العدد 3295 - الأربعاء 14 سبتمبر 2011م الموافق 16 شوال 1432هـ

المرأة والفحَّال: من الرمزية إلى المعتقد

تعتبر النخلة الشجرة الوحيدة التي يتم تشبيهها بالإنسان، وتعجُّ كتب التراث العربي التي تناولت النخلة بالعديد من التشبيهات، منها أنها تشبه الإنسان في العشق والهوى الناتجين بسبب المجاورة مع نخلة أخرى أوقد يصيبها الملل بسبب شرب ماء واحد وغيرها من الأمور التي ذكرها عبدالقادر أحمد في مقدمته لكتاب «النخلة» للسجستاني (السجستاني 2008م).

ولا يقتصر الأمر على تلك التشبيهات بل لقد حدث توغل لرمزية تشابه النخلة مع الإنسان حتى بدأ الإنسان يتعامل معها كأنها إنسان يسمع ويشعر وقد تحوَّلت الرمزية إلى نوع من الاعتقاد والذي تمخضت عنه طقوس بدأ يمارسها الإنسان، فعامل الرجل النخلة الأنثى كالمرأة حتى أنه إذا وجد في النخلة نوعاً من التمرد بدأ بضربها وتهديدها بالقطع، أما المرأة فقد وجدت في ذكر النخيل أو الفحَّال ما لم تجده في الرجل، فالفحَّال أصبح الذكر الوحيد الذي يستمع لشكوى المرأة ومناجاتها حتى اعتقدت في قرارة نفسها أنه قادر على أن يلبي أمانيها.

المثلية والجنس الثالث في النخيل

تنفرد النخلة بميزة لم تتميز بها باقي الأشجار؛ إذ استخدمت العرب ألفاظ البشر في توصيفها حتى فيما يتعلق بالجنس، فالنخيل يوجد منها جنسان، أنثى تسمى نخلة وذكر يسمى فحَّال والجمع فحاحيل وهذه تسمية لم تعط لنبات ذكر آخر، ويوجد أحياناً «جنس ثالث» من النخيل يحمل حبوب الطلع وحبوب اللقاح وقد استعارت العرب مسمى لوصف هذا الصنف من النخيل بمسمى البشر نفسه، جاء في كتاب «النخلة» للسجستاني (توفي العام 862م): «وقال لي أعرابي من بني كلاب، كان يترل شق نجران: عندنا نخل نسميه المخانيث، يلقّح بطلعها وما بقي يصير بسراً طيباً» (السجستاني 2008م، ص 164).

ولا توجد حدود للمقاربة بين النخلة والبشر فقد زعمت العرب أن النخلة تعشق كالبشر ويكون العشق من فحل لذات حمل ومن ذات حمل لفحل وربما عرض من ذات حمل لمثلها، ومن علامات مرض العشق عند النخلة هو ميلها إلى ناحية المعشوقة وخفة حملها وهزالها من غير سبب ظاهر (مقدمة كتاب السجستاني 2008م، ص 23). لاحظ هنا أن النخلة الأنثى قد تعشق نخلة أنثى مثلها وهذا العشق مثل الداء الذي يستوجب العلاج، جاء في كتاب «النحلة في غرس النخلة» للقطب الشيخ أطفيش الجزائري (توفي العام 1914م): «والعشق هو أن تميل شجرة إلى أخرى، ويخف حملها وتهزل وعلاجها أن يشد بينها وبين معشوقتها التي مالت إليها بحبل أو يعلق عليها سعفة منها أو يجعل فيها من طلعها».

تأليه المرأة وتأليه النخلة

أُتخذت المرأة كآلهة في العصور القديمة وخصوصاً في الحقبة التي سبقت حقبة الاستقرار والعمل في الزراعة، وفي العديد من الثقافات يوجد آلهة على شكل امرأة وقد ناقشنا ذلك في الفصول الأولى من هذه السلسلة، كذلك النخلة كانت مقدَّسة منذ عصور قديمة، ويقول عبدالجبار البكر في كتابه عن النخلة (البكر 1972م) إن الآشوريين كانوا يقدسون النخلة، وقد تمثلت بأوقات مختلفة في هياكل بابل وآشور» ففي بابل كانت هذه النخلة المقدسة تزيّن ردهات المعابد الداخلية ومداخل المدن وعروش ذوي التيجان (...) فإله النخل كان يظهر على هيئة امرأة ينتشر عن اكتافها السعف كالأجنحة. ويقول عبدالوهاب الدبَّاغ في كتابه عن النخلة (1969م):

«يعتبر النخل من أشهر الأشجار التي عرفها الإنسان منذ أقدم العهود. وتتفق النصوص القديمة والنصوص المقدسة وحتى الخرافات على إظهار النخل في مظهر الشجرة الموهوبة وكمنبع للبركة والخيرات التي لا يحصرها أي عد. وهكذا كان النخل طوطماً وكانت عبادته ديناً واسع الانتشار بين الكلدانيين والآشوريين (...) ومما يجدر ذكره، أن العقائد الإغريقية ترى في النخل إلهاً من آلهة اليونان».

العنف ضد النخلة

أكثر ما يخيف الزوجة هو تأخر حملها أو دمه فعاقبة ذلك وخيمة وعادة ما تنتهي بالطلاق، وطوال فترة عدم الحمل تبقى المرأة تحت وطأة التهديد بالطلاق، ويبدو أن الرجل بالغ في تشبيه النخلة بالمرأة فإذا تأخر حمل النخلة فالويل لها فستبقى تحت وطأة التهديد بالقطع، جاء في كتاب الشيخ أطفيش الجزائري السابق الذكر:

«ومن أمراضها (أي النخلة) منع الحمل وعلاجه أن تأخذ فأساً وتدنو منها وتقول لرجل معك أنا أريد أن أقطع هذه النخلة لأنها منعت الحمل فيقول ذلك الرجل لا تفعل ذلك فأنها تحمل هذه السنة إن شاء الله فتقول لا بد من قطعها وتضربها ثلاث ضربات بظهر الفأس فيمسكها الآخر فيقول بالله لا تفعل فإنها تثمر في هذه السنة إن شاء الله تعالى فاصبر عليها ولا تعجل فإن لم تثمر فاقطعها، فتثمر في تلك السنة فتحمل حملاً طائلاً إن شاء الله تبارك وتعالى ولله أن يفعل ذلك بقدرته بلا سماع منها، وله أن يخلق لها سمعاً وعقلاً تسمع وتفهم وإذا سمعت وفهمت فإنها تثمر بإذن الله وأنه هو الذي يقدر أثمارها ويخلقها»

ويذكر الجزائري مرضاً آخر يتم علاجه بغرز مسامير حديدية في جسد النخلة. هذه المعاملات التي لا أجد لها تفسيراً علمياً ما زالت تستخدم عند المزارعين حتى يومنا هذا، فتقليد غرس المسامير متعارف عليه عند عدد من المزارعين في البحرين ويعللون ذلك أن هذه المسامير ستوفر أملاح الحديد التي تفتقدها الشجرة، أما أسلوب التهديد والوعيد أيضاً مازال منتشراً في مناطق من الوطن العربي؛ إذ يشير إلى ذلك عباس الغزاوي في كتابه «النخل في تاريخ العراق» الذي صدر في طبعته الأولى العام 1962م وقد ألحق به كتاب الجزائري وعلّق على طريقة التهديد السابقة بقوله:

«ما زالت هذه الطريقة متبعة في العراق إلا أن المستعمل يشهر السيف أو الطبر في محاولة قطعها».

المرأة ومناجاة الفحَّال

مناجاة النخلة معروف منذ قديم الزمان وقد شاع حتى عند الشعراء وخاصة شعراء العصر العباسي وقد اشتهرت نخيل بعينها في تلك الحقبة من مثل «نخلتا حلوان» بعقبة حلوان في العراق وهما من غرس الأكاسرة (الشتيوي 2007)، ويبدو أن هناك طقوساً تمارس في مناجاة النخلة مثل التمني، ويبدو أن النساء منذ القدم كانوا يشكون همّهم لذكور النخيل أي الفحَّال ومع مرور الزمن تحولت تلك المناجاة لنوع من الطقوس التي تمارس حول الفحَّال وربما يتم اختيار فحَّال بعينه دون آخر، يدلّنا على ذلك قول البطين البجلي (القرن التاسع الميلادي):

يطفن بفحال كأن ضبابه

بطون الموالي يوم عيد تغدت

والضباب هي الطلع، وتنفرد رواية معجم «تاج العروس» بوجود إضافة توضح المغزى من هذا الشعر؛ إذ ورد بعد هذا البيت مباشرة «وفي الأساس: فحول بني فلان وفحاحيلهم مباركة، وهي ذكور النخل»، فلا شك هنا أن النساء يطفن بهذه الفحول لغاية معينة بسبب أن هناك فحاحيل مباركة قد يكون لها تأثير في تلبية أماني أولئك النسوة. وليس هذا بالغريب فحتى في أيامنا هذه يتم اختيار فحّال بعينه من قبل النساء لتقوم بشكوى حالها له وذلك لاعتقاد بعض النسوة بأن هذا الفحَّال بالذات له قدرة أقوى من غيره من الفحاحيل في تلبية أمانيها، يقول عبدالله البحراني في حديثه عن حي الشعبة في الأحساء في شرق الجزيرة العربية: «وكان هناك نخلة كبيرة، معروفة (بفحال) الشيخ عليِّ، تطل على صكة حريجة، ومن الطرائف عن (فحَّال الشيخ عليِّ): أن بعض سكان الحيِّ - وخصوصاً النساء - يعتقدون بفحال (الشيخ علي)؛ فكانت من تتأخر في الحمل، تذهب إلى فحَّال الشيخ عليِّ (وهي ذكر النخيل)، تحتضن هذا الفحَّال (تضمة) وتقول:

يا فحّال ...... يا فحّال

كلٌّ حمَل وجاب عيال

إلا أنا ما جاني العيال

يا فحّال ...... يا فحّال

وقد ذكر الناصري في كتابه «من تراث شعب البحرين» من أقوال النساء:

يا فحّال بشكي لك الحال

كل الفتايه عرست وانا بهالحال

ولا تقتصر رمزية الفحَّال عند النساء على شكوى الحال؛ بل إن المرأة الأرملة بعد انتهاء فترة العدَّة تحتضن فحّالاً وذلك لاعتقادهن إن أول شاب يصادفونه سيموت بعد انتهاء عدّتها فلذلك يكون أول ما تراه من الذكور هو الفحَّال

العدد 3295 - الأربعاء 14 سبتمبر 2011م الموافق 16 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:05 ص

      رائع

      مقال رائع وممتع. خير ما نفتتح به الصباح بدل اخبار الهم والغم.

اقرأ ايضاً