أحدثت ثورة المعلومات والاتصالات حالة من التغيرات السريعة يعجز المرء عن متابعتها فضلاً عن استيعابها وإدراكها بسبب سرعة تطورها. وهذا ما يجعل طبيعة الأشياء متشابكة ومتصلة على المستويات كافة وليست منفصلة أو متناثرة.
تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليست انقلاباً أو تطوراً تدريجياً وإنما ثورة ونقلة نوعية شاملة في تاريخ الإنسان في الربع الأخير من القرن العشرين. وتتقدم هذه الثورة، في كل الاتجاهات وتتداخل بعمق أكبر في الإنسان المعاصر ومجتمعه.
وتبدو وتيرة التغير التكنولوجي وانعكاساتها الاجتماعية سريعة إلى درجة الشعور بأن العالم قد يتغير بين عشية وضحاها. وقد لا يحدث هذا تماماً لكن فرض على الإنسان المعاصر التهيؤ والتحسب للتغير كي يواكب التطورات الكبيرة في حياته وعمله وملبسه ومعيشته وغيرها.
فالعالم أصبح وكأنه جهاز عصبي، حيث تمثل المعلومات الدم منه والاتصالات بمثابة الأوعية الدموية. هذه الأوعية المتمثلة بالشبكات الموصلة للهواتف والكمبيوترات والانترنت والمتكونة من الكابلات والفيابرات الضوئية وغيرها. هذه المعلومات ليس لها صلة بالعرق أو التراث، كما أنها لا تتأثر (من الناحية الفنية) بالقيم الأخلاقية سلباً أو إيجاباً، إنما فقط تواقة للانطلاق والحركة في الطاقات الإلكترونية العملاقة للنظام العصبي المتشابك، جاعلة من المعرفة سلطاناً جباراً بيد من يملك زمامها وسرّها، ومولدة إمكانات محتملة للتحولات والتغيرات الاجتماعية التي تدخل في النهاية ضمن الممكنات الاقتصادية، موفرة لنا في نهاية المطاف الاتصال الآني والحركة السريعة، والأهم من ذلك التزاوج بين أنظمة الكمبيوتر وأجهزة الاتصالات الأمر الذي أطلق العنان لهذه التكنولوجيا في الحركة والتغير. وقد تم وضع وتطوير مفهوم الأبعاد الثلاثة (3 Dimensions) تكنولوجياً وعلمياً في شكله الذي نستوعبه اليوم في عصر الثورة الصناعية. ثم جاء آينشتاين مضيفاً عامل الزمن كبعد رابع في نظريته النسبية. ونحن اليوم في خضم ثورة الذهن التي تشكل المعلومات البعد الاهم فيها.
لعبت المعلومات دوراً بالغ الأهمية في تاريخ الإنسان ومثّلت بضاعة مهمة للتنافس عليها طوال التاريخ. كما مثلت في الوقت نفسه حلقة وصل بين مراحل تطور الإنسان ومسيرته الطويلة على الأرض. أما الاتصالات فكان تاريخها من أبرز الأمثلة على الخلق والإبداع والتطور. كما مثلت قفزة هائلة لاقتصاديات بلدان الغرب إبان الثورة الصناعية الأولى. واعتبرت خطوط السكة الحديد بداية أولية لأنظمة البنى التحتية. تبعها في عهد فكتوريا أهمية تطوير هذه البنى إلى خطوط التلغراف (أو ما يسمى بإنترنت العهد الفكتوري) والهاتف. وتطورت تقنيات الاتصالات بعد الحرب العالمية الأولى بشكل أكثر وازداد دورها في قطاع الخدمات ولعبت الحكومات دوراً في ظهور شكل الشبكات المعقدة والعصرية الموجودة معنا اليوم. كما مثلت الاتصالات الإلكترونية تراثاً وتقاليد عميقة ومعرفة عالمية كبيرة (لا توجد أسرار في هذه التقنية كما هو حاصل في الصناعات الأخرى). وأثبتت التجارب التاريخية أن المهندسين والتكنولوجيين في الاتصالات يتطورون ويبتكرون أكثر عبر تبادل الأفكار والخبرات مع الآخرين. ولهذا ساهمت هذه التقنية في زيادة المعرفة، ومع المعرفة تأتي المقدرة ولا يمكن الفصل بين الاثنتين. كما أصبحت المعرفة عبر الاتصالات القاعدة الأساسية لأداء الأعمال والواجبات لأي مجتمع معقد، والقاسم المشترك لإيصال الأفكار والمعلومات إلى الأعضاء الآخرين في المجتمع الواحد والمجتمعات الأخرى. ولم تأخذ هذه العملية حجمها الانقلابي الشامل والعالمي البعد الذي نشهده اليوم إلا عند تطوير الكمبيوتر الشخصي (PC)، حيث إنه يعتبر المحرك الرئيسي لثورة المعلومات، ونتاجات تزاوج الكمبيوتر مع الاتصالات في نمو التلفزيونات الفضائية والإنترنت وطرق الموصلات العملاقة وغيرها. وجعلت مؤتمرات الفيديو الآنية كسفينة الفضاء العابرة للقارات. ولم تكن الدول المتطورة، لا سيما أميركا، قوى عظمى لامتلاكها الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات، بل لأنها تمتلك منظومة اتصالات فضائية تستطيع معها منافسة القوى الأخرى والتأثير في مساراتها.
وأنتجت كثرة المعلومات وسهولة توافرها، عصر المعرفة المكثّفة. وبما أن المعرفة نتاج الخبرة، فإن مفهوم إدارة المعرفة (Knowledge Management) تعني السماح للعموم بمشاركة المعلومات والمعارف والخبرات. ولا تعني إدارة المعرفة التعامل مع الكثرة المتعاظمة من المعارف وإدارتها فقط وإنما توجيه فائدتها لغرض تعليم عموم الناس. وهذا يستدعي تغيير الطرق التقليدية للتعليم والمشاركة كما يرى بعض الخبراء.
وأثرت هذه التغيرات على حركة الاقتصاد وسرعة تأثيره، وجعلت اقتصاد اليوم يختلف بطبيعته عن اقتصاد الأمس، حيث تستمر دورات الإنتاج بالإنكماش بشكل دراماتيكي بسبب سرعة إنتاج وتطوير الرقائق الإلكترونية إلى تعقيد البرمجة وغيرها. وكل هذه التطورات ذات انعكاسات أساسية على ما بدأ تسميته بـ «الاقتصاد الإلكتروني». وإذا كان رأس المال رمز العصر الصناعي، فإن المعلومات رمز العصر المعلوماتي. وهذا يعني أن الذهنية هي الأساس في هذه الثورة، وأصبحت فيها الأفكار أساس الحركة الاقتصادية بعد أن كانت واحدة من البنى التحية في الاقتصاد القديم كما تصورها كارل ماركس. والسبب أن الإنسان أصبح هو المركز والأشياء ثانوية في التقنية الحديثة.
وستتداخل تكنولوجيات المعلومات والمعرفة أكثر من علوم البيولوجيا والجينات لبلورة ونضج اقتصاد الغد - اقتصاد البيو في منتصف القرن الحادي والعشرين.
إن العمل من أجل حياة أفضل يعتمد اليوم على التفكير، والنمو سيكون من نصيب الذي يفكر بوتيرة أسرع وفاعلية أكفأ، مما يزيد في اختراعات وإبداعات المجتمعات المتقدمة في هذا الميدان وتفاعلها مع فلسفة العصر الجديد وثقافتها ومراحل تطورها. إن أكثرية المجتمعات (بلدان العالم الفقير) على الطرف الآخر من هذا الشق العلمي، مدمنة على الاستهلاك البحت، واستهلاك إنتاجات التقنية الحديثة، والتبعية العلمية، بحيث ينبثق عنها بالضرورة التبعية الاقتصادية والاجتماعية.
ويعتقد غالبية الخبراء أن قوى العالم في القرن الحادي والعشرين هي الاقتصاد وتكنولوجيات المعلومات والمعرفة والبيو، والتصادم لن يكون عسكرياً فحسب بل اقتصادياً ومعلوماتياً وبيولوجياً. وينعكس هذا التأثير البالغ للاقتصاد الحديث على السوق العالمية في ترجمة هذه التحولات إلى أهداف سياسية. والتغيرات هذه أرخص بكثير من استخدام القوة العسكرية لتغيُر الأجندة السياسية نتيجة المبالغ الباهضة التي تصرف في تكنولوجيا اليوم على المعدات العسكرية
العدد -5 - الإثنين 26 أغسطس 2002م الموافق 17 جمادى الآخرة 1423هـ