تماماً كما يكشف السوس في أسنان مرضاه، يحاول الروائي وطبيب الاسنان علاء الدين الأسواني عبر روايته الشهيرة «عمارة يعقوبيان»، تسليط الضوء على بعض من ذلك السوس الذي ينخر في جسد المجتمع المصري وتكاد تفتك به وتحيله من أمة سبقت كثيرات غيرها في فترة زمنية، لشبه دولة يفتك بها الفقر والفساد، والتناقضات الاجتماعية والسياسية والدينية.
اسواني، يقدم للأدب العربي واحدة من أروع الروايات، وهي رواية تمكنت بفضل الرمزية العالية والمباشرة والمتقنة فيها من أن تلامس كثيراً من قضايا المجتمع المصري وهمومه، وأن تضغط على عدد من الأوتار الحساسة بجرأة لم تسبقها إليها أي رواية أو عمل أدبي مصري آخر. وكنتيجة لذلك حققت هذه الرواية المميزة واحدة من أعلى نسب المبيعات في سوق الأدب العربي وأثارت جدلاً عارماً لم ينته حتى كتابة هذا المقال.
بالطبع كان لزاماً ان تجتذب «عمارة يعقوبيان» أشهر صناع السينما في مصر، ليقوموا بتحويلها الى فيلم سينمائي، اثار مجرد الاعلان عنه جدل النقاد والمهتمين بعالم صناعة السينما، وطلق الكثير من الأخبار والشائعات. هكذا ومنذ البداية بدا فيلم «عمارة يعقوبيان»، كروايته تماماً، مختلفاً ومميزاً، مثيراً لتوقعات كثيرة تركزت حول كونه واحداً من أقوى أفلام السينما المصرية وأعظمها.
تزايدت حدة التنبؤات حين برزت الى السطح أسماء مثل وحيد حامد في كتابة السيناريو، ووحيد كاتب مخضرم غني عن التعريف، قدم للدراما والسينما العربية عدداً لا بأس به من أشهر وأقوى السيناريوهات والنصوص السينمائية.
ثم جاء اسم الاعلامي الشهير عماد الدين أديب في الانتاج، مصحوبا بقافلة من كبار نجوم الشاشة الفضية في مصر، يكفي وجود احدهم في فيلم لجعله يعتلي عرش ايرادات شباك السينما، فكيف بهم مجتمعين؟. معظمهم نجوم شباك أوائل يأتي على رأسهم الزعيم عادل أمام، والحاج متولي نور الشريف، وزميلة إمام شبه الدائمة ورفيقة نجوميته يسرا. ثم يأتي نجوم الصف الثاني الذين لا يقلون تألقاً وشهرة عن سابقيهم، والذين يمكن سهوله تلمس علامات نضجهم الفني في مختلف أعمالهم أمثال التونسية هند صبري، وسمية الخشاب، وأحمد بدير، وأحمد راتب، وخالد صالح، وخالد الصاوي.
هم ثلة من أقوى صناع السينما المصرية والعربية وكبارها تجمعوا معا ليصنعوا هذا الفيلم الذي اعتبروه، كما لا يمكن لأحد أن ينكر ذلك، بوابة دخول السينما المصرية للعب الكبار إلى عالم صناعة السينما.
وهي تجربة فنية راقية جعلوا منها مشروعاً لصنع سينما «حقيقية» وبداية للنهوض والعودة للزمن الجميل الذي نافست فيه السينما المصرية نظيراتها في الخارج على مدى 3 عقود بدءاً من الخمسينات وانتهاء بالسبعينات.
جاءوا حاملين رايات التغيير ليعلنوها ثورة في عالم صناعة السينما المصرية، فكان «عمارة يعقوبيان» ثورة غامر فيه اولئك الكبار «سينمائياً» بأسمائهم وراهنت عبره شركة غودنيوز، وهي الشركة الحديثة التأسيس بموازنة بلغت 4 ملايين دولار وهو ما لم تفعله السينما المصرية طوال تاريخها.
غودنيوز قدمت انتاجين لوحيد حامد، تمثل الأول في نص محكم ورصين على درجة عالية من السلاسة في السرد والدقة في التفاصيل. أما الثاني فقد جاء في صورة ابنه مروان وهو المفاجأة الكبرى من شركة الانتاج والسيناريست نفسه. مروان حامد، شاب لا تتجاوز خبرته السينمائية فيلماً قصيراً واحداً لم يسمع به أحد تقريباً صنعه تحت اسم «ليلى». وعلى رغم كونها كذلك إلا أن تجربة مروان، حامل لواء هذه الثورة السينمائية، كانت تجربة مميزة تنبأ كثير من النقاد لصانعها بمستقبل مميز ومختلف.
راهنت الشركة إذن بمالها، وغامر الباقون بأسمائهم وتاريخهم الفني، لا لشيء إلا لأن جميع أولئك أرادوا الولوج من خلال نص وحيد هذا للعب في عالم الكبار. ولأن اللعب مع الكبار له أصوله وقواعده دائماً، ولأنهم يعلمون جميعا انه لا يمكن دخول اللعبة وسوق المنافسة في عالم كبار السينما من دون فهم أصول اللعبة السينمائية واتقانها، فنيا وتجارياً، فلقد حرصوا على الاهتمام بكل التفاصيل الصغيرة في عملهم. وليس ذلك فحسب لكنهم أرادوا أن يقدموا صورة سينمائية مختلفة للسينما المصرية البعيدة كل البعد عن عالم المنافسة هذا، والتي بقيت طوال عقود جاهلة بأبسط أصول اللعبة، وكيف لها ذلك وهي تشكو نقصاً حاداً في كل الامكانات الفنية والتقنية والتجارية وكل شيء يمكنه أن يصنع سينما.
هكذا اهتموا أولاً باختيار طاقم عمل مميز وقادر على انجاح التجربة، فجاء اختيارهم موفقا متمكنا من تقديم هذه الرواية الرائعة في فيلم سينمائي. وهو فيلم أرادوا من خلاله تلمّس مواقع الخطأ في مصر اليوم، بدقة وتفصيل مذهلين.
كذلك يتحدث الفيلم عن سلطة المال والجنس والسياسة في مجتمعاتنا واضعاً يده على مواطن الجروح محاولاً في الوقت ذاته كسر ثالوث الجنس الدين السياسة المحرم.
يستعرض الفيلم كل ذلك عبر قصص عدد من الشخصيات التي تقطن العمارة، المكان الذي جاء اختياره في رواية الاسواني بشكل رمزي ليعبر عن واقع مصر وليرمز إلى ما آلت إليه الأحوال في هذا البلد. فهذه العمارة التي بناها تاجر يهودي يدعى يعقوبيان في ثلاثينات القرن الماضي كانت مسكناً لكبارات رجال الدولة وأثريائها، ومركزاً لبعض حفلات الملك وجلساته الخاصة، لكنها بعد الثورة أصبحت مركزاً لبعض أولئك الضباط الذين أدخلتهم الثورة عالم الأثرياء أو محدثي النعمة الذين ساعدهم الفساد الذي بدأ ينخر في جسد المجتمع المصري للوصول لعمارة يعقوبيان. في داخل العمارة تغوص كاميرا مروان لتكشف كل التناقضات، ثم لتنزل إلى شوارع وبارات ومحلات وشقق وسط البلد وهي التي تدور بداخلها حوادث الفيلم، لتقدم نماذج مختلفة من المجتمع، ولتحكي قصصاً كثيرة وتجعلنا نلتقي بأشخاص متعددين جميعهم على علاقة بعمارة يعقوبيان، بينهم البرجوازيون الطفيلين، والارهابيون، والتغريبيون، ورجال الدين الفاسدين المتاجرين بالدين.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي لزكي الدسوقي «عادل إمام»، الذي يتقاسم احدى شقق العمارة مع شقيقته دولت «اسعاد يونس». ولأنه لا يمكن تصور فيلم لإمام دون كثير من المشاهد المليئة بالايحاءات الجنسية الصريحة منها أو العفيفة، فإن زكي ابن الباشا السابق، هو في واقع الأمر زير نساء يقضي وقته في ملاحقة النساء واصطحابهن من البارات الرخيصة التي يقصدها الى مكتبه الواقع في وسط البلد، ليعاشرهن ثم «لتطير» كل واحدة منهن على ما يمكنها الوصول إليه من ممتلكاته، بالسرقة طبعاً. ويبدو زكي منذ البداية في خلاف دائم مع شقيقته التي تختلق المشكلات حتى تتمكن من طرده من الشقه متذرعة بسوء أخلاقه وفساد سيرته. بالطبع يرمز إمام لطبقة البرجوازيين القدامى ولعهد مصر الزاهر الذي انتهى، فعادل أو زكي يعيش على الأمجاد القديمة ويتحسر في أكثر من مشهد على ماضي مصر، ويلعن رجالات الثورة الذين قضوا على عهد البشوات وأحالوا مصر خراباً بعد أن كانت «الموضة» كما يقول «تغزو شوارعها قبل أن تصل باريس» في اشارة إلى المستوى المعيشي والثقافي والعالي للمصرين أنداك.
في شقة أخرى يقطن الحاج «عزام» نور الشريف الذي تحول من ماسح احذية الى مليونير يملك نصف محلات وسط البلد بفضل فساده وتجارته المشبوهة. بل ويتمكن من ان يصل بعلاقاته وأمواله لمجلس النواب ممثلاً لواحدة من أهم الدوائر الانتخابية هي دائرة «وسط البلد» أو «الكعكة» كما يطلق عليها المسئول الحكومي الكبير المتعاون معه والذي سهل دخوله الانتخابات مقابل مبلغ مالي كبير (كمال الفولي الذي يقوم بدوره خالد صالح).
يتزوج الحاج عزام، المولع بالجنس، سراً من الأرملة التي فقدت زوجها في العراق سعاد «سمية الخشاب» ويشترط عليها عدم الإنجاب. لكن سعاد لا تصغي لأوامره فيسلط عليها ابنه فوزي «تامر عبد المنعم» للانتقام منها بأسوأ ما يمكن.
عزام هو بكل تأكيد خير من يمثل طبقة البرجوازيين الطفيليين، وهي طبقة فاسدة أوصلتها ثورة الضباط الأحرار وبعض «الحسبات» السياسية الخاطئة الى ما أصبحت عليه وبشكل لا يتناسب مع ما يدعيه الحاج من تقوى وورع.
من شقة عزام ننتقل الى شقة ثالثة يسكنها الصحافي ورئيس تحرير واحدة من أكبر الصحف الاقتصادية الناطقة باللغة الفرنسية في مصر حاتم رشيد «خالد الصاوي». رشيد المعروف بشذوذه الجنسي يمثل إذن حلقة التغريبيين وهو يقضي وقته في اصطياد الشباب ليقضي معهم أوقاتاً لطيفة، كما يقول، وليقنعهم بممارسة الشذوذ الجنسي معه. ورشيد الذي يقضي على يد أحد هؤلاء، يدافع عما يفعله في أحد المشاهد، في محاولة منه لاقناع أحد أولئك الشباب بصحة ما يفعلون، فهو كما يقول لا يرتكب محرماً، والحرام الوحيد هو الزنا الذي تختلط فيه الأنساب، أما ما يفعلون فيجب ألا يضايق أحداً.
النموذج الرابع في الفيلم هو لطه الشاذلي، (محمد عادل إمام) ومفاجأة أخرى حقيقية يقدمها الفيلم. طه يحلم بدخول كلية الشرطة، لكن خلفيته الاجتماعية وكونه ابن بواب تحرمه من ذلك، وهو ذات السبب الذي يفرق بينه وبين خطيبته بثينة (هند صبري). ذلك الظلم الاجتماعي يقوده الى التطرف السياسي حين يلتحق أولاً بجماعة دينية الأمر الذي يدخله في متاهات جديدة تنتهي به الى السحب أولاً ثم القيام بعمل ارهابي اخيراً يقتل فيه ضابطاً السجن وتكون فيه نهايته هو أيضاً.
ينتهي طه نهاية مأسوية حين يسقط قتيلاً بعد معركة دامية أحسن المخرج تنفيذها، وجاءت مختلفة عن كل ما سبق أن شاهدناه في أي فيلم مصري آخر، وخصوصاً لأن مروان استعان بطاقم اجنبي ليضبط كل تفاصيل هذا المشهد.
يموت طه في مشهد تختلط فيه دماؤه مع دماء الضابط، وهو مشهد يأتي ليطلق صرخة مدوية وليطرح السؤال الكبير، من الجاني ومن المجني عليه في هذه المعادلات الاجتماعية والسياسية والدينية الفاسدة؟
«عمارة يعقوبيان» فيلم مميز جاء بإخراج متقن كل خطواته مدروسة أجاد فيه المخرج ادارة فنانين كبار، واحسن استخدام ادواته وتمكن من ان ينقل الكثير من أجواء الرواية، معتمدا على صياغة متقنة سلسة بدت في سيناريو والده، مدعوما بمونتير تمكن من أن ينقلنا عبر مختلف المشاهد بطريقة متقنة وسلسة، وموسيقى حيه معبرة عن المشهد الذي تصوره.
هو فيلم تمكنت الشركة المنتجة التي ضخت أموالها من خلاله أن تكسر الصورة النمطية للفيلم المصري ذي الصور الباهتة المليئة بالخطوط والصوت الرديء، ليكون الناتج صوراً على درجة عالية من الوضوح، وصوتاً هو غاية في النقاء. هذا إلى جانب أمور كثيرة قد لا يسع المجال لذكرها هي ما جعلت فيلم «عمارة يعقوبيان» يجتذب المشاهدين في جميع أنحاء العالم العربي وينال استحسان المشاهدين والنقاد في مختلف المهرجانات التي عرض فيها، بل ويكسب جائزة مهرجان تريبيكانا لأفضل الأفلام، وأولاً وأخيراً يدخل السينما المصرية إلى عالم الكبار
العدد 1426 - الثلثاء 01 أغسطس 2006م الموافق 06 رجب 1427هـ