لعل المراجع لتاريخ البحرين يلحظ كيف تنوعت الاجندة السياسية منذ مطلع القرن الماضي. فالبحرين شهدت اصلاحات ادارية منذ 1919، وتمأسست هذه الاصلاحات الادارية في العام 1923، ومن ثم بدأ عهد النفط في العام 1932. الفترة التي سبقت الاصلاحات الادارية كانت مختلفة في كل شيء تقريباً، وكان المجتمع مقسماً على اساس طائفي صارم وعلني، وكان «شيعة القرى» يخضعون لنظام «السخرة»، وكانوا من دون اي حقوق. الغواصون لديهم مشكلاتهم، والمنامة والمحرق لديهما أنظمتهما الاجتماعية الخاصة بهما. ولكن كل هذه الاوضاع تغيرت بعد اطلاق الاصلاحات الادارية التي أسست أجهزة حديثة للدولة، وأصبح لدى البحرين أنظمة وقوانين وانتخابات بلدية واقتصاد متطور، وفي حينها كان الأكثر تطورا من باقي دول الخليج العربية.
أهم ما جاءت به الاصلاحات الادارية في بادئ الامر كان تأسيس البلدية وإدارة «الطابو»، وهي الادارة التي من خلالها يتم تسجيل ملكية الاراضي. فقد كانت الاراضي تضيع، ولم تكن توجد أية محاسبة رسمية، ولكن تسجيل الأراضي وضع حدا لحال غير مقبولة، وبدأت الامور تنتظم قليلا. وفي العام 1926 شهد تعيين تشارلز بليجريف مستشارا لحكومة البحرين، وهذه الفترة كانت قد شهدت تشكيل عدة مجالس ودوائر، مثل مجلس التجارة ومجلس شئون الغوص، ومجلس الزراعة ومجلس الأوقاف السنية والجعفرية والشرطة والجمارك والهجرة والمحاكم. وربما كانت أفضل الإدارات (في هذه الفترة) هي المجلس البلدي، الذي أصبح في العام 1926، يتكون من عشرين شخصا، عشرة منهم يعينهم الحاكم والعشرة الآخرون تم انتخابهم من قبل أهالي المنامة.
في العام 1932، اكتشف النفط في البحرين، وبدأ الاقتصاد يتغير مع تكون الطبقة العاملة. وفي العام 1935، نقلت بريطانيا قاعدتها العسكرية من إيران (بوشهر) إلى قاعدة الجفير بالبحرين. وبعد ذلك بفترة أنشأت قاعدة المحرق الجوية التابعة للقوات الملكية البريطانية (الاريف).
في النصف الثاني من الثلاثينات، بدأت النوادي في الظهور وأصبحت مركزا للنشاطات الثقافية والاجتماعية. دخلت البحرين عهد النفط مع انتشار اللؤلؤ الصناعي الياباني أثرا كبيرا، الذي أدى لاهتزاز موقع تجارة اللؤلؤ وظهور صناعة النفط باعتبارها بديلاً رئيسياً للثروة الوطنية.
في 1938 ظهرت على السطح أول حركة وطنية تجمع مكونات المجتمع البحريني. فقد تصدرت شخصيات مثل علي بن خليفة الفاضل ومحمد الفاضل وخليل المؤيد، يوسف كانو وعبدالرحمن الزياني، وسعد الشملان، وأحمد الشيراوي محسن التاجر، محمد علي التاجر، السيد سعيد بن السيد خلف، عبدعلي العليوات، منصور العريض، السيد أحمد العلوي، والشيخ عبدالله بن محمد صالح، حاجي أحمد بن خميس حركة طرحت مطالب اصلاحية واضحة تتمثل في تكوين مجلس تشريعي منتخب (برلمان)، وإصلاح جهاز الشرطة والمحاكم، وإعطاء المواطنين الأولوية في التوظيف وتحسين الرواتب، وإنشاء نقابة عمالية.
سارعت الحكومة لاعتقال كل من سعد الشملان وأحمد الشيراوي وعلي بن خليفة الفاضل وقدمتهم الى المحاكمة وصدرت ضدهم أحكام جائرة تتراوح بين شهر واربع سنوات، وبعد فترة تم نفيهم إلى الهند.
المطالب الديمقراطية ليست وليدة جديدة، وهي تمتد بعمقها التاريخي لتشمل كل ابناء البحرين منذ العام 1938. وقد تكررت الحال في انتفاضة الخمسينات (بين 1954 - 1956) عندما تكونت هيئة الاتحاد الوطني التي رفعت المطالب ذاتها، حتى تم قمعها في ديسمبر / كانون الاول 1956، ومن ثم اعلان حال الطوارئ التي استمرت من خلال قانون الأمن العام 1965 ومن قانون أمن الدولة 1974، الى حين الغائه في فبراير / شباط 2001.
صحيفة «فايننشال تايمز» الصادرة في 31 مايو/ أيار 1983 نقلت أحاسيس الشارع البحريني عندما قالت ان «الموضوع الرئيسي المطروح في الساحة السياسية في البحرين هو السؤال فيما إذا كانت الحكومة ستعيد الحياة للمجلس الوطني». وتقول الصحيفة « هذه التكهنات تزداد مع الحوادث، مثل تعيين مجالس شورى في قطر وعمان (في تلك الفترة) بالإضافة لإعادة تعيين مجلس شورى في الإمارات وعودة مجلس الأمة المنتخب في الكويت». واستنتجت الفايننشال تايمز قولها «ليس من السهل أن تجد شخصاً واحداً سواء كان من العائلة الحاكمة أو خارجها من يستطيع معارضة عودة البرلمان. ففي البحرين يشعر الناس بضرورة تحررهم».
وعندما سألت «فايننشال تايمز» بعض المسئولين - حينها - عن تصوراتهم عن عودة البرلمان كان الجواب «إن عودة البرلمان ستؤدي الى التدخل في شئوننا الداخلية»، وانه «سيعطل مسيرة التنمية».
بعد انتهاء الغزو العراقي للكويت في العام 1991، واكتساح الرياح الديمقراطية لأجزاء كبيرة من العالم بدأت النخبة السياسية في البحرين التحرك للتعبير عن إرادة الشعب ومطالبه الحقوقية، ونتج عن ذلك عريضة نخبوية وقع عليها أكثر من 300 شخصية في العام 1992. وتصدر العريضة لجنة مثلت الاتجاهات الفكرية الإسلامية والوطنية ومثلت كذلك مجتمع البحرين. وعبرت العريضة عن الطرح المتقدم للمعارضة الوطنية التي قادت الحال السياسية إلى نهج دستوري حقوقي معتدل. وبعد ذلك شرعت النخبة السياسية ذاتها لطرح المطالب السياسية على الجماهير واستطاعت في العام 1994، الحصول على 25 ألف توقيع من المواطنين يطالبون بعودة الحياة البرلمانية وحكم القانون الدستوري وإعطاء المرأة حقها السياسي وإنقاذ البلاد من التراكمات السيئة الناتجة عن منع الحريات العامة.
بعد ذلك انفجرت الاوضاع في ديسمبر 1994، وذلك عندما قررت قوات الأمن حسم المطالب السياسية من خلال قمع الناشطين السياسيين، ما أدى لخروج الجماهير إلى الشوارع، لا بتخطيط من المعارضة وإنما كردة فعل على استخدام العنف والقوة من قبل أجهزة الأمن، بحسب وجهة النظر السائدة بين المعارضين.
غير ان الجهاز الأمني تبنى حينها استراتيجية ركزت الضرب على الوتر الطائفي لتقسيم النخبة السياسية، وبهذا ارادت تحقيق عدة أهداف. فمن جانب فإن الأجهزة لامنية ستتحدث عن ارتباط الشيعة بالخارج، ومن جانب آخر ستعزل السنة بعدم استهدافهم في القمع، وذلك بعكس ما حدث في الثلاثينات والخمسينات من القرن الماضي.
الصحافي بيتر والدمان أشار في تقريره من البحرين الذي نشر في «وول ستريت جورنال» بتاريخ 12 يونيو / حزيران 1995، الى ان «المطالبة بالديمقراطية وحدت الطائفتين المسلمتين، ففي ربيع هذا العام طلبت شخصيات شيعية وسنية مرموقة اللقاء بالمسئولين لمناقشة الأوضاع، ولكن طلبهم رفض. وفي المقابل، اجتمع المسئولون بصورة منفصلة مع مجموعة من كلتا الطائفتين. وبحسب ما قاله الذين حضروا الاجتماعين، فإن المجموعة السنية تم الحديث معها بلطف وأخبروا بأن الشيعة قد تمت السيطرة عليهم. أما المجموعة الشيعية فإنهم أمروا بلهجة شديدة بأن عليهم ايقاف العنف فورا، وقبل الحديث عن أي موضوع».
ضغط المعارضة باتجاه المطالب الديمقراطية استطاع ان ينتصر على كثير من العقبات، وهو ما تؤكده تصريحات من مؤسسات دولية، وحتى من مسئولين في دول صديقة للحكومة البحرينية. ففي 3 يونيو 1997 (بعد عام واحد بالضبط من إعلان الجهاز الأمني اكتشافه لمؤامرة قلب نظام الحكم) صرح وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط ديريك فاتشت بأن «المعارضة في البحرين معتدلة ومطالبها معتدلة». وفي 24 يوليو / تموز 1997، اصدرت منظمة هيومن رايتس ووج الاميركية تقريراً مهماً احتوى على 109 صفحات من الوثائق التي تدعم الحركة المطالبة بالديمقراطية.
وفي 21 اغسطس / آب 1997 أصدرت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إدانة لانتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، وطالبت حكومة البحرين بإعادة البرلمان المنتخب واحترام حقوق الإنسان، كما طلبت اللجنة الفرعية من مفوضية حقوق الإنسان إدراج موضوع انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين خلال الاجتماع السنوي للمفوضية. وفي 18 سبتمبر / أيلول 1997، أصدر البرلمان الأوروبي إدانة مماثلة دعا فيها حكومة البحرين لإعادة الحياة البرلمانية، واحترام حقوق الإنسان، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة المنفيين، وفتح حوار مع المعارضة لحل الأزمة السياسية.
ولكن الارهاصات التي تعرضت لها الساحة السياسية في البحرين انتجت الكثير من ردود الفعل، ودخلت المعارضة - بشتى صنوفها - في مآزق طائفية حقيقية حدت من قوة نجاحاتها. وعلى رغم ان كثيرا من التهويل صاحب بعض مجريات الامور، فإن الوقت حان لمراجعة كثير منها لكي تستفيد البحرين من تجاربها الماضية بهدف دعم المشروع الاصلاحي الذي قاده جلالة الملك حمد بن عيسى ال خليفة منذ الاستفتاء والتصديق على ميثاق العمل الوطني في فبراير 2001
العدد 1264 - الإثنين 20 فبراير 2006م الموافق 21 محرم 1427هـ