تناولنا في الفصول السابقة عدداً من الطقوس التي تمارسها الجماعات الشعبية في مختلف البلدان والثقافات لدرء العين الشريرة ودرء ضرر الجان، وهي طقوس كانت ولاتزال تمارس إلا أنها طقوس لا تسبب ضرراً جسدياً على من يمارسها وقد بقيت وانتشرت باعتبارها «تأميناً رخيصاً» (cheap insurance) كما يسميها Brodie في كتابه «Virus of the mind»، بمعنى بذل جهد بسيط لتفادي خطر كبير (Brodie 1996، p. 129)، وغالبية المعتقدات الخرافية تعتمد على فكرة «التأمين رخيص» (Brodie 1996، p. 132)، من مثل تعليق الملح أو أي تعويذة لدرء العين، حتى وإن لم يكن الشخص مؤمناً بها، كذلك تقليد كسر البيض وتقديم العذرة ولبس الحجل وغيرها من الطقوس التي سبق الحديث عنها، غالبيتها مجرد تأمين رخيص لدفع ضرر مرتقب سواء أعتقد الشخص أو لم يعتقد بصحة المعتقد؛ وهذا ما يجعل من تلك الطقوس سريعة الانتشار بين الجماعات الشعبية المختلفة وتبقى لفترات زمنية أطول. ومعتقد المُبدَّل (تلفظها العامة إمْبَدَل) هو اعتقاد الجماعة الشعبية أن الجن قد قامت باستبدال أحد أطفالها بطفل من الجن قبيح ومريض، ويعرف هذا الطفل حينها بالمبدل، ولكي تتم عملية استرجاع الطفل الإنسي من الجن تتبع طقوس معينة، وعلى النقيض مما سبق ذكره من طقوس، تعتبر طقوس المُبدَّل من أخطر الطقوس التي كانت تهدد حياة الطفل والتي قد تودي بحياة الطفل، تلك الطقوس ليست حصرية على ثقافة دون أخرى أو ديانة دون أخرى، فمعتقد المبدل كان منتشراً على نطاقٍ واسع، وكانت طقوس علاجه البشعة منتشرة أينما وجد، إنها طقوس شبهها البعض بطقوس التخلص من الأطفال أو تقديمهم كقربان. نسمع كثيراً عن انتهاك الطفولة ومدى بشاعتها، فكيف استطاعت الجماعات الشعبية في المجتمعات القديمة أن تأسس طقوساً ممنهجة لانتهاكها؟ إنها حالة تستدعي التوقف كثيراً، وربما لهذه الأسباب نجد كماً كبيراً من البحوث التي تتناولها، وأيضاً كماً كبيراً من البحوث التي تحاول أن تبرر وجودها. سوف نقسم هذا الفصل لعدد من الفصول الفرعية لكي يمكننا أن نتناول هذا المعتقد المحير وتلك الطقوس الشنيعة، وسنعرض «نظريات التبرير» المضحكة بعض الشيء والتي لا ترتقي أن تبرر عملاً بمثل تلك البشاعة.
انتشار معتقد المبدل
ينتشر معتقد المبدل في العديد من الدول في العالم ككل، هناك القليل من المقالات والكتب العربية التي تناولت معتقد «المبدل» بالإضافة لكم ضخم من الكتب والبحوث الأجنبية وبالخصوص تلك الكتب التي نشرت في القرن التاسع عشر والتي تناولت مفهوم «المبدل» في الدول الأوروبية، ومع عملية التوسع في عملية تبادل المعلومات عبر الشبكة العنكبوتية أصبحت العديد من هذه الكتب متوافرة بصورة رقمية على العديد من المواقع، وهناك عدد من المواقع التي تسهل عملية البحث ضمن هذه الكتب باستخدام كلمة مفتاحية؛ كل ذلك أمكننا من رسم صورة لمدى انتشار معتقد المبدل في الثقافات المختلفة.
المبدل في العالم العربي ومالطا
يعرف في البحرين ومناطق أخرى في الخليج العربي باسم «إمْبَدَل» و «لمْبَدَل» والجمع «إمْبَدَلين». وقد خضع مصطلح المبدل في البحرين للتعميم فأصبح الاسم إمْبَدَل في الوقت الراهن يعني طفل مشاغب أو كما يعبر عنه بصفة «شيطان»، ويستخدم أحياناً المصطلح «فلان إمْبَدَل شر». ويعرف المعتقد في فلسطين باسم المُبدَّل (Granqvist 1950، pp. 102) والمبدول (شبانة 2010م)، وفي مصر يسمى المبدول (خضر 2008، ص 18) وبَدَل (El-shami 1982، p. 180)، وفي السودان يسمى الطفل البدلي أو المُبدَّل، أما في المغرب العربي فيسمى عند العرب والبربر مبدول ومبدل (H. T. N. 1977). ومن المفارقات أن معتقد المبدل معروف باسم المِبدول في مالطا (Pullicino 1992، pp. 78) وهي دولة أوروبية تقع في البحر المتوسط جنوب صقلية في إيطاليا، شرق تونس وإلى الشمال من ليبيا، واللغة المالطية متأثرة بصورة كبيرة باللغة العربية وبالخصوص لهجات المغرب العربي. وللمبدل في مالطا طقوس ذكرت منذ القرن التاسع عشر ذكر جزءاً منها Thomas MacGill في كتابه عن مالطا (MacGill، 1839، p. 117)، وسنأتي على تفصيل ذلك لاحقاً.
المبدل في الدول الأوربية
يعرف المبدل في اللغات الأجنبية بعدة أسماء تترجم بمعنى المبدل ويعرف في اللغة الإنجليزية باسم changeling. وينتشر معتقد المبدل في غالبية، أو كل، مناطق قارة أوروبا، فقد كان منتشراً في غالبية مناطق المملكة المتحدة (سكوتلاندا، إنجلترا، واليز، إيرلندا ... إلخ) وهناك المراجع التي تخصصت في كل منطقة بصورة فردية وهناك المراجع التي تناولت المنطقة بشكل عام مثل كتاب « The FairyFaith in Celtic Countries « (W. Y. Evans Wentz، 1911). وكذلك كان المعتقد منتشراً في ألمانيا حيث وردت العديد من القصص المتعلقة به في دراسات الأخوين Jacob and Wilhelm Grimm في الأساطير الشعبية الألمانية التي نشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وقد قام Ashliman من جامعة Pittsburgh بترجمة النصوص المتعلقة بمعتقد المبدل إلى اللغة الإنجليزية ونشرها على موقعه الخاص ضمن موقع الجامع المذكورة. وينتشر معتقد المبدل في الدول الإسكندنافية فقد ذكر في دولة السويد (Hofberg 1893، pp. 176 - 178)، والدنمارك (Keightley 1850، pp. 125 - 126)، وأيسلاندا (Arnason 1864، pp. 41 - 44). وهو معروف أيضاً في جزر البحر المتوسط مثل صقلية (Pullicino 1992، pp. 243) ومالطا (Pullicino 1992، pp. 78 - 79).
أسباب وظروف عملية التبديل
هناك اتفاق بين المراجع الأجنبية أن أحد أهم أسباب حدوث تبديل الطفل هو ترك الطفل لوحده، كذلك في عدد من الدول الأوربية تم ربط عملية التبديل بطقوس دينية فالاعتقاد السائد عندهم أن عدم تعميد (baptize) الأطفال يجعلهم أكثر عرضة للاستبدال (Munro 1997)، والتعميد هوطقس مسيحي يمثل دخول الإنسان الحياة المسيحية. وكذلك في المعتقدات الايرلندية يتوجب إتباع مدح الطفل بعبارة الحماية «God bless him» ومن غير الحكمة ترك هذه العبارة لاعتقاد العامة بما سوف يترتب على ذلك من أضرار تقع على الطفل ومنها الاستبدال (Evans 1957، p.289).
وفي الدول العربية كذلك يعتبر ترك الطفل لوحده من أهم أسباب حدوث التبديل، وهناك أسباب أخرى جاءت مفصلة عن معتقد المبدل في فلسطين، وقد وردت تلك التفاصيل في كتاب «Child Problems among the Arabs (Granqvist 1950، pp. 102 - 104)، وهناك تشابه بين ما جاء في هذا الكتاب وما ورد في «موسوعة الفلكلور الفلسطيني» للدكتور نمر سرحان (صدر العام 1989م في ثلاثة أجزاء)، ولم أعثر على هذا الكتاب الأخير إلا أن صالح صلاح شبانة نقل عنه تفاصيل المبدول (أي المبدل) ونشرها في صحيفة اللواء الأسبوعية (بتاريخ 17/ 8/ 2010م):
«يذكر الدكتور نمر سرحان حارس التراث الشعبي الفلسطيني في كتابه القيِّم (موسوعة الفلكلور الشعبي الفلسطيني) عن المبدول، والمبدول: هو طفل من أطفال الجن يضعه الجن، والقوى الخارقة للعادة، بدل طفل الأنس، ويأخذون طفل الأنس عند الولادة بعملية من عمليات العداء التقليدي الانتقامية بين أبينا آدم (ع) وإبليس اللعين لعنه الله، فيما لم تسَمِّ القابلة والنساء، ويذكرن اسم الله عند الولادة. وقد يتم الاستبدال إذا وقع الطفل على الأرض ولم يُسَمِّ أحد ويذكر اسم الله سبحانه وتعالى. ذلك لأن الأرض مليئة بسكان الجن الذين يترصدون أخطاء الإنس ونسيانهم ذكر الله الذي يقيهم من شرور الجن، وعند السقوط وكثيراً ما يسقط الأطفال، يستوجب ذكر اسم الله تعالى، ورش الماء والملح أو البصاق مكان الوقوع لزجر الجن عن استبدال الطفل. وقد يكون الطفل رجل عجوز بهيئة طفل، لأن الجن يعمرون طويلاً، وقلما تظهر عليهم بصمات الزمن كما نحن... وقد يحدث الاستبدال بعد تعرض الطفل لحالة شديدة من الخوف»
العدد 3383 - الأحد 11 ديسمبر 2011م الموافق 16 محرم 1433هـ