دخلت العلاقات المصرية الاميركية طور التأزم المحسوب دولياً واقليمياً بعد تراجع موضوع رئيس «مركز ابن خلدون» الباحث المصري سعدالدين ابراهيم (يحمل الجنسية الاميركية) المتهم بتلقي مساعدات مالية من جمعيات دولية تشوه سمعة مصر وتشكك في موقعها السياسي ودورها الاقليمي في المنطقة.
واتفق المراقبون على ان موضوع سعدالدين ابراهيم هو واجهة الخلافات المستجدة بين واشنطن والقاهرة ويخفي الكثير من القضايا الحساسة تتجاوز كثيرا قضية حقوق الانسان وتفرعاتها.
ويرى المتابعون للشأن المصري ان الازمة المحسوبة بين القاهرة وواشنطن تقوم على مجموعة عوامل تراكمت في السنة الاخيرة وتحديدا بعد وصول جورج بوش الى البيت الابيض وانحيازه المطلق لسياسات «اسرائيل» ورئيس حكومتها اريل شارون.
ويلخص العارفون «مجموعة عوامل» الازمة بثلاث قضايا رئيسية: الاولى تتعلق بالامن الاقليمي واستمرار بوش الابن في دعم سياسة شارون واضعاف سلطة ياسر عرفات.
والثانية تتعلق بالامن القومي واستمرار تهديد الادارة الاميركية بضرب العراق ومخاطر انهيار دولته واعادة ترسيم حدود البلد ضمن خطوط مذهبية - طائفية.
والثالثة تتعلق بالامن المائي واستبعاد مصر من المفاوضات الجارية في نيروبي (كينيا) للاتفاق على مشاريع سلمية لحل النزاع السوداني.
وكان تصريح الرئيس عمر البشير اثار غضب القاهرة حين أعاد فتح موضوع مثلث حلابيب (منطقة متنازع عليها) في لحظة احتقان الموقف المصري من مسألة سعدالدين ابراهيم وتهديد واشنطن بوقف المساعدات الاضافية في حال لم تطلق سراحه.
ولا شك في ان الامن المائي واستبعاد مصر من المفاوضات في وقت يجري الحديث عن تقسيم خفي لدويلات جغرافية - قبلية في السودان كان هو وراء الامتعاض من تصريح البشير والابتزاز الاميركي. فالسودان هو اهم عمق استراتيجي وسياسي واذا سقط يتهدد أمن مصر الداخلي.
فالعلاقات المائية (نهر النيل) تؤكد ان صناعة الكيان الجغرافي - السياسي المناصر للسودان على امتداد مليون ميل مربع تمت بموجبات الجيو - يوليتيك المصري طوال الفترة «الخديوية» الممتدة من 1862 إلى 1874.
غير أن للسودان «خصوصية» في مسألة منابع النيل الاستوائية امتدادا الى يوغندة والبحيرات العظمى، ومنابع النيل الاثيوبية. فمن المنابع الأولى تتدفق نسبة 14 في المئة من المياه، ومن المنابع الثانية نسبة 86 في المئة ويبلغ المجموع وراء السد العالي ما يقارب 60 ملياراً عدا حصة السودان التي تقارب 20 ملياراً من الامتار المكعبة وفق «الاتفاق الثنائي» بين البلدين بتاريخ 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1959 (55,5 مليار لمصر و18,5 للسودان).
غير أن السودان بكامل حدوده «ليس منبعا» لهذه المياه الاثيوبية والاستوائية، إنه مجرد «ممر دولي» لها، وكذلك «مستفيد» منها. فعلاقة السودان بالمنابع المائية سواء في البحيرات الاستوائية أو اثيوبيا وارتريا «منمنا» توازي استراتيجيا العلاقة المصرية تماماً. فإذا كان ثمة ما يهدد مصر في المنابع الاثيوبية أو الاستوائية فإنه يهدد السودان أيضا، وخصوصا أن تطور مصر السكاني والاقتصادي يحتاج الآن إلى أكثر من 70 ملياراً، فيما يحتاج السودان إلى أكثر من العشرين ملياراً قياسا إلى موفوره من الاراضي الزراعية الصالحة التي تبلغ ما يزيد على 300 مليون فدان.
في حين ان دول البحيرات الاستوائية (يوغندا وكينيا وتنزانيا وبورندي وأورندي) تتمسك بمبدأ الرئيس التنزاني السابق جوليوس نايريري في العام 1962 ولا تعترف «بالاتفاق الثنائي» لاقتسام مياه النيل بين السودان ومصر العام 1959.
وكذلك اثيوبيا التي يشكو رئيس وزرائها ملس زيناوي من اسقاط المصريين والسودانيين معا لما يفترض ان تكون عليه «حقوق» اثيوبيا في مياه تنبع داخل اراضيها.
لذلك ترى المصادر المطلعة ان مصر تحرص على الموقف الاستراتيجي التضامني بينها وبين السودان من منطلقين:
الأول: وهو ان يلتزم السودان بحصته المائية المتفق عليها مع مصر بوصفه دولة «ممر» وبوصفه «مستفيدا» له «طموحاته» الاستثمارية الخاصة.
والمنطلق الثاني: ألا تنشأ علاقات خصوصية بين السودان ودول المنبعين، الاثيوبي والاستوائي، لا تكون مصر طرفاً فيها. لذلك انزعجت من استبعادها من المفاوضات في وقت تمارس الولايات المتحدة ابتزازها السياسي لاضعاف موقع مصر اقليميا وقومياً
العدد -5 - الإثنين 26 أغسطس 2002م الموافق 17 جمادى الآخرة 1423هـ