المكان: مجمع في احدى المناطق بالعاصمة. الزمانك إحدى أمسيات الأسبوع الماضي.
المشهد: مجموعة من كبار السن يتحلقون في جلسة خارج أحد المجالس في انتظار عودة التيار الكهربائي. وعلى رغم أن جلسة الهروب من حرارة الجو ورطوبته تلك تحولت إلى جلسة سمر مصحوبة بشرب الشاي والقهوة وتناول رطب خلاص، فإن ذلك لا ينفى حقيقة المعاناة التي يعيشها كبار السن أولئك وكثيرون غيرهم من المواطنين المتضررين من انقطاعات الكهرباء التي لا يبدو وأن لها نهاية واضحة. تتكرر تلك الصورة كثيراً في مختلف مناطق البحرين التي ينقطع عنها التيار الكهربائي، وتستمر شكاوى الناس تتوالى وتتوالى، ونظل هنا في «الوسط» بانتظار الحصول على رد شاف وكاف من وزارة الكهرباء والماء، أولاً على السؤال الذي ختمت به حلقة الأمس من هذا التحقيق عن لجنة التشغيل والتحكم في الشبكة، التي من شأنها حماية الشبكة من الأحمال الزائدة. وثانياً اجابة لعدد من الأسئلة التي كانت «الوسط» توجهت بها لإدارة العلاقات العامة والدولية بالوزارة منذ شهور طويلة.
أعطاب دائمة، ومشكلات فنية لا تنتهي في محطات وزارة الكهرباء، هي ما تقف وراء معاناة البحرينيين إذاً، لكن كيف تتعرض تلك المحطات هذه المشكلات الدائمة والوزارة تطلق تصريحاتها الدائمة عبر مختلف مؤتمراتها الصحافية وتصريحاتها الخاصة بشأن عمليات الصيانة التي لا تنتهي والتي يعلنها المسئولون مع بداية كل صيف.
آخر تلك التصريحات ما جاء على لسان مدير ادارة نقل الكهرباء بالإنابة محمد الشيخ منصور الذي أكد في 2 اغسطس/ آب الجاري بأن الوزارة خصصت مبلغ 3 ملايين دينار قابلة للزيادة في حال الحاجة، وذلك للصيانة المستقبلية للعامين المقبلين 2007/2008 لمحطات وشبكات نقل الكهرباء.
قبل ذلك، صرح وكيل الوزارة عبدالمجيد العوضي، في وقت سابق من هذا العام، تحديداً في 29 ابريل/نسان الماضي، خلال مؤتمر صحافي عقدته الوزارة بحضور عدد من مسئوليها، عن موازنة صيانة المحطات الكهربائية في جميع مناطق البحرين التي بلغت 10 ملايين دينار. وبحسب العوضي فقد ذهب من هذا المبلغ مليون ونصف كلفة صيانة الشبكات الرئيسية لنقل الكهرباء، ومليون واحد كلفة التوزيع، و5,5 ملايين كلفة الإنتاج، كما أكد انتهاء ما نسبته 90 في المئة من أعمال الصيانة هذه في شهر أبريل 2006.
وكيل الوزارة حينها أراد طمأنة الصحافيين الحاضرين ليقوموا هم بدورهم بطمأنة جميع المستفيدين من خدمات الوزارة. لكن ما حدث بعدها يشبه كثيرا ما يحدث في كل عام إذ إنه وبعد أن صدق الجميع تطمينات ووعود الوزارة، وصلت الانقطاعات الى عدد من مناطق البحرين من دون أن تتمكن الوزارة من تقديم تفسير واحد مقنع لما يحدث.
أي صيانة تلك التي تكلف ملايين الدنانير ثم تفقد أثرها بعد أقل من 3 أشهر، بعدد يتجاوز 30 انقطاعاً في الشهر الواحد عن مختلف المناطق.
مصادر مطلعة بالوزارة تفيد بأن المشكلة تكمن بشكل رئيسي، في سوء المعدات الكهربائية المستخدمة في هذه المحطات، إذ إن الوزارة تفضل استيراد المعدات والأجهزة الصينية على الانجليزية بسبب رخص أسعارها على رغم أنها أقل جودة. هذا بخلاف حقيقة وجود نقص كبير في المواد .
لكن كيف يكون هناك نقص في المواد والمعدات، والوزارة كما يفيد بعض مهندسي الوزارة، تقوم حاليا بتقديم طلب مسبق لوزارة المالية لتخصيص موازنة لشراء هذه المعدات قبل دخول فصل الصيف بكثير، وان وزارة المالية تقوم فعلاً باقرار المبلغ المطلوب في فترة كافية لتمكين وزارة الكهرباء من شراء ما تحتاجه من معدات؟
تجيب المصادر اعلاه أن كثيراً من المعدات لا يتم شراؤها بشكل دائم، وان الوزارة قامت الآن باستصدار قانون المناقصات الذي تخضع له عملية شراء هذه المعدات وهو ما يعطل عملية الشراء.
فنيو صيانة أم مشغلون؟
يرى متخصصون أن «الخلل مجموعة حلقات، وهو ليس خللاً في الآلات بل إنه يكمن في إدارة أي مؤسسة تتعرض لهذا النوع من المشكلات».
فالمشكلة من وجهة نظرهم «في المتعاملين مع الآلة فبعضهم أشخاص غير مدربين ولا خبرة لهم على الاطلاق. إذ ان عمليات الصيانة معقدة للغاية، وهي عملية تقوم بها في العادة الشركات المصنعة للتوربينات نفسها. ما يحدث بعدها هو أن الفنيين العاملين على هذه التوربينات ليسوا على خبرة ودراية بالتعامل مع هذه الآلات المعقدة ولذلك فإنهم لا يتمكنون من مواجهة أي حادث عطل أو خلل في هذه الآلات».
ويضيف هؤلاء ان «قيام الشركات العالمية بعمليات الصيانة فيه ايجابية تتمثل في تمكين المؤسسة من انجاز أعمالها في الوقت المحدد لكن سلبيته تتمثل في عدم تأهيل كادر الشركة وتمكينه من التعامل مع الآلات المعقدة كما ينبغي».
وكدليل على ذلك يستعرضون حال محطة الحد التي يرون أن وضعها سيكون أفضل بكثير، بعد أن بيعت، إذ إن «الشركة الخاصة التي اشترتها ستكون مهتمة بأعمال الصيانة والتشغيل وستقوم بتطوير الكوادر العاملة في المحطة. وهذا يضمن أن تكون المحطة شغالة 100 في المئة، وهذا ما لا يوجد في الوزارة فمحطات الكهرباء في أعطال دائمة والكهرباء منقطعة باستمرار».
نقص كوادر وكفاءات
المشكلة الحقيقية التي تعاني منها الوزارة كما يشير المهندسون، هي نقص في الكوادر والكفاءات المؤهلة لتسيير دفة العمل في هذا القطاع الحيوي والمهم. أسباب ذلك النقص كثيرة أولها يعود إلى سوء كفاءة عدد كبير من اداريي الوزارة. إذ يتذكر هؤلاء ما حدث أثناء تنفيذ المرحلة الثانية من مشروع محطة الحد حين حاول المهندسون تشغيل التوربين الأول الذي كان على درجة عالية من التعقيد «وجدنا حينها أننا بحاجة إلى مشغلين ذوي خبرة، فطلبنا الاستعانة بمشغلين من محطة سترة والرفاع والمنامة سبق لهم ان عملوا في محطات مشابهة ليدربوا على تشغيل التوربين من قبل الشركة المنفذة لمشروع المحطة».
حينها يتذكرون أن «مدير المحطة رفض استقدام أولئك المشغلين؛ لأنه كان يرغب في احضار مشغلين جدد. مشغلون لا يحملون أي خبرة في التعامل مع تعقيدات محطات الكهرباء».
كان ذلك - بحسب المهندسين - سوء تقدير من المدير، ففي حال حدوث أي خلل في التوربين لن يتمكن هؤلاء المهندسون الذين لا يحملون أي خبرة، من اكتشاف الخلل بسهولة ومن ثم تشغيل التوربين». ويضيفون «تعاني الوزارة من نقص كبير في عدد المهندسين والمشغلين والفنيين الأكفاء ذوي الخبرة الطويلة والقادرين على تشغيل هذه المحطات وتسيير العمل فيها بأفضل ما يكون. بل إننا بحاجة الى كفاءات قادرة ومتمكنة ابتداء من مرحلة التخطيط المسبق ومرحلة إرساء العطاء ومرحلة تنفيذ المشروع. هل هناك كفاءات مقتدرة خلال كل هذه المراحل تواكب الكفاءات في الطرف المقابل سواء كانت كفاءات الاستشاري المسئول عن المشروع أم الشركة المنفذة للمشروع؟
في واقع الأمر إن المشكلات تحدث في المحطات نتيجة وجود خلل في التجهيزات التي تبدأ أحيانا من بروز فكرة المشروع وتنتهي عند اكتمال المشروع، وما لم يكن هناك أشخاص أكفاء وذوو خبرة قائمين على الأمر فإن العملية لن تسير بسلام.
الثمانينات عز الوزارة
أما عن خطط الوزارة لبناء هذه الكفاءات، فهي كما يجيب المهندسين «لا يوجد في الوزارة أي خطط لبناء الإمكانات والطاقة مع ان العالم حاليا يتكلم عن بناء القدرات والإمكانات الوطنية، وهو نهج، مع الأسف الشديد، لا تتبناه مؤسساتنا بشكل جدي ضمن خطط مرسومة وبرؤية واضحة وببرامج ملموسة عمليا».
ويتذكر بعضهم بحسرة حال الوزارة في الثمانينات حين تمكنت من بناء كوادرها بحيث وصل الأمر في مشارف التسعينات إلى أن يكون غالبية مهندسي الوزارة ورؤساء الأقسام فيها من البحرينيين بل حتى المشغلون والفنيون ومدققو الحسابات جميعهم كانوا متمكنين من عملهم».
ويتابعون «اليوم ليس لدينا خطة لبناء قيادات استراتيجية لمرفق بهذه الأهمية والخطورة. وهي قيادات لا يمكن بناؤها إلا بأسلوب علمي منهجي يدرس هذا الجهاز سواء فيما يتعلق بالرأس القيادي كيف يفكر وكيف يخطط أم بالإدارة المتوسطة بجميع أقسامها ودوائرها.
لا خبرة ولا كفاءة
أما اليوم، فكما يكشف المهندسون «هناك كثير من الأشخاص الذين تقلدوا مناصب هم ليسوا كفؤاً لتقلدها. هناك مثلاً شخص تنقل في عدة مناصب، بسبب عدم تمكنه من شغل أي منصب، وكان يثير المشكلات في كل وزارة يتقلدها، الآن يرقى في وزارة الكهرباء ليصبح مديراً يتحكم في مشروعات تصل كلفتها إلى ملايين الدنانير وهو لا يحمل أي خبرة في هذا المجال.
ويعتقد المسئولون أن الخلل في (الكهرباء) له كثير من الأسباب، داخلية وخارجية، لكن اهمها كون نسبة كبيرة من الموجودين لا يحملون أي كفاءة.
مثال آخر على عديمي الكفاءة، أحد المديرين الذي تقلد منصبه حديثا، وهو رأس إدارة لم تكن موجودة لكنها انشئت على ما يبدو من أجل سواد عيون مديرها. هذا الرجل لا يحمل أي خبرة في مجاله، وكانت بداية وصوله إلى منصبه عبر فشله في مقابلة تقييمية بعد تقدمه بطلب الانتقال من الدرجة الرابعة إلى الخامسة. الآن يرتقي هذا الرجل أعلى الدرجات ليصبح مديراً لدائرة تضم عددا لا بأس به من المهندسين.
مدير آخر، لا تمت عقليته بصلة لأي منصب إداري، غادر في إحدى المرات احد الاجتماعات المهمة التي تتم بين الوزارة وبعض الشركات المحلية والعالمية، عندما لم تتم الاستجابة لطلبه بتوظيف من لا ناقة لهم ولا جمل في شئون الكهرباء وهمومها.
كثيرون آخرون من المديرين في الادارة العليا، وعلى أعلى المستويات، لا علاقة لهم بالمسمى الذي يحملونه، بل إن مظهرهم نفسه لا ينبئ عن مواقعهم «الجبارة».
أحد مهندسي الدرجة الرابعة الذي لم «يفلح» في عمله، ولم يتمكن منه، تنقل بين عدد من وزارات الدولة، ليحط رحاله أخيرا في نقطة انطلاقه الأولى - وزارة الكهرباء - وليتحول بقدرة قادر من مهندس كيميائي الى مدير مسئول بأحد الأقسام. وبعيدا عن أي خبرات في هذا المجال، لا يحمل هذا المهندس الكيميائي سابقاً، والمدير حالياً، أي قدرة ادارية تمكنه حتى من السيطرة على الأمور في قسمه، أو على الأقل التعامل مع موظفيه بمهنية.
لكن المصيبة الكبرى كما يشير المهندسون لا تتمثل في أولئك المتسلقين بل في من يحسبون انهم يحسنون صنعا في اداراتهم، وهم غير قادرين على التعامل مع أي طارئ، كبيرا كان أم صغيراً. أحد هؤلاء ممن يدعي الكفاءة ومن تقلده الوزارة منصباً مهماً، لم يتمكن من مواجهة ازمة الانقطاع الشامل في اغسطس 2004. وعلى رغم موقعه الحساس، ما اضطره للجوء إلى من يصغره منصبا ويقل عنه خبرة طلبا لأي خطة تمكنه من التعامل مع الوضع المأسوي.
عمليات تدوير «مجحفة»
يواصل المهندسون حديثهم بمرارة: «هناك بطالة مقنعة في جميع أقسام ودوائر الوزارة تصل نسبتها الى 90 في المئة، لها أسباب كثيرة منها امتلاء بعض الأقسام بموظفين لا حاجة إليهم أدخلتهم الواسطات والمحسوبيات الى عمق الوزارة».
كذلك فإن عمليات التدوير الخاطئة التي تضع الشخص في غير مكانه والتي تقوم بها الوزارة على الدوام؛ لأسباب غير مهنية على الإطلاق، تتسبب في جزء كبير من هذه البطالة.
في الوزارة يمكن أن يحدث كل شيء، ولا حق لأحد أن يتساءل حتى ممن يقع عليهم الأمر، فعلى سبيل المثال يمكن أن يتحول مدير ادارة الدراسات والتخطيط إلى مدير خدمات المشتركين، والأخير يمكن أن ينقل بجرة قلم إلى إدارة الموارد المالية مثلاً، ولا يمكن لأي أحد أن يناقش الأمر أو يجادل. المصيبة أن هذه التجاوزات لا تطال الوظائف الدنيا، بل تصل حتى إلى المناصب الادارية العليا لتطال أقساماً حيوية وحساسة، تمثل خبرة الموظف، عدا عن الاداري، فيها أهمية كبرى».
«هناك الكثير من الحالات الموثقة، التي يتم فيها نقل شخص من موقعه الصحيح الى موقع اقل لا يتناسب مع خبرته ومعرفته».
مدير احدى الادارات المهمة بالوزارة، الذي كان حاملاً لشهادة تتناسب مع الادارة التي كان يرأسها سابقا، نقل من ادارته من دون ايضاح للأسباب ليرأس ادارة أخرى لا علاقة له بها ألبتة، وهو الآن يعمل بمعنويات هابطة. بعض «خبثاء» الموظفين أو القارئين بين السطور يرجعون الأمر إلى أسباب «طائفية» بحتة
العدد 1433 - الثلثاء 08 أغسطس 2006م الموافق 13 رجب 1427هـ