عادة ما يتم تناقل الأساطير بين الشعوب المختلفة، وبسبب اختلاف الثقافات السائدة بين تلك الشعوب المختلفة فيحدث عادة تحوير في مضمون الأسطورة أو بعبارة أدق إعادة تأويل الأسطورة لتصبح الأسطورة مسايرة للمفاهيم السائدة لثقافة الشعوب التي انتقلت لها. سنتناول في هذا الفصل الأساطير المرتبطة بطائر يعرف باسم «القرلى»، وسنوضح كيف نقلت تلك الأساطير من الثقافة اليونانية إلى العربية والإسلامية بعد أن تم إعادة تأويلها لتوافق الثقافة الجديدة، ولكن قبل أن نتناول ذلك سنتناول أولاً التطور الدلالي لأسماء هذا الطائر سواء كانت الأسماء المحلية أو الأسماء العربية التي ذكرت في معاجم اللغة وكتب الحيوان القديمة.
طائر القِرِلَّى
طائر القِرِلَّى Kingfisher طائر ذو رأس ضخم يتميز عادة بعرف ومنقار خنجري الشكل وذيل قصير وقائمتين خلفيتين قصيرتين ويبلغ طوله تقريباً ما بين 12 سنتيمتراً و45 سنتيمتراً ويتغذى بشكل رئيسي على السمك واللافقاريات. وقد ذكر هذا الطائر في الكتب العربية وكتب الحيوان القديمة بعدة أسماء وقد لخص أسماءه أمين معلوف في معجمه؛ إذ جاء فيه ما ملخصه:
«من أسماء هذه الطيور الواردة في الكتب العربية القِرِلَّى وقيون وقاوند ومازور ورفراف وخاطف ظله وملاعب ظله. والقرلى تعريب Kerulos باليونانية ومنه أيضًا الأسم اللاتيني Ceryle. والاسم قرلى معروف في العراق أما الاسم القيون فهو أيضاً تعريب للاسم اليوناني Alkuone وقد وردت في اللغة برسم «فنون» وهو تصحيف قيون».
وقالت العرب عن هذه الطيور، إنها لا تُرى إلا مرفرفة فسموها الرفراف. وقد زعمت العرب أن هذا الطائر إذا رأى ظله في الماء أقبل ليخطفه فسمي خاطف ظله وملاعب ظله والحقيقة أن هذه الطيور تتميز بأنها ترفرف فوق سطح الماء لفترة ثم تنقض إلى الماء على السمك لتصيدها وقد أدى هذا السلوك بالاعتقاد السائد أنه يلاعب ظله أو يخطفه. وفي بعض الكتب العربية العلمية الحديثة يعمم على هذه الطيور الاسم «صياد السمك» وهذا اسمه العامي في الشام ومصر.
الأسماء المحلية
تعرف هذه الطيور في الخليج العربي بعدة أسماء وقد يسود في منطقة ما في الخليج اسم عامي معين وفي منطقة أخرى يسود اسم عامي آخر، وبسبب تشابه هذا الطائر مع طائر آخر وهو طائر «الوروار» أو آكل النحل فإن هناك أسماء مشتركة بين هذين الطائرين، هذه الأسماء المشتركة هي: الخضيري والقارور، وهذه أسماء في الغالب تخص بها العامة طير الوروار ولكن في مناطق أخرى من الخليج العربي تطلق على القرلى حيث يسمى في الكويت «خضيري الأسياف» وفي مناطق من دولة الكويت ومناطق أخرى من شبه الجزيرة العربية يسمى القرلى بالقارور، وسنخصص فصلاً لمناقشة الخلاف حول الأسماء: القارية والقرلى والقريوي والقارور فهي أسماء متداخلة وبها العديد من اللبس. أما الأسماء العامية التي تخص هذه الطيور فهي الغطاس (الكويت) وسچيچينة (البحرين والكويت) أي سكيكينة تصغير سكين وذلك إشارة لمنقاره الخنجري الشكل الذي شبه بالسكين الصغيرة.
ومن أسماء هذا الطائر في العراق «مهلهل» وفي بيروت «ديك البحر» وفي مصر والشام «صياد السمك».
القرلى في الأسطورة اليونانية
يتميز طائر القرلى بأنه يفرخ في فترة الانقلاب الشتوي ويتزامن تفريخه بفترة هدوء البحر، هذه الظاهرة أو المشاهدة التي شاهدتها الشعوب القديمة في اليونان، وبما أن تلك الشعوب تمتلك خيالاً واسعاً فقد تم تعليل هذه الظاهرة بأسطورة، وقد ذكر هذه الأسطورة أمين معلوف في معجمه وملخص ما ذكره:
«زعم قدماء اليونان والرومان أن القيون أو هلقيون وهي ابنة إيولس إله الريح قد تزوج منها قيكس ابن كوكب الصبح ثم غرق في البحر فحزنت عليه زوجته هلقيون حزنًا شديدًا وجلست على شاطئ البحر تندبه فقذف البحر بجثته أمامها فلشدة حزنها ألقت بنفسها في الماء إلا أن الآلهة أنبتت لها جناحين فتحولت هلقيون إلى هذا الطائر، وعليه استمر والدها إيولس بحبس الرياح فيسكن البحر في زمن تفريخ هذا الطائر لأنه من نسله، ولذلك أطلق عليها اليونان اسم AlKuone من Als أو Hals ومعناها البحر و Kuon أي الحامل والوالدة أو المفرخة ومن ذلك Alcyon و Halcyon و Alcedo باللاتينية. كذلك الاسم العربي القاوند فهو من اليونانية أيضًا ويعني القيون أو هلقيون وهو في الأصل اسم لابنة إيولس التي مر ذكرها. ويسمي الإنجليز أيام القاوند Halcyondays والعبارة كثيرة الاستعمال عندهم ويريدون بها أيام الصفاء والغبطة والسرور، وحرفا الألف واللام في اسم «القاوند» لا للتعريف لكنهما جرتا مجرى «ال» التعريف لاستثقال قولهم. وأصل قولهم أيام القاوند من اليونانية وكانوا يعنون بها أيام هدوء البحر؛ أي أيام تفريخ القاوند ويسمونها باللاتينية Alkuonides.
إعادة تأويل الأسطورة اليونانية
لقد انتقلت تلك الأسطورة اليونانية إلى العرب وأصبح هذا الطائر عندهم من الطيور المباركة لتزامن تفريخه مع فترة هدوء البحر؛ إلا أن مضمون الأسطورة اليونانية لا يتماشى مع الثقافة العربية والإسلامية وكان لا بد من إعادة تأويلها، فالعنصر الثقافي ينتقل من جماعة إلى أخرى أو من جيل إلى آخر كوحدة لها مظهر خارجي مرئي ولكن لها أيضاً جوهر وهو تعليل للمظهر، ومن السهل أن ينتقل المظهر بين الشعوب المختلفة والأجيال المتتابعة إلا أن الجوهر قابل للتغير بحسب العناصر الجديدة المكتسبة أو بحسب الثقافة الجديدة التي انتقل لها. وفيما يخص أسطورة القرلى، يُلاحظ من ظاهر الأسطورة أن الإله يقوم بحبس الرياح فيسكن البحر كرامة لهذا الطائر الذي يفرخ في هذه الفترة، إلا أن تعليل اليونان الوثنيين بوجود آلهة وأن هذا الطائر بنت لأحد الآلهة لا يتماشى مع الثقافة الإسلامية السائدة عند العرب، وبذلك اقتبست العرب مظهر الأسطورة ثم استبدلت التعليل بتعليل آخر مقبول ضمن ثقافتهم، وبذلك ظهرت أسطورة القرلى بنسختها العربية.
القرلى في الأساطير العربية
ذكرت أسطورة القرلى بشيء من التفصيل في كتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني، وكتاب «حياة الحيوان الكبرى» للدميري، وقد جاء في كتاب «عجائب المخلوقات»: «في هذا البحر طائر يقال له فنون (تصحيف قيون) وهو مكرم لأبويه وذلك أن هذا الطائر إذا كبر وعجز عن القيام بأمر نفسه اجتمع فرخان من فراخه يحملانه على ظهرهما إلى مكان ويبنيان له عشاً وطيئاً ويتعهدانه بالماء والعلف. ذكروا أن الله تعالى أكرم هذا الطائر بأن سخر له البحر فإنه إذا باض سكن البحر أربع عشرة ليلة حتى تخرج فراخه في هذه المدة اليسيرة والبحريون يتبركون به فإذا كان أول سكون البحر علموا أن هذا الطائر قد باض». أما رواية الدميري فقد جاء فيها:
«طائر يتخذ وكره على ساحل البحر، ويحضن بيضه سبعة أيام في الرمل، ويخرج أفراخه في اليوم السابع، ثم يزقها سبعة أيام أيضاً، والمسافرون في البحر يتيمنون بهذه الأيام، ويوقنون بطيب الوقت وحلول أوان السفر. وقيل: «إن الله تعالى إنما يمسك البحر عن هيجانه في زمن الشتاء، عن بيض هذا الطائر وفراخه، لبره بأبويه، عند كبرهما، وذلك أنهما إذا كبرا حمل إليهما قوتهما، وعالهما حياتهما إلى أن يموتا».
القرلى في الأمثال
جاء في معجم «لسان العرب» الأمثال التي ارتبطت بطائر القرلى:
«القِرِلَّى: طائر؛ وفي الأَمثال: أَحزم من قِرِلَّى، وأَخطف من قِرِلَّى، وأَحذر من قِرِلَّى؛ قال ابن بري: القِرِلَّى طائر صغير من طيور الماء يصيد السَمك، وقيل: إِن قِرِلَّى طير من بنات الماء صغير الجرم، سريع الغَوْص، حديد الاختطاف، لا يُرَى إِلا مُرَفْرِفاً على وجه الماء على جانِبٍ، يهوي بإِحدى عينيه إِلى قَعْر الماء طَمَعاً، ويرفع الأُخرى في الهواء حَذَراً؛ وأَنشد ابن بري:
يا مَنْ جَفاني ومَلاَّ
نَسِيت أَهْلاً وسَهْلا
ومات مَرْحَبُ لَمَّا
رأَيتَ مالِيَ قَلاَّ
إِنِّي أَظُنُّك تحكي
بما فَعَلْتَ، القِرِلَّى
وروي في أَسْجاع ابنة الخُسّ: كُنْ حَذِراً كالقِرِلَّى، إِن رأَى خيراً تَدَلَّى، وإِن رأَى شرّاً تَوَلَّى؛ قال الأَزهري: ما أَرى قِرِلَّى عربيّاً؛ قال ابن بري: ويروى كُنْ بَصيراً كالقِرِلَّى، يقال: إِنه إذا أَبصر سمكة في قعْر البحر انقضَّ عليها كالسَّهْم، وإِن رأَى في السماء جارحاً مَرَّ في الأَرض. ويقال: قِرِلَّى اسم رجل لا يتخلَّف عن طعام أَحد»
العدد 3207 - السبت 18 يونيو 2011م الموافق 16 رجب 1432هـ
l
معلومات شيقة وباسلوب راقي شكرا لكم