الزمن لا يشيخ؛ وخصوصاً للذين هم شاهدون عليه. هم يمثلونه في أكثر من قلب وحس إضافي في اللحظات الفارقة والحاسمة. هم ثرمومتر الزمن. تقيس كائناته حيويتها ومعناها وقيمتها من خلال الصعب من المواقف التي سطروا، والخيارات التي لم يترددوا في الانحياز إليها إلا في وعي جمعي، بعيداً عن الفردية وانتخاب المصالح.
البعض يريد للزمن أن يشيخ ويهرم ضمن شروطه واصطفافه أو حتى مزاجه. ذلك لن يحدث؛ لأن الزمن ليس أجيراً عند أحد بالمياومة أو براتب مقتطع يحدده صاحب مزاج أو وهم.
لا مزاج ولا وهم للزمن. للزمن ذاكرته العصية على الاختراق أو الاستبدال أو حتى محاولة العبث بها. إنه متغلغل في مفاصل التفاصيل التي قد نرى أو قد يصطنع بعضهم عدم إمكانية رؤيتها، وهنا أيضاً تظل المسألة ضمن دائرة المزاج أو الوهم.
عبدالكريم العليوات واحد من شهود مرحلة فاصلة من زمن البحرين، بشراً ومكاناً وأحداثاً وتحولات. وحين يتذكر هنا لا ليذهب في السرد، بقدر ما يذهب في محصلات ذلك السرد.
ولد في العام 1929. والده عبدعلي العليوات، أحد قادة هيئة الاتحاد الوطني في خمسينيات القرن الماضي. التحق بالمدرسة الابتدائية الشرقية، ثم أكمل دراسته الثانوية في مدرسة المنامة بالقسم التجاري. عمل بوظيفة أمين سر في المحكمة الكبرى من العام 1945 ولغاية 1953. أول مدير للمكتبة العامة في المنامة في العام 1948. عضو مجلس إدارة بنك الإسكان لغاية العام 2000. قام مع أخيه فيصل بتأسيس مكتبة تجارية في منتصف خمسينيات القرن الماضي، تحت مسمى «مكتبة الأندلس» ثم تحت اسم الشركة العربية للوكالات والتوزيع. ولاتزال المكتبة مستمرة لغاية الآن؛ إذ تقوم بتوزيع وبيع الكتب والمجلات.
في العام 1965 انضم إلى اتحاد الناشرين والموزعين في العالم (الديتبرس). وفي العام 1970 انضم إلى اتحاد الموزعين العرب.
في 30 مارس/آذار العام 1971 أقام العليوات أول معرض للكتاب في البحرين، وأقامه في نادي العروبة، برعاية من القائم بأعمال رئيس التربية والتعليم حينها الراحل الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة. نظم معرضاً آخر للكتاب في العام 1973، اشتركت فيه أكثر من عشرين دار نشر عربية، وأقيم في قاعة القسم التجاري بمدرسة المنامة الثانوية للبنين.
قامت مكتبته بإصدار مجموعة من الإصدارات المهمة في سبعينيات القرن الماضي، في مختلف مجالات الفكر والمعرفة وخاصة الأدبية، مثل «موت صاحب العربة» للأديب محمد عبدالملك، و«ديوان البشارة» لقاسم حداد، ومجموعة قصصية لفؤاد عبيد، وغيرها.
كما قام بنشر كتاب «البحرين عبر التاريخ» للشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة وعبدالملك يوسف الحمر، وكتاب «البحرين وأهميتها بين الإمارات العربية» لإبراهيم عبدالكريم محمد. كما قام بطبع دواوين الشاعر الراحل إبراهيم العريض.
بعد استقلال البحرين العام 1971، فاز العليوات بعضوية المجلس التأسيسي، وكان من الأعضاء الذين شاركوا بفاعلية في مناقشة وإقرار مسوَّدة دستور 1973، الذي تشكل بموجبه المجلس الوطني في مطلع السبعينيات.
العليوات ينظر الى مكتبته ويتابع كل ما له علاقة بالكتاب والتوزيع والنشر ومعارض الكتب. هنا تبدأ السيرة... هنا يتذكر عبدالكريم العليوات.
في المخارقة، تلك البقعة الصغيرة بمساحتها، والكبيرة بعطائها وفي قلب المنامة النابض بالحب والخير والسماحة والوفاء كان يعيش والدي وعائلته الكبيرة.
منطقة في المنامة، هي من أقدم الأحياء إرثاً تاريخياً ونضالياً سياسياً؛ إذ احتضنت أكبر الأحداث المعارضة والوطنية، وإليها ينتمي كبار علماء البحرين. قلبها ينبض بالحيوية والحركة ليل نهار.
في ذلك الحيِّ العريق العتيق وبين تلك الأزقة الضيِّقة، والبيوت المتراصَّة والمتحابة، كان مولدي وإلى منبع التراث وعاصمة المنامة القديمة أنتمي. هذا الحي الذي ضم العديد من أشهر أُسر المنامة وأكثرها نفوذاً وانتشاراً، والتي عرفت بوطنيتها واتجاهاتها العروبية.
الولادة والعائلة
ولدت في فريق المخارقة العام 1929 وأنا الإبن البكْر للمرحوم عبدعلي العليوات. كان والدي ثرياً يعمل في التجارة الحرة، يشهد بذلك مستوى بيته آنذاك، ومجلسه العامر بأرقى طبقات المجتمع من مفكرين ومتعلمين ومثقفين؛ ولكن هذا لا يعني بأن المجلس مقتصر على النخبة من أفراد المجتمع؛ بل كان مفتوحاً على مصراعيه للجميع. وهذا ما سآتي على ذكره فيما بعد.
ولدت لعائلة عريقة في وطنيتها واتجاهاتها العروبية كعراقة الحي التي تسكنه. يمتد اسمها وتاريخها وجذورها من البحرين إلى بعض مناطق الجزيرة العربية وهي عائلة العليوات.
حين يتحدث المرء عن الطفولة يستذكرها بكل تفاصيلها فهي أروع ما يعيشه من فترات عمره يتذوق من خلالها طعم الفرحة والسعادة وببراءتها يتجرع الحزن والألم، ويتقبل واقعه بكل أحداثه وتقلباته وهكذا كنت في طفولتي فحين بلغت التاسعة من عمري، التحقت بالمدرسة الجعفرية بالمنامة ليبدأ مشواري التعليمي في المرحلة الابتدائية، وحين أستذكر هذه الفترة من طفولتي أتذكر معها الكثير من المرارات والكثير من المعاناة، وخاصة حين ينقلب الحال من اليسر إلى العسر، فعلى رغم أن جدي كان من الأثرياء وكذلك والدي؛ إلا أن دوام الحال من المحال.
تغيَّر الزمان وانقلبت بنا الحال فشحَّت اليد وقل المال، وتأثر نتيجة لذلك وضعنا المعيشي، وتكدَّر الحال، وتمر أمامي صور لا أنساها فيها من القهر والمرارة ما يفوق تحمُّل أحاسيس طفل في التاسعة من عمره. أتذكرمنها كيف كنت وإخوتي نخرج من البيت صباحاً ببطون خاوية نحمل كتبنا وكراساتنا متوجِّهين إلى المدرسة على أمل طعام الإفطارقد يأتي فيما بعد،
أما والدي فقد كان يخرج باكراً إلى السوق ليتدبر الأحوال، يحمل معه غصَّة جوعنا ومرارة عيشنا، ويغالب الوقت ليحضر بعض المال ويعطيه إلى والدتي التي قد تفوقه ألماً علينا ونحن نخرج من البيت خمص البطون، وتحمل همَّه؛ اذ لا تعلم كيف سيدبِّر الأمر. تقوم أمي بدورها بتحضير طعام الإفطار لنا وتحضره إلى المدرسة وقت الفسحة، وهو موعد الوجبة الثانية لأقراننا في المدرسة كانت تنتظرنا دائماً في مكان محدد خارج المدرسة. مكان عرفناه وتعودنا عليه فنذهب إليها لنتناول الطعام. كنا 3 أطفال، وفي طفولتنا عايشنا الكثير من المشاهدالحياتية المريرة التي مرت بها الأسرة بل وحتى المجتمع.
ربما استغرقت في الحديث عن طفولتي فأغفلت الحديث لكم عن نسبي لأمي الذي لم يكن أقل شرفاً ووزناً اجتماعياً عن والدي، فهي أيضا تتحدَّر من عائلة عريقة في المنامة. وهي عائلة الصادق واسم أمي رحمها الله فاطمة محمد الصادق. وأنا حين أقول أمي أذكر قلبها الكبير وحضنها الدافئ وصدرها الحنون وأياديها البيضاء وعطاءها اللامحدود وإحساسها الصادق وعطفها الدائم.
كانت تمتلك قلباً يتسع لنا جميعاً. قلباً كبيراً طاهراً نقياً نتقاسم حبُّها أنا وإخوتي وأخواتي بل وحتى أحفادها. كان عطاؤها فيضاً نتقاسمه جميعاً. ننهل من حنانها العظيم ونستلهم من صدرها الحاني وقلبهاالكبير اسمى مشاعر الحب والرحمة. حنان لم ينقطع إلا بعد أن سمتْ روحها إلى بارئها وغادرتنا إلى الأبد، ومازلنا حتى اليوم نستذكر حلمها وحكمتها وصبرها وإخلاصها الثابت.
العلاقات الاجتماعية
أما عن العلاقات الاجتماعية، فإن العلاقة بالجار هي ما يجب الحديث عنه في البداية. نعم فقد كانت علاقتنا مع الجيران تتسم بالتعاطف والمودة وحسن الجوار. علاقة تكافل ومحبة تتجسَّد في تبادل الزيارات والمعاملة الحسنة. علاقة يسودها الوئام والانسجام وخالية من التعقيدات. كل يسعى إلى توطيدها بهدف استمرار الحياة الاجتماعية السليمة والمترابطة؛ فالجيران كانوا إخوة فيما بينهم يحفظون حرمة بعضهم البعض. يصونون العادات والأعراف، وهذا ما كان يُشعر الجميع بالأمان.
وقد كانت عائلتي على علاقة جيدة ببقية العائلات في الحي، وخاصة عائلة المسقطي والمخرَّق والسماهيجي. أما الجيران الملاصقون لمنزلنا فكانت عائلة المرحوم سعيد الزيرة، وكان الترابط والمودة هما المسيطران على العلاقات فيما بين عائلة العليوات وبقية عائلات فريق المخارقة.
مجلس عبدعلي العليوات
ويأخذني الحديث بالتدريج من الجيران إلى المجالس آنذاك، فكما أن الأمس لا يشبه اليوم في شيء؛ فالمجالس أيضاً اختلفت فمجالس الأمس بمفهومها الأول ودورها القديم لم تعد هي نفسها مجالس اليوم، فقد تخلى معظمها عن وظيفته. لم تعد تمارس دورها كضابط للأفراد ولا كمراقب للسلوك ولا كمتابع للمكارم. ولم تعد تُعنى بغرس الفضائل في النفوس.
تعرض في تلك المجالس خلافات ومشكلات روادها ومن ثم تناقش بأمانة وصدق بعيداً عن الأنساب والعواطف وتوضع لها الحلول المرْضية لجميع الأطراف المتخاصمة على أن يلتزم الطرفان المتخاصمان بالحل عن طيب خاطر واقتناع دون حاجة لمحاكم أو شرطة. كانت المجالس بما فيها من شخصيات هي من يقرر مصالحة الأفراد ومستقبلهم. ولقد اعتاد أفراد المجتمع مجالسهم إلى درجة أنها أصبحت ضمن برنامجهم اليومي لا يكاد يتخلف عنها أحد، لما لها من أثر محبّب عندهم وتلقائية في اجتماعهم وأنس ببعضهم ومصلحة عامة وإخاء يجمعهم. هي جزء مهم وعنصر أساس للاستقرار الاجتماعي؛ إذ كانت ومازالت لها الدور الأساس في تخريج الأجيال وتعليمهم كيفية مواجهة الحياة بشتى مجالاتها. هي مدرسة الإنسان التي تساهم في بناء ذاته يتعلم من خلالها كيف يتعامل مع الناس وكيف يصبح رجلاً ناجحاً
ولذلك، كان الرجال يصطحبون أبناءهم إلى تلك المجالس كي يتعلموا الرجولة ويكسبوا خبرة من الكبار. يتعلمون أدبهم وطريقة كلامهم بل وربما يقلدون بعض تعبيراتهم في طريقة الكلام. متى يتحدث؟ ومتى عليه أن يصمت؟
فمن هذه المجالس تتخرج أجيال واعية تتعلم كيف تتعامل مع المجتمع في كل حالاته وتنشأ على العادات والأخلاق الحميدة وتنضج عقولها على مفاهيم وقيم ومثاليات. قد لا تتوافر لها حتى في كتب التعليم التربوي وبهذا يتربى الناشئة على مكارم الأخلاق التي بموجبها يتماسك المجتمع وتسوده المحبة والتعاون.
فالمجالس في تلك الفترة كانت عبارة عن مؤتمرات يومية بل كانت أكثر تنظيماً وإدارة تطرح فيها القضايا بهدوء وتناقش برويَّة وبأسلوب شيِّق ومؤدب لا صراخ ولا ضوضاء. الجميع يصغي والمتحدث واحد.
ومجلس عبدعلي العليوات كان واحداً من هذه المجالس يرتاده كثير من الشخصيات المعروفة بثقلها الاجتماعي الثقافي، والمعروفة بحكمتها ودرايتها بهموم وشئون الناس وقضاياهم
ويعتبر مجلس الوالد من المجالس المعروفة في منطقة المنامة وغيرها، وله مرتادوه من مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية والسياسية وهو مفتوح دائماً للأهالي، وخاصة في المناسبات والأعياد؛ إذ كان الوالد يستضيف الأهالي على القهوة المُرَّة فقط وكأنه يريد بذلك أن يوصل رسالة لزواره مفادها إنني أستضيفكم للمجالسة والاستفادة مما يدور في مجلسي من مناقشات وحوارات هي أهم بكثير من الأكل واستعراض الكرم والبذخ (كما هو شائع في مجالس اليوم).
إن طرح قضايا الناس وهمومهم ومشكلاتهم أهم بكثير مما يأكلونه أو يشربونه في المجالس حتى لا تفقد المجالس قيمتها ورسالتها. في تلك الفترة الزمنية كان الشغل الشاغل للناس هو التزود بالثقافة والمعرفة والاستفادة مما يطرح من مناقشات في المجلس؛ إذ كان المجلس يمتلئ بالحضور وبالشخصيات المرموقة.
كبرت وكبر الهم معي وتحولت معاناتي إلى لون آخر أكثر أهمية ومسئولية، وخاصة حين عمل والدي (رحمه الله) في بيع المواد الغذائية، وما هي إلا فترة من الزمن، حتى تحول للعمل في مجال تجارة الحديد، وبحكم علاقتي الحميمة بوالدي حينها كنت مساعداً له في أعماله، وأستذكر هنا حادثة مرت بنا مازالت تسكن في أعماقي مرارتها وطعمها العلقم.
شحنة الحديد
فيما أذكر ذات مرة، استأجر والدي باخرة من شركة «كانو» بغرض توريد ألف طن من الحديد ولكن ما وصل منها 800 طن فقط، ولم يكن هناك متسع من الوقت لتحميل الشحنة، فطلب والدي من الشركة تمديد فترة الاستئجار. لكن الباخرة غادرت دون إكمال عملية إنزال الحمولة.
لم تكن هذه الحادثة مجرد مشكلة عارضة يمكن تجاوزها بل كانت مأزقاً وورطة، وخصوصاً على مستوى التمويل؛ إذ إن البنك الذي كنا نتعامل معه لا يسلم المبلغ المتفق عليه إلا بعد إنزال الشحنة، ولكن الباخرة - وللأسف الشديد - غادرت دون أن تستكمل مهمتها، فلم نحصل وقتها على التمويل، فكانت الخسارة بمستوى الكارثة.
هذه القصة حدثت في مطلع الأربعينيات، وعلى رغم صغر سني في ذلك الوقت إلا أنني أحسست بمسئولية عظمى تجاه والدي والوقوف معه في محنته بكل عزم وحزم في تلك المحنة، علّنا نتجاوزها معاً ونصل إلى بر الأمان. وقفت معه بكل قوتي وعزمي. ثورة الشباب وهمته تدفعني لأن أعمل وأحاول بشتى الطرق معه جنباً إلى جنب حتى نتخطى الصعب والمستحيل، وأثبت له كفاءتي في إدارة الأزمة ومحاولة تخطيها إن لم أستطع التغلب عليها.
بذلنا معاً محاولات كثيرة، أذكر منها أنني توجهت إلى المملكة العربية السعودية لمقابلة المسئولين في بنك اسمه «دو شاينه» لطلب التمويل، لكن المحاولة لم تفلح.
وفي ذلك الوقت، عملت في المحكمة وجمعت مبلغاً من المال وكنت متهيئاً لمتابعة موضوع الشحنة، فسافرت إلى بيروت وإلى بغداد أيضاً للتفاهم مع مكتب الشركة هناك، وأتذكر أن والدي لحق بي إلى العراق، لكنني في ذلك الوقت عدت إلى لبنان مرة أخرى، لكن النتيجة هي أن البضاعة شحنت إلى إيطاليا وتم تخزينها هناك باعتبار أن إيطاليا هي بلد المنشأ، ثم بيعت الشحنة بثمن بخس بعد أن ارتفعت رسوم تخزينها.
بعد ذلك توالت الخسائر علينا وتغيرت أوضاعنا وتحولت هذه العائلة من السعة إلى الفقر، والسبب في ذلك هو مضايقات المستشار البريطاني تشارلز بلغريف للوالد في أي عمل يقوم به سواء على المستوى الشخصي أو الحكومي وكان الهدف من وراء تلك المضايقات إذلال والدي وإخضاعه لتنفيذ ما يمليه عليه المستشار وأعوانه. ولكن والدي كان كالطود لم يلن ولم يتراجع ولم يخضع لأوامر المستشار وغيره وبقي حراً في قراراته وسياساته، أميناً على رسالته تجاه شعبه ووطنه، كل هذا أوغر قلب المستشار عليه فامتلأ غيظاً وحقداً؛ ما دفعه إلى السعي في تجريده من مناصبه بطرق مباشرة وغير مباشرة.
غاب عن ذاكرتي الكثير منها؛ فبالإضافة إلى أعمال العليوات التجارية في الاستيراد والتصدير، كان عضواً في إدارة أموال القاصرين وإدارة الأوقاف الجعفرية، وعضواً في مجلس غرفة التجارة، وعضوا في المجالس البلدية. فبالإضافة إلى الكثير من المهام الاجتماعية الخيرية التي جعلته أكثر التصاقاً بالشعب وهمومه ومجمل قضاياه أذكر منها، أنه وبحكم مسئوليته عن مأتم مدن بالمنامة آنذاك كان وثيق الصلة بالمواكب الحسينية؛ ما دفع خصومه لوصفه برجل دين لا علاقة له بالسياسة في وقت كان العليوات يتنفس السياسة بعدد ثواني أيامه ولياليه.
كان عضوا إدارياً ومؤسساً في المدرسة الجعفرية (مدرسة أبوبكر الصديق حالياً)، ولم يغفل العليوات عن الجانب الإنساني الخيري فقد كان من مؤسسي الجمعية الخيرية، وكان في اجتماعات لا تنتهي مع فئات الشعب الأكثر حاجة للوظائف والعيش الكريم. وأتذكر أنه وقبل اندلاع الأحداث في فترة الخمسينيات كان مهتماً بتوظيف البحرينيين في شركة بابكو بل ويطالب بمساواتهم ومعاملتهم بصورة إنسانية تليق بمواطن يتمتع بحقوق المواطنه. وباختصار كان يضم شعبه في قلبه ويسكن قلب شعبه.
وإمعاناً من المستشار في مضايقة الوالد كان يسند إليه الأعمال التي تؤدي إلى الخسارة، ويحاول منعه من عضوية البلدية وفي بعض الأحيان يقوم بالتأليب عليه أو الكيد له ولكنه لم يستسلم ولم يتراجع عن قيمه ومبادئه.
وهذا ما سنعرفه من خلال سيرته النضالية.
تدرُّجي في الأعمال
أعود ثانية إلى الحديث عن نفسي لأروي لكم كيف تدرجت في الأعمال وكيف تقلدت كلاً عمل منها.
بداية حياتي العملية كانت مع والدي؛ إذ تعرفت على طبيعة عمله المتمثل في العمل التجاري والاستيراد والتصدير، وكذلك العمل في مواد البناء مثل الحديد والأسمنت وما إلى ذلك؛ إلا أن أول عمل منظم قمت به هو تأسيسي للمكتبة العامة في البحرين وكان ذلك سنة 1944 وهي أول مكتبة عامة في البحرين.
كان ذلك بعد أن أنهيت دراستي في المرحلة الابتدائية في المدرسة الجعفرية والتحقت بالمدرسة الشرقية حيث كانت تقع مكان مخبز حسن محمود اليوم، وواصلت دراستي فيها، وفي الطابق العلوي من المبنى المقابل تقع إدارة المعارف سابقاً أيضاً، وفي الطابق الأول كانت تقع مكتبة المنامة العامة.
إلى هنا تبدو الأمور طبيعية فأنا ما زلت طالباً في المرحلة الثانوية ولكن ما هو غير اعتيادي هو أنني عينت فيها أميناً عاماً لأصبح أول بحريني يتم تعيينه أميناً عاماً للمكتبة وذلك في العام 1944 وقتها - وكما قلت سابقاً - مازلت طالباً.
ولكن المدير اقترح أن أكون أميناً عاماً وأداوم بالمكتبة فترة العصر، وكان مساعدي في ذلك الوقت الأخ خالد عبدالعزيز القصيبي، وكان إنساناً طيباً متعاوناً فعملت أمينا للمكتبة لمدة ثلاث سنوات ولم أكتف بأن أكون أميناً عاماً؛ بل قمت بالكثير من الأعمال الإضافية كترتيب الكتب وجدولتها وما إلى ذلك من أعمال تعين القارئ والباحث وتسهل عليه مهمته، وبعدها تخرجت والتحقت بأعمال أخرى. (يتبع..
العدد 3431 - السبت 28 يناير 2012م الموافق 05 ربيع الاول 1433هـ