على رغم المحاذير الشديدة والتدابير الصارمة المحيطة باستخدام ذلك «المعدن الرمادي» المثير للجدل، بل والحروب أحيانا، فإن السعي للحصول على حصة من ذلك الخام، الذي يتقلب في لونه بين الرمادي، في حالته الخام، إلى الأصفر، بعد تخصيبه، بات مثيرا للاهتمام في ظل تنامٍ متسارع لرغبة كثير من الدول في اقتنائه وتشغيله، للخلاص من نيران «الذهب الأسود»، الذي أخذت أسعاره تلهب مستهلكيه.
فالحصول على حصة من «الكعكة الرمادية»، أو بمعنى أصح، من الإنتاج العالمي لليورانيوم، بات أمرا لا تخفيه دول كثيرة ساعية إلى تصحيح ميزان الطاقة لديها بعد أن أثقل كاهلها بأعباء الزيادات الفلكية في أسعار النفط الخام. ولم يعد لديها بد، في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار النفط واقترابها من 80 دولارا للبرميل في بعض الأحيان، لمواجهة تنامي الطلب على مصادر الطاقة، إلا من خلال تبنيها (أي تلك الدول ولاسيما صاحبة الاقتصادات الواعدة) خططا لبناء مفاعلات نووية تطفي ظمأها الشديد من الطاقة.
ولأن أسعار الخام الأسود عرفت طريقها للقفز بخطوات واسعة في الأسواق العالمية، لم يجد «المعدن الرمادي» حرجا، في ضوء ازدياد الطلب عليه بشكل غير مسبوق، في التفوق عليه ومضاعفة مكاسبه، ليتضاعف بأربعة أمثال مستواه في غضون ثلاث سنوات، ليصل سعر اللبرة (نحو 454 غراما أي نصف كيلوغرام تقريباً)، منه إلى 40 دولارا حاليا مقابل 10 دولارات في بداية العام 2003.
وتعزو مجلة «جون أفريك» الفرنسية في عدد أخير لها ذلك الصعود الهائل لأسعار اليورانيوم في الأسواق إلى سببين رئيسيين؛ أولهما: أن جميع الدول تسعى إلى خفض اعتمادها على خامي النفط والغاز وضمان استقلالهما في مجال الطاقة. والآخر يتمثل في تحسن صورة الطاقة النووية لدى شعوب العالم بعد أن أضيرت بسبب حادث مفاعل تشيرنوبيل الأوكراني في العام 1986، ولاسيما في ضوء عجز الحلول التقليدية ومصادر الطاقة المتجددة، كالطاقة الشمسية وطواحين الرياح، في تلبية الاحتياجات المتزايدة للدول المتعطشة للمزيد من منتجات الطاقة، إضافة إلى أن أسعار الطاقة النووية باتت زهيدة إذا قورنت بأعباء توليد الطاقة الكهربائية من النفط أو الغاز، علاوة على محاسنها البيئية حيث تتقلص الانبعاثات الغازية المسببة لظاهرة الدفيئة (ارتفاع درجة حرارة الأرض).
ونظرا إلى الأسباب التي عددتها مجلة «جون أفريك» الفرنسية، فإن دولا عدة، وبوجه خاص الدول ذات الاقتصادات الواعدة التي يتطلب فيها معدل النمو الاقتصادي المتنامي مزيدا من الطاقة، باتت تخطط وبجدية وإصرار ملحوظين، لبناء مفاعلات نووية، وشرعت في تحبيذ الخيار النووي لتلبية احتياجاتها من الطاقة بديلا لمصادر الطاقة التقليدية. فعلى سبيل المثال، تعتزم الصين التزود بأكثر من أربعة مفاعلات نووية، على المدى القصير، أي في غضون بضع سنوات مقبلة، فيما تسعى إلى بناء 30 محطة نووية بحلول العام 2020. أما روسيا فتتحدث عن إنشاء 40 محطة نووية في غضون الخمس عشرة عاما المقبلة. وطبعاً فإن الهند والبرازيل ليستا بعيدتين عن هذا المضمار، بحسب تأكيد المجلة.
ولا يقتصر التعطش النووي الذي يعتري كثيرا من الدول النشطة اقتصاديا، بل يمتد إلى الدول العريقة في الشأن النووي، فمثلا فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية باتت لديها الرغبة والخطط أيضا، لزيادة قدرات مفاعلاتها النووية المشيدة حالياً، علاوة على العمل لبناء المزيد منها.
وتشير المجلة الفرنسية إلى أنه مع هذا «النهم الشديد» نحو الوقود النووي، لاسيما اليورانيوم، ظهرت مشكلة جديدة تتمثل في أن طلب محطات الطاقة النووية المنتجة للكهرباء على خام اليورانيوم يقدر بـ 70 ألف طن سنويا، بينما لا توفر المناجم سوى 40 ألف طن فقط. وللتغلب على مشكلة العجز في اليورانيوم تم سد هذه الفجوة عن طريق أربعة حلول منها اثنان في طريقهما للنضوب؛ وهما القنابل الذرية المفككة، واللجوء إلى مخزون الطاقة الكهربائية، أما الحلان الآخران فهما معالجة الوقود النووي المستخدم، وإعادة تخصيب اليورانيوم المستنفد.
بيد أن خام اليورانيوم لم ينضب بعد، وهذا ما أكده تقرير نشرته أخيراً الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وجاء فيه أن احتياطيات «المعدن الرمادي» تكفي لما يزيد على 85 عاما من الاستهلاك بالمعدل الحالي وذلك من دون الأخذ في الاعتبار اليورانيوم المستخرج من خام الفوسفات، الذي ربما يرفع عمر احتياطي هذا الخام إلى 675 عاما.
ونظرا إلى ارتفاع عائداتها بنسبة 19 في المئة من اليورانيوم خلال العام الماضي 2005 قررت شركة «كاميكو» أول منتج على مستوى العالم لهذا الخام (8320 طناً) استثمار 32 مليون دولار خلال العام الجاري 2006 في التنقيب عن المعدن الرمادي في المناجم الكندية والاسترالية.
أما منافستها وهي شركة «ريو تينتو» التي تحتل المركز الثاني علي مستوى العالم (6370 طناً) فتنقب عن هذا الخام في الأراضي الناميبية بصورة غير مسبوقة. بينما توجهت الشركة الثالثة على مستوى العالم (6020 طناً)، وهي الفرنسية «اريفا» للتنقيب في المناجم النيجرية والكازاخستانية كما تعتزم مضاعفة إنتاجها من هذا الخام بحلول العام 2010.
يشار إلى أن شركة «اريفا» تحتل المركز الأول عالميا بالنسبة إلى إنتاج الطاقة النووية السلمية، لا سيما أنها تتولى عمليات استخراج «المعدن الرمادي» من المناجم وتشغيل المحطات النووية وتوزيع الطاقة الكهربائية المتولدة من هذه المفاعلات وإعادة معالجة النفايات النووية. وتقوم هذه الشركة بعمليات تنقيب في النيجر منذ عقد الستينات.
وتحظى القارة الإفريقية بمكانة مرموقة في هذا الإطار، إذ يتوق عدد كبير من الشركات العالمية لمزيد من الاستكشافات والتنقيب في أراضيها الغنية والبكر، فالنيجر على سبيل المثال يمثل «المعدن الرمادي» بالنسبة إليها، ثلث صادراتها إلى العالم الخارجي، و5 في المئة من نتاجها المحلي الاجمالي و4 في المئة من عائداتها الضريبية.
وتفسر تلك الأرقام مدى أهمية «اليورانيوم» لتلك الدولة الفقيرة في ثرواتها الطبيعية الأخرى.
فالنيجر بإنتاجها السنوي الذي يصل إلى 3200 طن تراجعت عن صدارة قائمة الدول المنتجة لليورانيوم خلال العام الماضي 2005، لتأتي في المركز الخامس بعد كندا التي تصدرت هذا التصنيف العالمي بإجمالي إنتاج بلغ 11 ألفاً و790 طنا سنويا، تلتها استراليا 9350 طنا سنويا، وكازاخستان 4100 طن، وروسيا 3300 طن.
إلا أن النيجر تمكنت، حتى الآن، من الحفاظ على تقدمها على ناميبيا 3050 طنا سنويا، وأوزبكستان 2600 طن، والولايات المتحدة الأميركية 1100 طن وأخيرا جنوب إفريقيا وأوكرانيا 850 طنا سنويا لكل منهما.
وعلى رغم التفوق النسبي الذي تبديه النيجر، بحسب قول المجلة الفرنسية، فإنه من المتوقع أن تتراجع أمام زحف ناميبيا في مجال إنتاج اليورانيوم لاسيما بعد اكتشاف الأخيرة لمنجم يورانيوم قدرت طاقته نظريا بـ 1200 طن في العام.
ومن المنتظر أن تصبح ناميبيا الأولى على مستوى القارة السمراء في إنتاج اليورانيوم إذا ما أسفرت عروض التنقيب الأربعة التي تقدمت بها شركة «كوجيما» فرع شركة «اريفا» الفرنسية العامل في النيجر عن نتائج مثمرة.
وتشير «جون أفريك» إلى أن خريطة الإنتاج العالمي من اليوروانيوم صارت سريعة في تشكلها وتحورها سواء بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتجين، فبعدما كانت جنوب إفريقيا، ولفترة طويلة، تقبع في صدارة القارة الإفريقية كأكبر منتج لليورانيوم منذ العام 1951، عندما كانت تكتشف هذه المادة كمنتج ثانوي إلى جانب الذهب. وبات إنتاج جوهانسبرج السنوي، الذي كان يقدر بـ 5000 طن، مجرد ذكريات، إذ وصل هذا المعدل حالياً إلى 850 طناً فقط يتم إنتاجه من منجم للذهب. فيما تسعى حكومة جنوب إفريقيا إلى استرداد مكانتها في عالم اليوروانيوم بشقيه الرمادي والأصفر، إذ قررت، في إطار الحفاظ على استقلاليتها في مجال الطاقة، والحد من اللجوء إلى استخدام الفحم الملوث للبيئة، بناء مفاعل نووي جديد بطاقة إنتاجية صغيرة تتراوح بين 150 إلى 200 ميغاوات بالقرب من مناطق صناعية متعطشة للمزيد من الطاقة الكهربائية. وتملك جنوب إفريقيا مفاعلا نوويا، بالقرب من مدينة كيب، أقامته شركة «أريفا» الفرنسية في العام 1985، وتبلغ طاقته الإنتاجية 1930 ميغاوات.
كما أن هناك لاعبين جددا دخلوا حلبة السباق في عالم إنتاج «المعدن الرمادي»، فتشير المجلة الفرنسية إلى اكتشاف مناجم يورانيوم في منطقة «الحجار» بالجزائر، كما حدث الشيء نفسه في جمهوريتي وسط إفريقيا والكونغو الديمقراطية، إلا أنه لم تتحدد بعد احتياطيات هذه المناجم وكذلك إمكان الوصول إليها وجدواها الاقتصادية. ولايزال الجدل والسباق دائرين بشأن ما يطرأ من مستجدات على سوق المعدن الرمادي، الذي ما لبث أن استرد مكانته في الساحة العالمية مرة أخرى، مراودا عقول الكثير من الحكومات والدول في أرجاء متفرقة من العالم، على رغم القائمة المكتظة بالمحاذير والتهديدات الدولية والبيئية التي تحيط باستخدامه
العدد 1437 - السبت 12 أغسطس 2006م الموافق 17 رجب 1427هـ