«لَقَد رَجوتُ اللهَ سُبحَانَهُ، وأرجوه أَبَدَاً، أن أَكونَ لا عَلىَ مِلكِ أَحَدٍ مِن الناسِ، وأَن أَكونَ عَلى حُكمِ مِلكِهِ تعالى، ورَجَوتُهُ وأَرجوهُ تعالى أَن يـُبقيَ على مِلكي التامِ، تِلكَ الـمَسافَةَ الصغيرةَ التي لا تَتَجاوزُ حَجَمَ الـحَصاةِ، والتي تَقَعُ بَينَ سِنِ القَلَمِ وسَطحِ الوَرَقِ، وأَن يُبقيَهَا لي حَرَمَاً آمِنَاً، لا تَنفَتِحُ لِغَيرِ النظَرِ والفَهمِ، ولا تَنفَتِحُ لِدَخَلٍ أَو غَصبٍ أَو غِوايَةٍ. وفي النِهايةِ، يَرِدُ الصوابُ والـخَطَأُ، صَوابُ مُجتَهِدٍ وخَطَأُ مُجتَهِدٍ، واللهُم هَذا قـَسَمي فيما أَملِكُ فلا تُؤاخِذني فيما لا أَملِكُ، وِممَّا زَاغَ عَنهُ البَصَرُ، أَو غَفَلَ عَنهُ الـخَاطِرُ، أَو ندَّ عَنهُ الفِكرُ، أو قَصُرَ عَنهُ الفَهمُ».
المستشار طارق البشري
بهذه العبارة يصدر ممدوح الشيخ كتابه عن المستشار طارق البشري، وقد كان اسمه في الثقافة العربية يستدعي إلى الذهن تاريخه كقاضٍ وصل إلى منصب نائب رئيس مجلس الدولة بمصر، كما كان يستدعي بالقدر نفسه عطاءه كمفكر بدأ يسارياً ومر بمراجعة فكرية شهيرة انتقل بعدها إلى المعسكر الإسلامي. لكن ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني أضافت صفحة جديدة إلى الكتاب الحافل بالمعالم المهمة، عندما كلفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة لجنة قضائية تولت إدخال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها في التاسع عشر من مارس/ آذار. وبين التكليف والتصويت كان اسم طارق البشري يتردد بكثرة في الإعلام المرئي والمسموع.
والمؤلف يقرر في البداية أن البشري يشغل موقعاً مهماً في ثقافتنا العربية المعاصرة، وهو بسمته الهادئ الوقور صوت مسموع وقامة كبيرة، مؤرخاً ومفكراً وداعية إصلاح سياسي. وإذا كان عمله بالقضاء قد منحه لقب «المستشار»، فإن تركه منصة القضاء قد حرره من قيود يوجبها المنصب الرفيع، ليفتح أمامه باباً واسعاً لأن يضيف إلى كتابه الزاخر بالعطاء الفكري صفحة جديدة هي صفحة «داعية الإصلاح السياسي»، وهو مقام نرى أنه - رغم التقدير الشديد لمكانة القضاة - الموقع الأرفع!
وقد أخذ طارق البشري من القضاء سمات صارت - بطول الملازمة - صفات لصيقة بالرجل. وفي تقديري المتواضع فإن طارق البشري دخل عالم التأريخ بأدوات القاضي، وخاض بحار الفكر بحسه الإصلاحي فتأثرت اختياراته ورؤاه إلى حد كبير بحس إنساني/ عميق، فلم يكن أبداً محايداً ولا أداتياً.
ومن تقاليد عريقة تشـرَّبها طارق البشري من مدرستي: العائلة والقضاء أخذ صفة إنكار الذات. وفي المقدمة يتوقف المؤلف أمام ظاهرة عزوف البشري عن كل ما يشير إلى ميل مبالغ فيه لتقدير الذات - شأن كثير من المثقفين - يقول ممدوح الشيخ: وقد بحثت طويلاً عن مصادر تتناول حياة الرجل فوجدتها نادرة ندرة ملفتة حتى التقيت الرجل وسألته فقال لي إنه لم يكتب سيرته الذاتية ولا يفكر في كتابتها، معتبراً أن كتابتها تحتاج إلى قدر من حب الذات لا يجده في نفسه.
وقد لفت نظري أنه في مقال نشر بمجلة «الهلال» الثقافية الشهرية المصرية عبـَّر عن الفكرة نفسها. كان المقال استجابة لطلب المجلة من عدد من المفكرين ليكتبوا تحت عنوان «التكوين»، فاستهل المقال بقوله:
«يصعب الحديث عن «التكوين» دون أن يمتد الكلام إلى الذكريات، ولا زلت رغم تقدُّم السن بي معلق البصر بالمستقبل وما يصلح به وما ينبغي فعله، وهذا التوجه لا يتلاءم مع الالتفاف إلى الماضي واستدعاء الذكريات. ولا تزال أجهزة الاستقبال لديَّ أقوى من أجهزة الإرسال».
ويستطرد البشري: «ومن ناحية أخرى لم أعتبر التفكير في نفسي، أرى ذلك نوعاً من إطالة النظر في المرآة مما لا أحبه. والموقف المثالي في ظني أن ننظر في شأن آخر، أي أن «تفنى» (بتعبيرات الصوفية) في موضوع تدرسه أو عمل تؤديه، حتى وإن كان عملاً يدوياً. ومن باب أولى لا أسيغ الحديث عن نفسي، يركبني الحياء وأشعر بعدم الجدوى، وأني أستنفد جهدي ووقت الآخرين في ما لا ينفع». وبسبب عزوف الرجل المشار إليه ولأن الكتاب هو الأول عن طارق البشري - بعد كتاب احتفالي جماعي صدر بمناسبة إحالته للتقاعد، فقد أجرى المؤلف حواراً مطولاً معه في منزله امتد عدة جلسات، ليصبح هذا الحوار مصدراً عن حياته وقد أورده المؤلف كاملاً في نهاية الكتاب.
الفصل الأول «النشأة»، يكشف عن شخصية البشري، التي نضجت مستمدة ماءها من منابع عديدة إنسانية ومهنية وفكرية، وأن ملامحها الرئيسة تشكـَّلت من رافدين رئيسين هما: العائلة والقضاء. وينتسب طارق البشرى إلى عائلة ممتدة كثيرة العدد، متوسطة الحال (مستورة)، عالية القدر في الأدب والعلم، مكانتها الاجتماعية تفوق وضعها الاقتصادي. وحسب وصف طارق البشري نفسه لهذه العائلة فإنه ابن «أسرة مهنية» تنتمي إلى هذه الشريحة الاجتماعية المهنية، بمعنى أنها تعمل بخبرتها المهنية والفنية ترتزق من هذه الخبرة. ويضيف البشري: «كذلك كان أبي معنا وأنا مع أبنائي يشغلنا دائماً كيفية تربية «مهني جيد» وهي مسألة مستهدفة ومتضمنة في مختلف عمليات التربية والتكوين».
وقد كان جد أبيه فلاحاً من أهالي قرية «محلة بشر» وتتبع مركز «شبرا خيت» بمحافظة البحيرة. ويبدو أنه كان رقيق الحال، حتى إنه دفع أحد أولاده للعمل مع جماعة من «عمال التراحيل، يحرس ملابسهم» إذ كان صبياً وقتها، لم يتجاوز العاشرة من عمره. ولم يكن هذا الصبي سوى سليم البشرى الذي أصبح فيما بعد شيخاً للسادة المالكية بمصر، وشيخاً للجامع الأزهر الشريف، وهو جد طارق البشرى لأبيه. وفي محضن هذه العائلة تلقَّـى طارق البشري أول معارفه قبل التعليم النظامي، فقد كان الشيخ سليم البشري «مؤسس عائلة» بالمعنى الدقيق، وفي محضن هذه العائلة تفتحت عيون طارق البشري ومداركه.
ويتوقف ممدوح الشيخ عند قصة «فرار» الجد طويلاً كونها مؤشراً على حضور «الأسطورة» بقوّة في المناخ الذي تفتّحت فيها عينا طارق البشري. فالجدّ، الذي أصبح في ما بعد واحداً من أكثر شيوخ الأزهر شهرة على الإطلاق، لم ينتقل من قلب الريف إلى القاهرة بالتوافق مع مسار نهر الحياة الذي يفرضه السياق الاجتماعي الذي كان آنذاك قوياً إلى درجة تجعل التمرّد عليه والسير «عكس التيار» مغامرة تحتاج شجاعة وخيالاً معاً، بل بالسباحة ضدّه. وخلال مسيرة طارق البشري العائليّة ستصادفنا «الأسطورة» عدة مرات لا شك في أنها خلقت لدى البشري الحفيد - مبكراً - الاستعداد النفسي للنظر إلى الحياة نظرة مثالية لا يقهرها الواقع، بل إن «عباءة» الإمام الأكبر نفسها قد تحوّلت إلى أسطورة متجسدة في حياة الحفيد لسنوات، فتعلّق بها واستلهمها حتى بليت، وإن لم يبلَ أثرها فيه!
وقد كان الدرس الأكثر تأثيراً في طارق البشري في المحضن الأوّل «العائلة» كما يرويه بنفسه قادماً من عالم المُثُل، وهو يدور حول معنى «المعاناة والشموخ ومراعاة كرامة العلم وتبعة خدمة الدين، وصار أشبه بالبداهات أنّ القيمة الاجتماعيّة هي قيمة العلم والموقف، وليست قيمة المال ولا السلطان». وقد ساهمت عدة مواقف حفرت في ذاكرة البشري في تأكيد مركزية فكرة «التضحية» التي تحوَّلت خلال مسيرة طارق البشري الفكرية والشخصية إلى «أسطورة»، حتى أنه أصبح يرى أن «مستقبل أمتنا يكمن في الاستعداد للتضحية».
وعلى جسر التلاقي بين الاستعداد للسير في عكس التيار، وفي الوقت نفسه، الاستعداد للاندراج في التراتبية (كما تعلم من العائلة) بلور طارق البشري توازناً بين عالمي القضاء والفكر، ففي الأول كان رجل تراتبية بامتياز، وفي الثاني كان رجل المواقف الصلبة التي لا تأبه لسطوة ما هو سائد ولا تتردد في مواجهته.
الفصل الثاني «مصادر التكوين الثقافي والفكري»، وفيه تتبُّع للمسار الطويل الذي اتخذته رحلة التكوين وكذلك القيود التي فرضتها عليه مهنته كقاضٍ، فهي منعته من «ممارسات» عديدة يبدي فيها رأيه في الشأن الجاري أو ينخرط في تنظيمات سياسية، لكنها لم تمنعه أبداً من أن يدخل عالم السياسة من بابي: التاريخ والفكر، فاختار طارق البشري موضوعات مؤلفاته التاريخية والفكرية وفقاً لانحيازاته التي لم تجد طريقها للتحقق عبر الانخراط في العمل العام.
ويرى الشيخ أن من السمات المميزة لمسيرة المستشار طارق البشري تأثرها بثنائيات متقابلة: التمرد/ الاندراج - العمائم/ الطرابيش... ومن الناحية الاجتماعية تأثر طارق البشري بثنائية أخرى كان لها أثر مهم ممتد، إذ أمضى طفولته وصباه ومطلع شبابه بين العمائم والطرابيش، في أسرة ممتدة، مترابطة؛ تتغلب فيها علاقات القرابة على الانفراد الطبقي الذي قد يميز بعض أعضائها. فضلاً عن أنه أمضى تلك الفترة بين «المدينة» و «الريف».
ومما يعد جديداً على صورة البشري، التي كشف الكتاب عن ملامحها، أن من المصادر المهمة لثقافته المتعددة الروافد: التصوف، ففي الفترة العلمانية من حياته، ولنحو عشرة أعوام، كان قريباً من الأدب الصوفي، ومنه تعلم: «كيف تـُبنى النفوس». وينقل الشيخ عن طارق البشري قوله: «في المرحلة العلمانية كانت قراءاتي الصوفية مستمرة، وهذا أنظر إليه الآن بدهشة، فهل كان احتياجاً قلبياً؟». ومصادر التكوين الفكري والوجداني والثقافي للبشرى يجد أنها وصلته بروافد التراث العربي الإسلامي من ناحية، وروافد الفكر الغربي الحديث.
الفصل الثالث «البشري قاضياً (وفقيهاً)»، يؤرخ لرحلة طارق البشري مع القضاء حتى تقاعده في يونيو/ حزيران 1998، وربما أفضل تلخيص لهذه الرحلة قول طارق البشري في احتفالية تكريمه إنه بقي سنتين بعد تعيينه في مجلس الدولة يتحسس طريقه ليرى أيكون قاضياً صالحاً أم لا؟ أيؤدي - أو يستطيع أن يؤدي - في مهنة القانون شيئاً نافعاً أم لا؟ قال: «وحين بلغت الثانية والعشرين كنت قد اطمأننت على مسيرتي، فخرجت ذات يوم من مكان عملي إلى مسجد السادة المالكية، حيث قبر جدي الشيخ سليم البشري وصليت هناك - في المسجد - ركعتين، ودعوت الله أن يوفقني، وعاهدته بعهد موسى عليه السلام «رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين» (القصص: 17)
العدد 3161 - الثلثاء 03 مايو 2011م الموافق 30 جمادى الأولى 1432هـ