إذا كان ستيفن سبيلبرغ قد غمس إصبع قدمه في بركة مظلمة في فيلم «A.I.Artificial Intelligence» في السنة الماضية فهو يغطس برأسه أولاً في فيلم «Minority Report».
وعلى رغم الموضوع الثقيل للفيلم - عدم ثقته بنظام العدالة الجنائية، وقضايا الخصوصيات الأورويلية فيه وتشكيكه في طبيعة الإرادة الحرة - فإن «Minority Report» هو فيض مثير من الحواس وعالم تفصيلي متكامل يحمل لنا المفاجأة المبهجة تلو الأخرى.
ولا يغوص سبيلبرغ كثيراً في أعماق هذه المسائل مفضلاً أن ينغمس في عالمه المستقبلي بكل مساحاته الحضرية المترامية اللامتناهية وأجهزته الذكية، والسيارات الرياضية الانسيابية التي ستتمنى أن تمتلك اثنتين منها، ويتميز الفيلم بطاقة وحيوية مخيفتين و«ادمافيتين».
إلا أن الفيلم يصاب بوهن في نهايته عندما يحول تركيزه نحو آدميين يعانون من إحساس ظاهر بالحزن، والغريب أن هذا الفيلم يعجز عن تهييج العواطف وخصوصاً إنه يجيء من سبيلبرغ الذي اشتهر بأفلامه التي تداعب شغاف القلب في الوقت الذي تبهر الأبصار أيضا.
إلا أننا لم نتعرف بعد على جون اندرتون (توم كروز) وزوجته السابقة لارا (كاترين موريس) معرفة جيدة لنهتم بهما كفاية عندما يتصارعان مع الماضي ويفكران في المستقبل.
إننا في العام 2054 واندرتون هو رئيس دائرة في وزارة العدل مختصة بالجرائم قبل وقوعها تضم ثلاثة يمتلكون حاسة تمكنهم من رؤية الجرائم قبل وقوعها في واشنطن العاصمة، وينقض رجال الشرطة بالمروحيات ويقبضون على مشبوهين في أعمال لم يرتكبوها بعد.
ويتدخل المحقق الشاب في الإف. بي. آي داني ويتوير (كولين فاريل) ليطرح أسئلة عن وحدة الباطنيين الثلاثة أصحاب الفراسة التي أوشكت أن توسع نشاطها في البلاد بفضل نفوذ مديرها لامار برغيس (ماركس فان سيدو).
لقد خصص اندرتون كل وقته وجهوده لهذه الوحدة منذ اختفاء ابنه قبل سنوات - ويعتقد أنه لقي حتفه - وانفصاله عن زوجته. ولكنه يضطر إلى الفرار من أمام رجاله الذين يتعقبونه عندما رآه المتفرسون وهو يرتكب جريمته.
اندرتون لا يعرف حتى الرجل الذي يفترض أنه سيقتله، ويعتقد أن ويتوير يحاول الإيقاع به. وأمامه 36 دقيقة ليثبت براءته بمساعدة «أغاتا» (سامنتا مورتون المخيفة) وهي إحدى الثلاثة الذين يمتلكون قدرة على رؤية المستقبل. ولكنه إذا نجح في تغيير المستقبل يعني ذلك أن النظام الذي كرس حياته لأجله هو نظام خاطئ.
الفيلم الذي كتب نصه سكوت فرانك (الذي اقتبس قصة «Get Shorty») مع جون كوهن، مبني على قصة «Minority Report» القصة التي كتبها مؤلف روايات الخيال العلمي فيليب ديك. وقد نشرت القصة في المرة الأولى قبل 50 سنة. وتظهر في الفيلم لمسات من أفلام أخرى مقتبسة من روايات ديك، وخصوصاً المناظر المخيفة للمدن في «Blade Runner» وأجهزة المراقبة بالفيديو التي ملأت فيلم «total Recall» في التسعينات.
إلا أن الطلة الإجمالية هي أكثر شبها بأفلام سبيلبرغ الحديثة بفضل العمل الذي قام به المصور السينمائي يانوش كامينسكي الذي صور أيضاً «A.I» وحاز جائزة الأوسكار عن «إنقاذ الجندي ريان» و«قائمة شيندلر».
المناظر المدينية الهادئة لها تيار تحتي مخيف، وكل شيء غارق في ضوء ضبابي رمادي، وكأن أحدهم قد نسي قطعاً من الحلوى داخل الفرن.
ويمزج الفيلم بروعة بين القديم والجديد: مطبخ اندرتون من صفائح الحديد الذي لا يصدأ مجهز بأدوات تبدأ العمل بأوامر صوتية. وهناك في الزاوية زجاجة نصف مستعملة وفتات طعام على المائدة. ويطارد ضباط وحدة الفراسة المشتبه فيهم في أزقة الأحياء الفقيرة بالمروحيات وهم يحملون حقائب أمتعتهم على ظهورهم.
ويلعب كروز دور الرجل المستقيم هنا مستعملاً قوة نجوميته الظاهرة ويسمح للممثلين الآخرين بالبروز في أثناء المطاردات في أداء ثانوي ممتاز - ومنهم تيم بليك في دور ضابط إصلاحية ممتاز - ولويز سميث كامرأة غريبة الأطوار التي أوجدت جهاز المتفرسين بالمصادفة، وبيتر ستورمير كجراح عيون منحط يعمل سراً، وجيمس انطون كمهووس تكنولوجيا.
وقد يكون «Minority Report» أفضل فيلم ظهر في هذه السنة لما فيه من بصريات آسرة وأداء راق. والفيلم من توزيع فوكس القرن العشرين ويستغرق عرضه 144 دقيقة
العدد -3 - السبت 24 أغسطس 2002م الموافق 15 جمادى الآخرة 1423هـ