أسس «الفارق الهائل» بين المبدأ الهيغلي في «حال تجريد» وبين «تحقيقه العيني» فلسفة لا تاريخية في وقت كان هيغل يعتقد أنه يؤسس فلسفة للتاريخ. فاللاوعي في الجانب التطبيقي (التاريخ) للمبدأ المجرد (الفلسفة) أنتج في الوعي الأوروبي مدارس عنصرية ربطت بين العرق والتاريخ أو بين العرق والحضارة. وتطورت هذ المدارس وتنوعت إلى أن وصلت إلى الداروينية في تطبيقها الاجتماعي. وتحولت «الداروينية الاجتماعية» إلى أساس جديد في علم الاجتماع الأوروبي وباتت دراسة الاعراق والأنواع ضرورة فكرية لقراءة التاريخ الإنساني والاجتماعي البشري.
استمر النهج المذكور يشكل أداة تحليل رئيسية لعلم الاجتماع إلى أن انشطرت أوروبا وتناحرت في الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية. بعد الحرب برزت مدارس اعتذارية اخذت تعيد النظر في نظرية الاعراق والتاريخ. وتحت ثقل كوارث الحرب ونتائجها المدمرة ظهرت «عقدة الذنب» في سلسلة كتابات ومناهج نقدت ذاك النهج المتوارث في الفلسفة الأوروبية الذي تأسس في قرون عصر التنوير والثورة الصناعية من السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين.
وأبرز من نقد مدرسة العرق والتاريخ كان كلود ليفي شتراوس الذي أطاح بمسألة «تفاوت الأعراق البشرية» التي برزت في كتابات غوبينو وغيره وأعاد شتراوس صوغ النظرية العرقية بطريقة عكسية مبيناً خطأ الخلط بين «بيولوجية العرق» و«النتاج الاجتماعي والنفساني للثقافات الإنسانية». إذ إن «تنوع الثقافات الإنسانية يجب ألا يتم إدراكه على نحو ساكن»، لأن المجتمعات البشرية «ليست وحيدة. وعندما تبدو في اقصى درجات الانفصال فإن ذلك يأخذ أيضاً شكل الكتل أو المجموعات».
وينتقد شتراوس في كتابه «العرق والتاريخ» استخدام «الحضارة الغربية» لفظ متوحش أو بربري ويرى «أن البربري (أو المتوحش) هو قبل كل شيء، الإنسان الذي يعتقد بوجود البربرية (أو التوحش)». ويعترف بأن « فكرة الإنسانية التي تشمل، من دون تمييز في العرق والحضارة، كل اشكال النوع البشري لم تظهر سوى متأخرة جداً ولم تعرف إلا انتشاراً محدوداً»، على رغم أن الإنسان «لا يحقق طبيعته في إنسانية مجردة»، بل تعبر عن نفسها «عبر وضعية محددة بدقة في الزمان والمكان». فنحن «لا نعرف من الحضارات الغابرة سوى بعض الجوانب» وكل «هذه الغوامض تبرهن على وجود تشابه ما بين المجتمعات القديمة»، ووراء «كل المجتمعات الإنسانية ماضٍ هو بالدرجة نفسها من العظمة تقريباً». ويميز شتراوس بين تاريخين للبشر فهناك تاريخ اكتسابي (يكدس) وهناك تاريخ تنقصه موهبة التركيب. ويفرق أيضاً بين ما يسميه «التاريخ الساكن» و«التاريخ التجميعي». وحتى لا يسقط بدوره في نظرية عرقية عن التاريخ يستدرك شتراوس ويقول «إن هذا التاريخ التجميعي ليس امتيازاً لحضارة ما أو لحقبة من التاريخ». والتمييز بين «ثقافات تتحرك» و«ثقافات لا تتحرك» لا يفسر على أساس أنه يعود إلى «خصائص ذاتية»، وإنما نتيجة «الوضع الذي نوجد فيه بالنسبة إليها» واختلاف نظرة المراقب (الباحث) لها أو فيها،الأمر الذي يؤدي إلى «تصنيفات مختلفة».
ويقول عن الإسلام إنه «منذ قرناً مضت صاغ نظرية تضامن جميع اشكال الحياة الإنسانية، التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، التي لم يكتشفها الغرب إلا حديثاً». ويضيف «نحن نعلم أي مكان رفيع سمحت للعرب باحتلاله في الحياة الثقافية للقرون الوسطى، هذه الرؤية النبوية». فالشرق والشرق الأقصى يمتلكان بحسب شتراوس «تقدماً على الغرب يبلغ عدة آلاف من السنين. لقد أنتجا هذه المقادير النظرية والعملية الكبيرة». كذلك مساهمة إفريقيا «إذ إنه في الأمس القريب فقط بدأ التعرف على أهمية دورها كوعاء صهر ثقافي للعالم القديم» ولا يمكن فهم الحضارة المصرية «إلا كعمل مشترك لآسيا وإفريقيا»، كذلك الأنظمة السياسية في إفريقيا القديمة وانجازاتها القانونية ونظرياتها الفلسفية «التي خفيت طويلاً على الغربيين». كذلك أستراليا وأميركا قبل اكتشافهما من قبل الأوروبي ساهمتا في تطوير ثقافة متقدمة وتوصلتا إلى اكتشاف الصفر والدولاب منذ زمن قديم. ويرى شتراوس «أن جميع الناس من دون استثناء يمتلكون لغة وتقنيات، وفناً ومعارف من نمط علمي، ومعتقدات دينية ونظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً»، لكن الاختلاف هو في الكمية فهي «ليست دائماً هي ذاتها تماماً لجميع الثقافات».
ويطرح شتراوس أسئلة عن المستقبل ويرى أن التصنيع وتقنياته ينتشران في العالم منذ قرن ونصف قرن، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور «صيغ توفيقية بالنسبة إلى العالم الإسلامي والهند والصين». فالمجتمعات برأيه « لا تستسلم بسهولة كبيرة». ولو لم تظهر الثورة الصناعية في أوروبا الغربية والشمالية «لكانت ظهرت ذات يوم في نقطة أخرى من الكرة الأرضية». وستدخل في الصناعة العالمية «كل ثقافة الكثير من المساهمات الخاصة»، لأن «كل تاريخ هو تجميعي مع تمايز في الدرجة». وإذا بدت الإنسانية «سكونية أو حتى تراجعية، فذلك لا يعني أنها من وجهة نظر أخرى، ليست مركزاً لتحولات مهمة»، ذلك لأن «التاريخ التجميعي ليس حكراً على بعض الاعراق أو بعض الثقافات». وكل «تقدم ثقافي هو نتيجة للتآلف بين الثقافات». والتطور «يقضي بتوسيع الائتلاف، سواء عبر التنوع الداخلي أو عبر قبول شركاء جدد». والأمور «تسير بشكل حتمي في هذا الاتجاه».
على رغم إنسانية شتراوس فإنه يرى أخيراً أن التاريخ تشده قوة تدفع نحو التوحيد وقوة تدفع نحو التنوع. وبسبب نزعته العالمية التي لا تلغي التنوع ترددت مشاعره بين اتجاهين: هل هو مع «توحيد العالم» وقطع وتشذيب كل «العناصر الفاسدة» التي تشكل خطراً وتمنع «اشكالاً أخرى من التكيف»، أم تترك تلك الخصائص من دون استئصال؟ وينزلق شتراوس إلى فكرة القطع والتشذيب بذريعة «تشجيع الطاقات الكامنة وإيقاظ كل الدعوات إلى العيش معاً» فعلى «الناس أن يتعاونوا لكي يتقدموا».
هذا التضارب في مشاعر شتراوس في النظر إلى الثقافات من موقعين يعكس تلك الرؤية المزدوجة الايجابية والسلبية للموروث الإنساني التي تشكلت من تجربة ميدانية ومعارف متضاربة. فالفيلسوف ولد في العام ، وأنهى دروسه في باريس واحتل مركز استاذ الفلسفة ثم انتقل إلى البرازيل في العام ودرّس في جامعة ساوباولو العلوم الاجتماعية. بعدها شارك في بعثات علمية في منطقة شمال الامازون وهناك طور دراساته كعالم في الاجناس البشرية. ثم انتقل إلى أميركا وعمل في «مدرسة نيويورك للابحاث الاجتماعية» من إلى . وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط النظام النازي وانهيار النظريات العنصرية (تفوق أعراق وانحطاط أعراق) اشتغل شتراوس في «المدرسة العلمية للدراسات العالية» وهي أشبه بمعهد للبحوث والمقارنة بين الديانات.
إلى ذلك اهتم شتراوس بدراسة حضارات شعوب تجهل الكتابة، وهذا ما جعله يعيد النظر في الكثير من التعريفات الكلاسيكية الجاهزة التي تنمط الشعوب وفق نظريات ثابتة ونهائية.
هذا التطور في منهجية شتراوس بدأ يشق طريقه في العام انطلاقاً من إعادة قراءة تاريخ الحضارات في ضوء اكتشافاته الاجتماعية التي اعتمدت اللغة (اللسان) والبنية السكانية (الموروث) أساساً للبحث والتحليل. وبسبب هذا الوعي المركب من عناصر مختلفة درس شتراوس الحضارات من عاداتها المتنوعة التي وجد فيها معلومات تشير إلى تاريخ من العلاقات الاجتماعية والرموز اللغوية التي تتكثف فيها دلالات عن الخصائص والوظائف. فهناك برأيه بيئة جغرافية مناخية للإنسان (البنيوية الطبيعية) وهناك بيئة اجتماعية تاريخية للإنسان (البنيوية الاجتماعية). والنظام الموروث هو في النهاية كيان اجتماعي ينظم الطبيعة والإنسان. وعلى هذا القياس اتجه شتراوس إلى التمييز بين البنية الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي. الجانب الأول يتصل بنسبية المكان (البعيد والقريب) والثاني يتصل بنسبية الزمان (الماضي والحاضر). وهذا الاختلاف بين البنية والتنظيم دفع شتراوس إلى اخضاع ما هو متعاقب (التحقيب التاريخي عند هيغل وماركس) إلى ما هو متزامن.
وهذا الاخضاع جعله يربط ما بين التحليل البنيوي (الراهن) والجدلية التاريخية. فالقديم برأيه موجود والقوى «التي حركت أجدادنا القدامى مازالت حاضرة فينا». وما يسمى بالثقافات «البدائية» هي قديمة والبحث في خصائصها يكشف عن «فائدة إيجابية» على مستوى المعرفة التاريخية.
نظريات شتراوس (اللغوية، البنيوية) شكلت ضربة أيديولوجية للتفكير العنصري في أوروبا واسهمت في تأسيس مدرسة بحثية تغوص في التاريخ انطلاقاً من حاضر متفاوت في تطوره الراهن. وبرأيه أن التفاوت الموجود الآن لم يكن كذلك في الماضي. فالإنسانية نتاج جهود مختلفة من البشر ولهذا السبب رفض شتراوس فكرة «التوحش» و«البدائية»، وكافح تلك النظريات التي تعتبر «التفوق» مسألة كافية لتبرير القهر أو العدوان
العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ