطر. اضافة إلى عشرات الماراثونات التي شاركت فيها واحرزت المركز الأول مثل ماراثون 2001 وماراثون 2002 الخ... ماذا تريدون أن أقول أكثر من ذلك. هل توجد انجازات أكثر من ذلك؟ على رغم ما اعانيه احمل طموح الفوز بالمركز الأول على العالم. هذا ما قدمته ولوطني. لعل ما قلته يعد مفاجأة بالنسبة إليك ان تسمع كل هذه الانجازات لمعوق لكن دعني اصدمك واصدم المواطن البحريني للمفارقة الأخرى. هذه الانجازات وضعتها على الضفة اليمنى وعلى الضفة اليسرى احب ان اقول لكم اني احيانا ابيع و"اسفط" السمك لاعيش بل وابيع " الباقلة والنخج" على الطرقات هنا وهناك فراتبي لا يكفيني لانه لا يكاد يسد رمق الجوع. ولماذا "تسفيط" السمك وبيع النخج؟ - ماذا أفعل؟ انا اعمل في مؤسسة وكل عملي شفتات اسبوع أول الليل واسبوع آخر الليل وراتبي ضعيف وعلي قروض ولا امتلك حتى سيارة وأعيش في غرفة في الطابق الثاني في بيت الوالد. ابي لم يبخل علي بشيء وكان معي طيلة مشوار حياتي لكني الآن رجل ولي انجازات اريد ان اقوم بمهامي، اريد حصيلة ما قدمته لوطني انا معي اطفال اريد ان اوفر لهم حياة سعيدة انا مضطر على رغم اعاقتي ان اخرج تحت هجير الشمس وان اتركهم ساعات طويلة وانا انتقل بين الطرقات علي احظى بزبون يشتري مني بعض ما ابيع. لماذا لم تعمل في القطاع الحكومي؟ - طرقت كل الابواب، شخص يمتلك كل هذا الرصيد الذهبي من الانجازات ليس بحاجة إلى طرق الابواب أو التسكع على عتبات الوزارات، صوري تملأ الصحافة العربية فضلا عن الخليجية فضلا عن المحلية كتبت عني مجلات غربية وعربية ماذا احتاج أكثر من ذلك. كتبت رسائل... يا ناس اريد بيتا يضمني ويضم ابنائي، أريد عملا يقلل من معاناتي... هل هذا كثير على واحد مثلي؟ بالمنطق الإنساني بالمنطق الوطني كلاهما يشيران إلى ذلك. انا احتاج إلى تفرغ كي أكسب مزيدا من الميداليات والانجازات. تصور راتبي ضعيفا وعلي قرض شهري يخصم من راتبي 150 دينارا وهذا القرض اقترضته لأجل زواجي وبعد ذلك جددت القرض لأجل بناء غرفة في الطابق الثاني في بيت الوالد ولك أن تتصور أبا معوقا يسكن في الطابق الثاني. وليس عندي سيارة. هل كل سيارة تصلح لك؟ - أبدا انا احتاج إلى سيارة مجهزة مخصصة لمعوق تماما كما حال اصدقائي الخليجيين فالدولة وفرت لهم سيارات مخصصة. هل يمثل الطابق الثاني أزمة بالنسبة إليك؟ - طبعا، لك أن تتصور مدى مشقة الصعود والنزول من على السلم... هذه الإعاقة أدت مع كثرة حركتي، مع كثرة لعبي، مع كثرة حركتي في الصعود والهبوط إلى تقوس العمود الفقري، تخيل أن رجلا معافى ينزل ويركب من على السلم، فكيف بمعوق؟ أنا أطفالي ينامون أحيانا في الطابق السفلي... أضطر إلى حملهم، إذ أكون أحيانا لوحدي - وحتى لو كان هناك اخواني في البيت ألزم نفسي بحملهم حتى لا يشعروا أني أعاني من شيء... أنا أتألم - وهنا أخذته العبرة - عندما يكون الاولاد نائمين، إذ أضطر إلى إيقاظهم من نومهم، ناهيك عن حمل الحاجات المنزلية عندما أذهب إلى شراء لوازم المعيشة وغيرها. أنا محاصر بين ألم الراتب وقساوة القروض وتعب المعيشة و"الشفتات" وبيع السمك والانتقال من الطابق السفلي للعلوي إلى كل ذلك وعلى رغم ذلك أحصل على هذه الميداليات وهذه الإنجازات... مخطئ من يقول إن المواطن البحريني كسول وخامل ولو فتشت المجتمع البحريني ستجد طاقات عملاقة وطنية تعمل لأجل سمعة هذه البلد، وفوق ذلك هناك أمور لم أذكرها. هل تعلم أنه لا يوجد عندنا نحن معاشر المعوقين اللاعبين قطع غيار لأجل كراسي الجري فلو أصيبت أية عجلة بأي عطب يتوقف كل شيء. هل نوعية الكراسي المتحركة تؤثر على مستواكم أو إنجازاتكم؟ - طبعا، في كل عام هناك كراسي أكثر تطورا كل عام ينزل في السوق "موديل" جديد ونحن باقون على كراسي قديمة. في دورة الخليج خسرنا وحققنا المركز الرابع بسبب سوء الكراسي... كل اللاعبين في الدول الأخرى كراسيهم جدد إلا نحن. سمعت أن أحد المصارف قد يتبرع لشراء كراسي جديدة. أنا أتمنى من المؤسسات الخاصة دعم المؤسسة والاتحاد في ذلك. هل تريد المواصلة وتأمل في الحصول على بطولات عالمية؟ - طبعا هذه اللعبة تسري في دمي لكن أطمح أن أدعم ويوفر لي سكن وعمل، أريد أن أتفرغ، أريد أن أستقر، تتبدل حياتي، أنا عندي صديق أجنبي من سويسرا اسمه هاينز عمره لا يقل عن 50 عاما، وكل سنة وكل عام يفوز في الماراثون، ذلك لأن ظروفه الحياتية مستقرة ومدعوم من الاتحاد ومن الدولة، وله امتيازات خاصة. المعوق في البحرين يعاني كثيرا لماذا لا تخصص في الدفعات السكنية حصص خاصة للمعوقين وكذلك مقاعد في الجامعة ورواتب خاصة لهم. أنا سعدت بما حصل لمركز الشامل للمعوقين عندما كتبتم مقالات في ذلك نتمنى تسليط الضوء على حاجات المعوقين. الدولة إذا وضح لها ذلك لن تبخل علينا بشيء، اتمنى ان تترافعوا عنا في الصحافة وان يترافع المجتمع عن هذه الطبقة المهمولة والضائعة. أين تقوم بالتدريب؟ - احيانا اتمرن في الشارع بعد صلاة الصبح بعيدا عن الازدحام. ماذا تأمل من المؤسسة والدولة؟ - المؤسسة لن تقصر معنا وكذلك الدولة وهذا املنا. اصدقائي المعوقون واللاعبين في الخليج توفر لهم كل الحاجات، يعطون بيوتا وسيارات وبعضهم انجازاتهم متواضعة... انا أمل من القيادة السياسية ان توفر لي سكنا وعملا وانا اعدها بالميدالية الذهبية وبالمركز الأول على مستوى العالم، ومؤسسات الشباب بحاجة ايضا إلى مزيد من الدعم المادي وانا اقدر الضغوط التي يعيشونها ولكن اعتقد انه آن الاوان ان نحظى بالرعاية بشكل أكبر وأنا متفائل بحل لنا نحن اللاعبين المعوقين. انا الان اعاني من اصابة ورجلي تحتاج إلى علاج ونحتاج كلاعبين إلى غذاء متواصل من الفيتامينات والبروتينات واتمنى على الشركات الكبيرة في البلد مساعدة الاتحاد. هل من رسالة تريد إيصالها؟ - املي ان تحقق القيادة السياسية مطلبي في توفير وحدة سكنية كما توفر لي عملا فكل هذه الانجازات التي قمت بها هي لاجل عيون البحرين ولرفع صورة المملكة، حكومة وشعبا في المحافل الدولية وانا اعد المؤسسة وهذا الوطن العزيز ان احقق لهم المزيد من الانجازات اذا استقر وضعي ولقيت الاهتمام المناسب وكلنا فداء لهذا البلد العزيز. عندما جلست مع نور لمحت الوطنية تطل من عينيه وحب البحرين مستقرا في كل نبضة من نبضات قلبه فهو رسول الوطنية وحب الوطن للشباب المعوقون في البحرين يحتاجون إلى رعاية واحتضان. كسر الزمان في عيونهم وردة أمل لكن هناك عشرات الورود التي لو سقيت بماء الأمل ستثمر أوسمة جميلة وميداليات ذهبية وكؤوسا بقامة الوطن ليقول كل واحد منا للأخر: كأسك يا وطني حب وانسانية وعمل
العدد 1123 - الأحد 02 أكتوبر 2005م الموافق 28 شعبان 1426هـ