يناقش الباحث في الفلسفة الإسلامية ضرار بني ياسين تطبيقات علم الكلام الجديد، ويرى أنها بمثابة «الدفاع العقلاني عن الدين»، إذ نمى علم الكلام في خط متواز مع إسهامات الدفاع عن الإسلام والمنافحة عنه، ويرى أنها «المهمة الرئيسة التي أسهمت في تدشين وإرساء مشروعية الأسس المعرفية لعلم الكلام في الفكر الإسلامي القديم، وهي مهمة لاتزال تفرض مسوغاتها العقلانية في عالم الإسلام المعاصر، ولم تفقد راهنيتها وجذوة ضروراتها الملحة، وذلك بالنظر إلى حقيقة حجم التوترات والارتباكات العنيفة التي يعيشها المسلمون على أكثر من صعيد، وتجعلهم دائما في موقع المدافعين أو المنافحين عن إيمانهم وعقيدتهم الدينية إزاء ما يتعرض له الإسلام من تشويه وظلم وكراهية، بسبب نزيف الجهل والعداء المصمم الذي تغذيه مؤسسات فكرية ودوائر استراتيجية جعلت من الإسلام دينا يتوسط بيئة ثقافية عالمية غير صديقة».
ويعود «ضرار» بسببية الازدهار لهذا المفهوم إلى «شيوع روح الحرية وقيم الانفتاح والتسامح التي نمت وترعرعت في قلب ثقافة عربية إسلامية استطاعت في ذروة صعودها أن تتجاوز ارتياباتها وهواجسها وأن تجازف بثقة عالية بالانفتاح على مختلف التجارب الثقافية المتاخمة لحدود الإسلام، وأن تعيش أكبر عملية مثاقفة أصيلة ومنتجة، مكنتها من هضم واستيعاب هذه الثقافات، ومن ثم إعادة إنتاجها وفق سياقات هوية معرفية جديدة أصيلة ومبتكرة، لا تتحرر من شرطها الديني الإيماني أو تجازف في أصالة الوحي الخاص بها، فضلا عن عدم تنكرها لشرطها الإنساني أو العقلاني».
كانت «الذات والصفات»، و«الإرادة الالهية»، و«التنزيه»، و«أفعال الإنسان»... الخ. هي محاور الحديث في علم الكلام التقليدي كما يرى بني ياسين، وسط بيئة مفتوحة سمحت في الغالب بتثاقف لا ينتهي عند حقيقة مغلقة، فكان حضور المعتزلة والأشاعرة كطوائف لها لاهوتها الخاص في هذه البيئة الواسعة الطيف.
ويضيف بني ياسين «بقي علم الكلام لفترة تزيد على الثلاثة قرون يمثل هوية وسائطية منتجة وفعالة، إلى أن تحول الخطاب الإسلامي برمته في القرون التالية إلى مجرد منافحات تبجيلية وافتخارية، يهيمن عليها الاجترار والجمود المدرسي، والتوقف عن الاجتهاد أو التكيف مع الواقع الجديد الذي طرأ على عالم الإسلام ومجتمعاته. ومنذ حقبة وجيزة استفاق المسلمون على الفتوحات الحداثية في العلوم والفلسفات الغربية، فشعروا بأنهم كالغرباء وسط عالم لا يستجيب قليلا أو كثيرا إلى ثقافاتهم أو منظوماتهم الفكرية القديمة. واكتشف عالم الإسلام أنه يعيش في تحد مستمر مع بيئة علمانية، لا تنفك وهي تغزوه في عقر داره فكريا وثقافيا وألوان شتى من المستحدثات العلمية والتكنولوجية، ومجموعة من النظم السياسية والاجتماعية والقانونية، تتحدى جميعها وجوده وهويته وفاعليته التاريخية.
ويرى ضرار أن المفكرين الإسلاميين أدركوا «أن العالم في صيرورات الحداثة وما بعد الحداثة وتحديات العولمة ونظرياتها الراهنة بشأن نهاية التاريخ عند صورته الليبرالية الرأسمالية، أدركوا أنه أصبح أكثر تبدلا وأسرع إيقاعا في وتيرة التحولات القاسية التي ستنعكس آثارها على الساحة العالمية. واستيقن هؤلاء أن الخطاب الكلامي الإسلامي التقليدي لم يعد مجديا، وأن فكرة الخيار أو البديل الإسلامي في ظل عالم لا يكف عن التغيير والتبديل، واستدمار البنى المعرفية القديمة، أصبحت صعبة التحقق في ظل حقيقة التراجع الحضاري لعالم المسلمين، وما زاد الطين بلة هو الحضور المتعاظم لشبكة معقدة من المنهجيات المعرفية المعاصرة، التي تشق طريقها في حقول الدراسات الاجتماعية والإنسانية في الغرب.
في العقد الأخير من القرن العشرين يبدأ بني ياسين التأسيس لعلم الكلام الجديد إذ «انطلقت دعوات تنادي بسك وابتداع علم كلام إسلامي جديد أو مستحدث، تقع على عاتقه مهمة كبرى تتجاوز تلك الأسئلة والاشكالات القديمة لعلم الكلام التقليدي، ومن دون أن يقطع مع هذا القديم قطيعة معرفية كاملة. وظهر أن الأسئلة القلقة التي يرددها هؤلاء الكلاميون الجدد هي ذاتها التي تقتحم من دون استئذان عالم الإسلام والمسلمين، وتزيد من حدة توتراتهم الداخلية وهواجسهم الثقافية، وخشيتهم من خسرانهم لجزء مهم من بديهيتهم الدينية، وهذه الأسئلة هي من قبيل: كيف يمكن للمسلم أن يتوافق مع نتاجات الحداثة الشاملة من دون أن يخسر جوهر قيمه، أو أن يدفع ثمن انغلاقه عنها؟ كيف يمكن التوفيق بين كل من السياسة والمصالح والأخلاق في وسط عالم يؤسس قوانينه واستراتيجياته الاقتصادية والسياسية على مبدأ المنفعة فحسب؟ كيف يمكن للمسلمين أن يقدموا أنفسهم إلى العالم الخارجي؟ هذه الأسئلة وغيرها تخضع لتحققات هيمنة كل من الحداثة وما بعد الحداثة، ومصالح واشتراطات القوى التاريخية التي تحملها، وهي قوى تتحكم بجزء كبير جدا من الفضاء الإنساني، وتشكله وفق رغباتها بفضل تقدمها وتفوقها في كل المجالات الحاسمة».
ويرى الباحث أن ما يشار إليه عادة بأزمة الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر يتمثل في «إشكال استحواذ الأصولية المغلقة على فضاء الإسلام التاريخي التقليدي، وهيمنتها على جزء كبير من السيمياء الثقافية للإنسان المسلم العادي. وتكمن مشكلة هذه الأصولية من جهة حقيقة ضعف قدرتها على التعامل مع التحديات الفكرية والاجتماعية والتقنية للحداثة، وذلك على رغم تصالحها المزعوم مع النتاجات التكنولوجية والمادية للحداثة لأسباب براغماتية نفعية صريحة. ويلجأ أصحاب هذه الأصولية إلى البحث عن السند والأمان من خلال محاولة سك إطار مرجعي تفسيري، ذاتي وخاص بالنسبة للعقائد الدينية. ولكنها في الواقع أصولية مكونة من أقلية تجاوزت المرجعية العريضة في الإسلام، وأعلنت نفسها بوصفها مرجعية تمثل إسلاما كليا أو غالبيا. وقد كان ولايزال التحدي الأكبر بالنسبة لهؤلاء، هو الحفاظ على جوهر ومحتوى نظامهم الديني المفسر في حدود فهمهم الذاتي للدين».
للكاتب ثلاث حلقات بالغة الأهمية في هذا الموضوع، والرجوع لها سيكون ذا فائدة
العدد 1435 - الخميس 10 أغسطس 2006م الموافق 15 رجب 1427هـ