تشكل الاستحواذات جزءاً مهماً من حركة روؤس الأموال حول العالم؛ إذ ازدادت عمليات الاستحواذ منذ مطلع القرن الجاري، وذلك لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها تحرير الأسواق وانفتاحها وتقديم مختلف بلدان العالم المزيد من التسهيلات للاستثمارات الأجنبية خارج دولها.
وفي الوقت نفسه، فإن ارتفاع أسعار النفط إلى معدلات قياسية خلال العقد الماضي أتاح للبلدان المصدرة للنفط، وخاصة لدول مجلس التعاون الخليجي قدرات مالية كبيرة للقيام بعمليات استحواذ مهمة في السنوات الخمس الماضية.
وتركزت الاستحواذات سابقاً في اتجاه واحد تقريباً من خلال شراء شركات البلدان النامية الغنية لشركات أوروبية وأميركية عريقة، كالصفقة التي أبرمتها شركة «سابك» السعودية في العام 2007 واستحوذت من خلالها على شركة «جنرال إلكتريك للبلاستيك» الأميركية مقابل 11.6 مليار دولار والتي اعتبرت واحدة من أكبر عمليات الاستحواذ في العالم. وفي الوقت نفسه قامت مؤسسات مالية في دول مجلس التعاون الست بشراء عشرات الشركات في أوروبا والولايات المتحدة، وخاصة من قبل الصناديق السيادية في دول المجلس؛ إذ شملت هذه الاستحواذات مختلف القطاعات الاقتصادية، كالصناعة والخدمات والعقار والمؤسسات المالية والبنوك ومراكز التسوق والمنتجعات السياحية.
لقد حدَّت الأزمة العالمية في العام 2008 من قوة اندفاع عمليات الاستحواذات العالمية؛ وخصوصا أنها خفضت بصورة كبيرة من قيمة أصول المؤسسات المستحوذ عليها في فترة ما قبل الأزمة، إلا أن سرعة تعافي أسعار النفط واستقرارها عن معدلات مرتفعة وتغطية البنوك العالمية لجزء كبير من انكشافها على الديوان الهالكة أحيا من جديد عمليات الاستحواذ والتي تغيرت اتجاهاتها في الآونة الأخيرة لتشمل بلدان جديدة.
وساهمت أزمة الديون الأوروبية وتقلص سوق الائتمان العالمية في تراجع حجم الاستحواذات في العامي 2009 - 2010، إلا أن استمرار النمو القوي في البلدان الصاعدة، وخاصة الصين والهند وروسيا والبرازيل أتاح فرص استحواذ مجدية في هذه الأسواق.
من هنا، فإن ظروف الأزمة أفرزت اتجاهات وأسواقاً جديدة لعمليات الاستحواذ والتي تركزت في السابق في الأسواق الأوروبية والأميركية؛ اذ تجتذب الأسواق الآسيوية والأميركية عمليات استحواذ كبيرة من قبل الصناديق والمؤسسات العالمية، بما فيها الخليجية، كما تلقى المؤسسات الصينية اهتماماً خاصاً من المستثمرين الخليجيين.
وإضافة إلى هذا التوجه الجديد، فإن هناك اتجاهاً آخر يتمثل في توجه الاستثمارات الأوروبية والأميركية للقيام بعمليات استحواذ في دول مجلس الخليجي باعتبارها دولاً تتمتع بالاستقرار وباقتصادات سريعة النمو.
وفي هذا الصدد تسعى شركة «كارلايل» الأميركية إلى الاستحواذ على شركة للصناعات الغذائية في المملكة العربية السعودية في الوقت الذي يتطلع فيه المستثمرون الغربيون إلى المزيد من الصفقات في بلدان الخليج العربي.
وإلى جانب قوة الاقتصادات الخليجية الصاعدة، فإن دول مجلس التعاون تتمتع بوضع ائتماني جيد يتيح تمويل صفقات استحواذ كبيرة في الأسواق الخليجية، وهو ما تفتقد إلية الأسواق الأوروبية والأميركية في الوقت الحاضر.
وفي الوقت الذي تحاول فيه مختلف البلدان والمؤسسات الاقتصادية والمالية تحقيق عوائد مالية جيدة جراء عمليات الاستحواذ، فإن هناك العديد من المكاسب التي يمكن تحقيقها من خلال هذه العمليات؛ إذ تتمثل أهم هذه المكاسب في اكتساب شركات البلدان المتسحوذة للتقنيات الحديثة وتوطينها في بلدانها من خلال فتح فروع للمؤسسات المتطورة تقنياً، إضافة إلى أن المؤسسات الغربية تمتلك خبرات تسويقية مهمة تتيح للشركات الخليجية إمكانية استيعاب هذه الخبرات وتسخيرها لفتح أسواق جديدة للمنتجات الخليجية، وخاصة في صناعات البتروكيماويات ومشتقات النفط والألمنيوم. ويبدو أن انتهاء أزمة القروص في منطقة «اليورو» وعودة الانتعاش للاقتصاد الأميركي سيفتح شهية الاستحواذات العالمية من جديد، إلا أن طبيعة هذه الاستحواذات واتجاهاتها ستختلف عنها في فترة ما قبل الأزمة؛ إذ سيتزامن ذلك مع توفير قدرات مالية كبيرة لدى البلدان الصاعدة؛ وخاصة لدول مجلس التعاون الخليجي؛ ما يتطلب اتخاذ سياسيات استحواذية تهدف إلى دعم الاقتصادات الخليجية من خلال اكتساب التقنيات الحديثة واختيار الشركات التي يمكن أن تساهم في تنويع مصادر الدخل، وخاصة الصناعية منها لإنجاز أحد أهم الأهداف الاستراتيجية التي تسعى دول المجلس إلى تحقيقها
العدد 3402 - الجمعة 30 ديسمبر 2011م الموافق 05 صفر 1433هـ