العدد 3434 - الثلثاء 31 يناير 2012م الموافق 08 ربيع الاول 1433هـ

عبدالكريم العليوات يتذكر (4) ... والدي ساهم في تحويل فتنة 1953 إلى حركة وطنية

الزمن لا يشيخ؛ وخصوصاً للذين هم شاهدين عليه. هم يمثلونه في أكثر من قلب وحس إضافي في اللحظات الفارقة والحاسمة. هم ثرمومتر الزمن. البعض يريد للزمن أن يشيخ ويهرم ضمن شروطه واصطفافه أو حتى مزاجه. ذلك لن يحدث؛ لأن الزمن ليس أجيراً عند أحد بالمياومة أو براتب مقتطع يحدده صاحب مزاج أو وهم.

عبدالكريم العليوات واحد من شهود مرحلة فاصلة امتدت منذ منتصف القرن العشرين وشهد أحداثاً وتحولات.

وحين يتذكر هنا لا ليذهب في السرد، بقدر ما يذهب في محصلات ذلك السرد. يواصل عبدالكريم العليوات حديث الذكريات.
 

كما ذكرت، فإن حركة 1934 كانت بقيادة والدي وعدد من وجهاء البحارنة، ولكن في 1938 توسعت الحركة واصبحت بقيادة شخصيات ووجهاء من كل فئات الشعب. ولو عدنا إلى التاريخ فإن مثل هذا التطور له اسبابه المنطقية، فحتى العام 1923 كان البحارنة يخضعون لنظام السخرة، وهذا الظلم (السخرة وغيره) انتهى بعد انتفاضة كبيرة وبعد ان تغيرت إدارة الدولة بالكامل وانتقلت من أسلوب المشيخة القبلية إلى إدارة الدولة الحديثة، وهو ما أطلق عليه بالاصلاحات الإدارية. وكانت مطالب قادة البحارنة آنذاك هو الحصول على المواطنة المتساوية، وذلك مقابل تأييدها لشرعية الحكم واعتماد نظام إدارة الدولة الحديثة، وعلى هذا الأساس انتقل القضاء الجعفري والأوقاف الجعفرية ليصبحا جزءاً من إدارة الدولة.


وكانت حركة 1934 التي شارك في قيادتها والدي (عبدعلي العليوات) مع آخرين كما مر ذكر ذلك، تذكير بالمطالب العادلة التي تحقق جزء منها في العشرينات مقابل مساندة الشرعية في ترتيبات الحكم، ولكن الردود الرسمية كانت سلبية. غير أن الأمر تطور مع نشوء طبقة عمالية في شركة النفط، وازداد نشاط الأندية الثقافية، وبدأت الأفكار الوطنية تتعمق لدى النخب البحرينية من كل الفئات.


تزامن في 1938 أن تحرك الوجيه يوسف فخرو بشأن تثبيت ولاية العهد، وهذه كانت فرصة لوالدي وقادة حركة 1934 لتنشيط مطالبهم، سوى أن الوعي التاريخي لجميع الشخصيات البحرينية كان قد وصل الى درجة عالية، ولذا فقد تكونت قيادة للحركة المطلبية في 1938 بقيادة من وجهاء السنة والشيعة، وهم كما ذكرت سابقاً: علي بن خليفة الفاضل، محمد الفاضل، خليل المؤيد، يوسف كانو عبدالرحمن الزياني، سعد الشملان، أحمد الشيراوي، محسن التاجر، محمد علي التاجر، السيد سعيد بن السيد خلف، عبدعلي العليوات، منصور العريض، السيد أحمد العلوي، والشيخ عبدالله بن محمد صالح، والحاجي أحمد بن خميس.
في الحقيقة هذه المواقف الصلبة والثابتة لوالدي جديرة بأن تذكر لأنها من أوراق تاريخه النضالي الذي أسس لما سيأتي من بعده، وإذا تتبعنا مواقفه استطعنا الوصول إلى حقيقة شخصية هذا الرجل السياسية الوطنية وعقيدته الصلبة وصدره الزاخر بحب وطنه وشعبه بصدق وأمانة واستعداده الكامل للتضحية من أجل مبادئه الوطنية والقومية التي تجلت بوضوح حين توترت الأوضاع السياسية في منتصف العام 1938 ورأى المواطنون بأن التحديث الحقيقي للبلاد لا يمكن أن يتحقق في الإصلاحات الإدارية دون مواكبتها بإصلاحات سياسية. وقد وضعت هذه الحركة الأساس لعمل سياسي منظم يعبر فيه الناس عن مطالبهم السياسية والحقوقية.


قد ذكر مهدي التاجر في كتابه «البحرين 1920-1945»: أن المطالب لخصت في أربع نقاط: إنشاء مجلس تشريعي يتألف من 20 عضواً ويكون رئيسه الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة (الذي سينصب ولياً للعهد)، وأن تكون جميع شئون البلاد من أحكام وبلديات وجمارك والجيش بيد المجلس. وأن يكون المرجع الوحيد للمجلس هو عظمة الحاكم الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة. وأن يمنع الأجانب من التدخل في شئون البحرين وتجريدهم من كل سلطة.


وهذه الدعوة للإصلاحات جاءت متأثرة أيضاً بحركتي إصلاحات مماثلة في كل من الكويت ودبي العام 1938، ولكن كانت الأوضاع السيئة في شركة نفط البحرين (بابكو) من سببت تقليص عدد العمال بعد اكتمال عدد من المشاريع الإنشائية في الشركة واستغنائها تبعاً لذلك عن عدد كبير من العمال (كان عدد العمال 3350 بحرينياً العام 1937 وتقلص هذا العدد إلى 1569 عاملاً العام 1938)، يضاف إلى ذلك طريقة معاملة العمال المحليين مقارنة بمعاملة العمال الأجانب على مستوى الأجور ومستوى التسهيلات الأخرى، فوجد عمال بابكو الفرصة مناسبة لطرح ظلامتهم على الرأي العام ونجحوا في إقناع القيادات من كل فئات المجتمع بتبني هذه المطالب. وهكذا توسعت الحركة الوطنية في نشاطاتها، ولكنها قمعت وانتهت الحركة، وتمت محاكمة سعد الشملان وأحمد الشيراوي وعلي بن خليفة الفاضل وصدرت ضدهم أحكام وتم نفيهم إلى الهند.


وللحق أقول، فإن الوالد عبدعلي العليوات كان مدافعاً صلباً عن الشخصيات الوطنية والقضايا السياسية والنقابية، متشبثاً بمواقفه لا يتراجع عن المطالبة بحقوق المظلومين والمقهورين من أبناء وطنه. وقد دافع عن حقوق شعبه وآماله في قضية مصيرية، وتميّز بإحساسه الكبير بواجبه الوطني، واندفاعه للخدمة العامة. كان مؤمناً بالوحدة الوطنية والعمل من أجلها وبالعيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد التزاماً منه بالانتماء الوطني والقومي، فقد عاش حياته كلها بعيداً عن الطائفية والمذهبية، بل واجه الطائفيين في العديد من المواقع.


الفتنة الطائفية في 1953

عندما أختلي بنفسي لأستذكر التاريخ تحضرني أحداث مرّة، وأحاديث طويلة يصعب عليَّ الإمساك بها لعبورها السريع من ذاكرتي، ولذلك أقول لكم صادقاً، إنني أعرف بداياتي وقد لا أدرك النهايات لقسوتها ومرارة الأحداث فيها لأنها ترجمة مؤلمة لمعاناة السنين ووجع القهروالصمت والانزواء.
دائماً هي الخنجر المسموم الذي يغرس في خاصرة الوطن فيهدر طاقات وقدرات الشباب ويشل تفكير الرجال وعقولهم فيتراجع الوطن عن سائر القيم الحضارية الداعمة لمبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.


هي الفتنة (لعنها الله) بكل ألوانها وإداراتها وشخوصها هي البدايات نفسها تعيدني إلى الزمان والمكان الى مطلع الخمسينيات، فما نشاهده اليوم ونسمعه من تصعيد مفتعل للهجة الفتنة والترويج الخطابي المقصود لإثارة النعرات الطائفية إنما يهدف إلى اقتتال الإخوة في الوطن الواحد وزعزعة أمنهم واستقرارهم وبث سموم الفتنة بأبواق التفكير المتطرف والإقصاء وكيل التهم بالولاءات والانتماءات لهذا أو ذاك. ولكن فتنة اليوم جاءت بشراسة أكبر وبوحشية لا حد لها.


هذا التفكير المتطرف والتعصب الأعمى هو نبت غريب وفد من الخارج ونما في ظروف الانغلاق والتعصب والتثقيف التكفيري. فعلى رغم النسيج المتماسك وإرث العيش المشترك والمتسامح بين مكونات الشعب البحريني إلا أن الفتنة أطلت برأسها من جديد، وتحولت المنابر الدينية إلى أماكن للتراشق بالألفاظ وكيل الاتهامات والتكفير وبث سموم الفتنة والتناحر الطائفي وكل هذا باختصار لتحقيق مكاسب سياسية مادية فقط. أما أمن الشعب واستقراره فهذا لا يعني لهم شيئاً.


هذه الطائفية مورست في بداية الخمسينيات وكادت تحقق مبتغاها لولا وعي وقوة الرجال العقلاء وتوحد الطائفتين الكريمتين في التصدي لمروجي الأفكار المخربة واستبعاد المصطلحات الداعية إلى التقسيم المذهبي والمحملة بروح التفريق والتمزيق الطائفي؛ ما أدى إلى قهرها ودحرها خائبة ذليلة.
كان موكب المعزين في صباح يوم الأحد العاشر من المحرم 1363 هـ (20 سبتمبر/ أيلول 1953م) يتحرك على خط السير الذي كان متفقاً عليه مع الشرطة في شوارع المنامة، ولم يكن أحد يتوقع أن هناك أمراً مدبَّراًً لضرب وحدة الشعب بإثارة القضايا الطائفية. فمواكب العزاء ليست ظاهرة جديدة في المجتمع. وقد اعتادها منذ قرون طويلة، ومضى أكثر من عشرين عاماً على ظهورها بالنمط الحالي. ولكن ما حدث في ذلك الصباح كان أمراً آخر.


وكما تشير الوثائق التي سردت الحدث، فعندما كان الموكب يسير في شارع بلغريف في المنامة حدثت مشادة بين عدد من المشاركين في الموكب (وهم من الشيعة) وآخرين كانوا يتفرجون على جانب الشارع (وهم بعض السنة). وذكرت بعض التقارير أن رجال الشرطة حاولوا اعتقال أحد الشيعة كان في حال غضب مع المتفرجين، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك بسبب الزحام وضجة الجموع. بعد قليل تمكنت سيارة حكومية من شق الصفوف وإرجاع حالة من الهدوء بين الجموع. في هذه الفترة كانت المشاعر تغلي بين الجانبين حيث بدأت الاستعدادات لمواجهة دموية، هذا في الوقت الذي كان فيه رجال الشرطة يحاولون اعتقال بعض الشباب. وهنا حاول بعض الشيعة إطلاق سراح عدد من رفاقهم من أيدي الشرطة، وبدأت هنالك معركة بين الجانبين بعد أن فقدت الشرطة السيطرة على الموقف.


نلاحظ أن اشعال الطائفية في خمسينات القرن الماضي ادى الى انطلاق أكبر حركة وطنية في تاريخ البحرين. وتولدت عن هذه الحادثة عدة صراعات طائفية، تدخلت الشرطة خلالها واعتقلت العديد من الافراد وسجنت بعضهم. تحرك والدي (عبدعلي العليوات) مع شخصيات عامة مثل عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان من أجل احتواء الموقف، وتكللت هذه التحركات بردء الفتنة الطائفية وتوحيد صفوف النخبة والوجهاء مع جماهير الناس حول أهداف وطنية إصلاحية للجميع. ولا يختلف اليوم عن الأمس وإن اختلفت الأسماء والشخصيات الساعية دوماً إلى تقسيم المجتمع والوقوف دون اندماج فئاته الوطنية في مسيرة التقدم والإصلاح بالإضافة إلى ما تفرزه ممارستها من أزمات تؤدي إلى العنف المضاد، فعلينا جميعاً التصدي لها حتى لا نسمح لأكثر فئات المجتمع تخلفاً وتعصباً بالظهور كمخلصين وأمناء على مصلحة الشعب والوطن. فالذين يثيرون الفتنة أناس لا تهمهم البحرين ولا مستقبلها فالتطرف لا وطن له ولا قضية ولا يهمه غير تمزيق النسيج الاجتماعي وتشويه قيم المواطنة وزعزعة الثوابت الوطنية الإسلامية وتوليد ثقافة العنف والإقصاء والعنف المضاد وبالتالي تعطيل التقدم والازدهار. هؤلاء الناس وفي غمرة اندفاعهم باتجاه تمزيق الوطن يعلمون جيداً أن تحريك الفتنة الطائفية جريمة كبرى ومعركة خاسرة ليس فيها منتصر فالكل مهزوم مهزوم.


والسؤال الذي يطرح نفسه: من المستفيد من إشاعة أجواء الاحتقان والتوتر الطائفي؟ والجواب بكل بساطة لا أحد غير المتربصين بأمن الأمة واستقرارها. إذن، ما أحوجنا اليوم إلى وقفة مفصلية من عقلاء الطائفتين الكريمتين. وقفة لا تلاحق الظواهر بل تتبع الأسباب المنتجة والمساعدة لها، على أن يكون الهدف المشترك هو بناء جسور التفاهم والوصول إلى أرضية مشتركة تمكننا من التوصل إلى حل قضايانا سنة وشيعة لنتمكن من القضاء على الفتنة قبل أن تنمو وتتصاعد لتحرقنا جميعا. وليس هناك طريق يمكن أن يسلكه السياسيون سوى الحوار الموضوعي المتحضر والتحليل المستفيض لكل ما جرى ويجري. فما من شيء يمكن أن يخفف حدة التوتر غير إعمال العقل والمنطق والتعامل مع الآخر على أساس احترام العقيدة والمذهب بدلاً من تعميق الفجوة بين أبناء الشعب الواحد.
إن نبذ الطائفية وإدانتها بلغة واضحة وصريحة وإعلان البراءة من كل سلوك طائفي، يقودنا حتماً إلى تحقيق الوحدة الوطنية. ولا أعتقد أن أي فرد منا يجهل قيمتها في إرساء قواعد الأمن والاستقرار. وحدة تبنى على أسس ثابتة وقواعد راسخة تحمي أهدافنا وتقودنا إلى تحقيق غاياتنا الوطنية بتوافق وانسجام وإيجابية، وحدة بعيدة عن الجهل والتطرف والمكابرة وحدة تتحدى الخسائر والإحباط والنتائج الكارثية المؤدية إلى الشلل الكلي.


ونبقى بانتظار تحرك شعبي يعود بنا إلى الوراء سنين وكأننا نبدأ صحوتنا اليوم وهذا يتطلب تضحيات جديدة حتى يعود الاتفاق أو التوافق ليدفع باتجاه الهدف الأسمى. إن تجاوز البحرين ما مر بها من أحداث وأزمات خلال نصف قرن مضى أو أكثر يدفعنا جميعاً إلى المحافظة على مكتسباتنا ومنجزاتنا بكل مسئولية والتزام ووعي وطني شامل نصون به وحدتنا ونجسد به معاني الخير والإرادة والخلق والاعتدال لنتجاوز كل المحن والصعاب. جدير بنا أن نستذكر ماضي هيئة الاتحاد الوطني ورجالها، ونستلهم من سيرتهم أسمى معاني الوطنية ونتعلم كيف نخوض ميادين الواجب دون توان ونستمد من كفاحهم عنفوان الرجولة والتحدي؛ ما جعلهم يتجاوزون الصعاب والعقبات بكل ثقة وثبات مدافعين عن حقوق الإنسان البحريني وعزته وكرامته. ولكن وبقدر حاجة الشعب إلى دولة عادلة عزيزة أمينة تمارس وظائفها في إطار التفاعل والتكامل والدفاع عن كيانه وحقوقه تكون حاجته إلى مجتمع ديناميكي ومشارك في تحمل المسئوليات العامة والدفاع عن كرامة الأرض والعرض بما تفرضه عليه روح الوطنية والوفاء، فعليه أن يتصدى لكل فتنة تؤسس لتفريق شمله وإضعافه.


ويقودنا الحديث هنا للعودة إلى الوراء لأحداث غابت عن العيون ولكنها حاضرة في الذاكرة وكأنها تحدث اليوم أو ربما حدثت مع اختلاف بسيط لا مجال للخوض فيه؛ إذ أود التركيز على أحداث الأمس ولكم يا من تقرأون هذه السطور الربط بينهما لتتكشف لكم أمور ربما كانت غائبة عنكم. على كل حال ستكون البدايات من حادثة عاشوراء التي توضح الكثير والكثير جداً مما أردت توضيحه في شهادتي على عصر الهيئة وكيف تمكنت من تجاوز المؤامرات والتحديات وما إلى ذلك من أمور كثيرة ستعرفونها من متابعتكم للأحداث.
 

العدد 3434 - الثلثاء 31 يناير 2012م الموافق 08 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:23 ص

      الظليمة الظليمة العدالة العدالة

      ما وجدته في الوثائق الإنجليزبة من شعارات التي يطلقها البحارنة في بداية انتفاضة العشرينيات وقت ما كانوا حول مبنى المعتمدية البريطانية " الظليمة الظليمة العدالة العدالة"

    • زائر 1 | 4:20 ص

      التاريخ يعيد نفسه

      من قراءتنا حول أحداث البحرين منذ 1920 إلى الحاضر يلاحظ أن التأريخ يعيد نفسه بنفس الأحداث والتضحيات وحتى أسماء الشخصيات المعارضة والموالاة والمؤسف أن الظلم نفسه واقع على فئة كبير من الشعب

اقرأ ايضاً