يعمل الإسلام من أجل اقامة علاقة سليمة بين الدولة (بمعنى السلطة أو الحكومة) وبين المجتمع (أو الأمة أو الشعب)، وتقوم سلامة هذه العلاقة على اساس التوازن والتبادل والتكامل. والمعروف ان العلاقة بين الدولة والمجتمع احدى المسائل المهمة التي تواجهها المجتمعات، وتسعى من أجل اقامتها على اسس سليمة تضمن انسيابية العلاقة بما يؤمن استقرار المجتمع والحكم، وتعاونهما. فالتوازن يعني توزيع القوة بالتكافؤ بين الدولة والمجتمع، وعدم تغليب قوة الدولة على المجتمع، أو بالعكس.
ويتحقق التبادل بسبب وجود منظومة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة والمجتمع. فللدولة حقوق ازاء المجتمع، كما ان لها واجبات نحوه، ويقال الشيء نفسه عن المجتمع، إذ ان عليه حقوقا امام الدولة، وله واجبات ازاءها. أما التكامل فيعني ان مفردات الحقوق والواجبات وبقية تفاصيل العلاقة منظور لها ان يكمل كل طرف الطرف الاخر، فالدولة تكمل المجتمع، والمجتمع يكمل الدولة. وتتضح ابعاد هذه العلاقة في النص الطويل التالي للأمام علي (ع) الذي مارس الحكم والخلافة من موقف العلم والفقاهة، إذ كان افقه صحابة رسول الله (ص) واقضاهم، إذ يقول: «ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكأفأ في وجودهم ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها الا ببعض. واعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وادى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الاعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الادغال في الدين وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه». ويقول الأمام علي (ع) في مكان آخر: «ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم عليّ حق. فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين امركم». والواضح ان الأمام علي يتصور في هذا النص حالين من العلاقة عير السليمة، هما:
الحالة الأولى، «إذا غلبت الرعية واليها»، وتعني هذه الحالة هيمنة المجتمع على الدولة، إذ يكون المجتمع اقوى من السلطة، وتكون كلمته، أما بالممارسة المباشرة أو عبر الهيئات التمثيلية، اقوى من كلمة السلطة، التي لا تستطيع ان تفرض شيئاً خلافا لرأي المجتمع. وتتراوح سلطة المجتمع في هذه الصياغة من حال إلى أخرى، وقد تبلغ ذروتها في حال تحلل الدولة أو السلطة، إذ تكون السلطة اسما بغير مسمى، ولا تمارس أية سلطة أو نفوذ على المجتمع، كما كان الحال في اواخر حكم السلطة العباسية إذ أصبحت الخلافة بلا حول أو قوة. ان الأمر قد يسوء هنا إلى درجة اشعال فتيل حرب أهلية، أو عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها ازاء المواطنين والوطن، فتنفلت الاوضاع ويضطرب الأمن ويطمع الاعداء في الوطن والدولة.
الحالة الثانية، «إذا أجحف الوالي برعيته» وتعني هذه الحال هيمنة الدولة على المجتمع، إذ تميل الكفة لصالح الدولة، وتكون السلطة اقوى من المجتمع. وتتراوح قوة الدولة في هذه الصيغة من حال أخرى، لكن تبلغ ذروتها في الأنظمة الفرعونية، أو الدكتاتورية، إذ تكون قوة السلطة مطلقة في مقابل المجتمع الذي يفقد الحول والقوة امامها. والدكتاتورية والظلم يولدان ردود فعل عنيفة، فيلجأ المجتمع الأهلي أما إلى العزوف عن الحياة العامة، فتسود السلبية، أو إلى العمل السري والمسلح من أجل رد رفع الظلم واسقاط الدكتاتورية. وفي الحالين فان النتيجة الكبرى تتمثل في ضياع الدولة والمجتمع معاً، وهدر الطاقات وتعذر تحقيق اي اجاز ذي شأن على أي مستوى من المستويات الحضارية التي تتطلع اليها عادة الشعوب والأمم. ويحذر الأمام علي من ان نتائج هاتين الصيغتين على حياة المجتمع كارثية، إذ يعدد بعضاً من هذه النتائج، وهي «اختلاف الكلمة، وظهور معالم الجور ويكثر الإدغال في الدين وترك محاج السنن، والعمل بالهوى، وتعطيل الاحكام وتكثر علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهناك تذل الابرار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد». يرفض الإسلام هاتين الحالين معا ويدعو إلى اقامة العلاقة المتوازنة والمتبادلة والتكاملة بين الدولة والمجتمع، تلك العلاقة القائمة، كما قال الإمام علي، على اساس «صلاح الولاة وأسقامة الرعية». والسؤال كيف يحقق الإسلام هذه العلاقة المتوازنة والمتبادلة والمتكاملة بين الدولة والمجتمع؟
أولاً، عبر الاقرار باستقلالية كل من الدولة والمجتمع عن بعضهما بعضاً، مع وجود الروابط المتينة بينهما، خصوصاً عبر منظومة الحقوق والواجبات المتبادلة والتكاملية بين الطرفين. ونستطيع تلمس الاستقلالية في بنائها العلوي في الكثير من الاحكام والأنظمة والتعاليم الواردة في الإسلام. من ذلك على سبيل المثال التمييز في نظام الملكية الاقتصادية بين ما هو ملك للدولة وبين ما هو ملك للأمة، ووضع نظام الوقف الذي يضع قسما مهما من ثروة البلد ومرافقه في يد المجتمع الأهلي بعيداً عن تدخل الدولة وسلطاتها.
ثانياً، من خلال مساواة الدولة والمجتمع في خضوعها لحاكمية الله التي تعبر عنها الشريعة الإسلامية. فالحاكم والمحكوم سواء في موقفها ازاء الشريعة في النظام الإسلامي، ولا يسوغ للدولة واشخاصها، ومؤسساتها ان تكون فوق الشريعة، اي فوق القانون. ونجد اروع مثال على ذلك في وقوف الحاكم والمواطن على قدم المساواة امام القاضي، الذي عليه ان يصدر الحكم ليس بناء على الوضع السياسي الاجتماعي للماثلين امامه، وانما على اساس الحكم الشرعي المحايد والذي لا يميز بين الحاكم والمحكوم.
ثالثاً، من خلال التحديد الصارم للموقف الدستوري للحاكم وللمجتمع معا. ففي النظام الإسلامي تكون الأولوية للأمة، أي للمجتمع، وبوصفها هي المستخلفة في الأرض، فالسلطان بموجب الاستخلاف الالهي للأمة، وليس للحاكم أو الدولة. وليس الحاكم سوى وكيل للأمة أو نائب عنها في تسيير الأمور وتطبيق القانون. وبناء على هذا الموقف تمارس الأمة ثلاث صلاحيات أو حقوق هي: اختيار الحاكم، ومراقبته، واخيراً إقالته إذا أخل بشروط الوكالة والنيابة.
وتعطي هذه الصلاحيات قوة للأمة على الحاكم، ولكن من واجب الأمة ان تطيع الحاكم ما دام لا يخالف الشريعة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا الواجب يعطي للحاكم قوة فوق الأمة. ولكن القوتين متوازيتين ومتبادلتين، كما قدمنا في صدر المقال.
ملاحظة: ينشر هذا المقال بالتعاون مع المنبر الدولي للحوار الاسلامي - لندن
العدد 1372 - الخميس 08 يونيو 2006م الموافق 11 جمادى الأولى 1427هـ