يجب الاعتراف بأن صعود هذه السلالم شاق ومرهق ذهنياً، لكن ليس من شك أنك ستصل للنهار في آخر المطاف، رغم التعب والتشويش والتلاعب بك كـ قارئ، ستعترف بأن الروائية قد استطاعت استفزازك واستدراجك لهذا الإرباك وراهنت رغم كل شيء على تحدّيك لها، ستعرف منذ الوهلة الأولى أنها تكتب لقارئ تفترض فيه اليقظة ليستوعب فخاخ الأصوات المتداخلة والأزمنة المبعثرة على مدى 17 فصلاً تقع في 220 صفحة من القطع المتوسط والصادرة عن دار العين للنشر، رواية «سلالم النهار» جديد الروائية الكويتية «فوزية شويش السالم» خليق بها النبش والتحليل، ثمّة روايات كـ أنفاق المناجم مظلمة ومتداخلة، ملتوية وموغلة، يقل فيها الأوكسجين أحياناً، لكن كل ذلك لا يمنع الباحث من السعي وراء الماس متسلحاً بالضوء في مواجهة العتمة و بالصبر واليقظة في اتخاذ الطريق الصواب فما أصعب وأشق أن تكتشف أنك تحفر في المنجم الخطأ، لذا عليك أن تأخذ نفساً عميقاً قبل أن تلج هذه الرواية.
فهدة سيدة الحكاية...
الرواية تأتي منذ البدء على لسان بطلتها «فهدة» الراقصة في الحفلات الخاصة و «القعدات» المشبوهة التي يقيمها أصحاب البذخ والمقتدرين مادياً في مزارعهم وخيامهم أو شاليهاتهم البعيدة عن عيون المتلصصين، تمتهن فهدة هذا الرقص مع أخواتها وبرعاية وإشراف من أمها، هذا الرقص القائم تحديداً (...) الإثارة الجنسية بعيداً كل البعد عن مفهوم الرقص الذي يطلق الروح ويصفّي الذهن ويعتمد الفن أساساً له.
«يتدافعون حولنا نحن البنات المؤجرات لإحياء بهجة جلستهم التي لا تتأجج ولا تتوهج إلا بحضورنا، وبرقصنا الذي هو الشاحن للمتعة والأنس وفرفشة السهرة كلها». ص 10
الأم التي تمتهن كل شيء في سبيل الحصول على عائد يوفر حياة جيدة لفئة مهمشة في مجتمع يتعمّد خلق الطبقات بين البشر، ويعرف كل شخص مساره ويستكين إليه ويبدأ العمل على أساسه دون المحاولة في تغييره.
«بلد تقاس فيه درجات الناس بالحسب والنسب، على السلّم التراتبي بالأصول وبالمال. وهنّ... لا يملكن المال، ولا ينحدرن من تلك الأصول النقية العريقة الصافية في عرقها، والتي زادها المال وهيلمان السلطة والسطوة نقاء على نقاء». ص 11
الأم التي تجعل من بناتها كبسولة شهوة يبتلعها أصحاب النفوذ كلما أصابهم صداع الضجر، تحرّضها الحاجة ويوعز لها الفقر والتهميش لمحاولة العيش في أفضل حالة ممكنة، لكنها رغم ذلك تحتفظ بأخلاقيات المطحونين وللا منتمين لأوطانهم.
«قوانين أمي تسمح بشم الوردة أو بلثمها، وذلك تبعاً لظروف جيب الشام أو اللثام، لكنها لم... ولن تفرط أو تسمح أو تتنازل بأكل أي وردة من ورودها، من غير الإشهار والإعلان بذلك الأكل. دون زواج لن يتم الأكل فيها حتى وإن كانت وردتها من قاع المجتمع، هناك من سيشتريها، وسيبذل في العطاء، وهي من سيحدد الثمن». ص 12
تخرج فهدة من دائرة التهميش والفقر لتصعد لأعلى الطبقات المخملية، تلك الطبقات التي عرفتها جيداً مع صديقتها نوره التي كانت تتخذها غطاء للقاءاتها بحبيبها زياد اللبناني الأصل والذي يعمل في شركة والدها، كانت فهدة تقوم بعمل التمويه والتغطية مقابل ما تنعم به نوره من ملابس ومطاعم فاخرة، لكن جوع فهدة لا يعرف الشبع، حتى حين تزوجت من «ضاري» هذا الثري الذي طلب الزواج منها بعد أن شاهدها في إحدى الجلسات الراقصة، نقلها هذا الزواج لعالم آخر بل نقل كل أسرتها لحال أفضل، استقرت فهدة مع زوجها بعد أن لفّت العالم في فرنسا، لأنها وجدت فيها ما يعوضها عن حياة القاع، لكنها لم تبتعد كثيراً عن جسدها، كان ضاري مهووس باللذة الجنسية، كان يدّخرها لحين العودة من سفراته المتقطعة والمتصلة بعمله الذي لا تعلم فهدة عنه أو عن أسرته أي شيء، لم تكن فهدة بحاجة لأكثر من إشباع هذا الجسد لذا لم تمانع هوسه وأخرجت الحيوان الشره الذي أطلق قيده ضاري، جربا معاً الكثير وتعرفا على مفاهيم جديدة للجنس، جعلها تخوض تجربة مع المثليات، ألبسها المثير لكي يسيل لعاب أصدقائه، جرب كل وضعيات الجنس وابتكر غيرها الكثير.
«ضاري إنسان شهواني، حسي، هوائي، متقلّب، غامض ليس بالإمكان معرفة ما يدور في داخله». ص 77
بعد أن اعتادت فهدة نقلتها الأولى من قاع الأسفل لمعانقة الغيم، تقفز لمرحلة ثالثة من حياتها، بعد موت ضاري على صدرها، تلك الميتة المرعبة، التي تحولت لكابوس يطاردها ويشعرها بالذنب.
«لم أدرِ كيف هربت... كيف انسللت من تحت جسده الميت فيّ؟ كنت مرعوبة إلى أقصى حد... كان الموت بداخلي وخلفي ومن أمامي، يطاردني من كل الاتجاهات، يحاصرني أينما اتجهت، وأينما حلت مجساتي، وقادتني حواسي... يهرسني بالرعب والفزع، وأبقى وحدي في نار المحاسبة أصطلي.»ص 156
وربما اكتشافها لحملها من ضاري كان سبباً آخر في تحولها المثير والكبير، لتقرر أخيراً السفر لمكان شبه معزول عن العالم، يفتقر لأبسط مقومات الرفاهية، تسكن مع خالتها وزوجها في ولاية مسندم.
«هذا المكان المعزول على قمة جبال ولاية مسندم الواقعة على رأس مضيق هرمز، المتقاسم ما بين إيران وسلطنة عمان. هروبي إليه كان ملجأ للروح، وبحثاً عن الراحة والأمان والسكينة...»ص 146
هناك تكتشف سبب جوعها الذي لم تبرأ منه، لم يكن جوعاً جسدياً بل روحياً، تلتصق بالله حدّ التصوّف، وتعيش على الكفاف مكتفية بالبحث عن دروب الله، لتؤمن أن الحب الحقيقي هو حب الله وحده، تتبدل كل سلوكياتها، ترتدي النقاب، وتقوم بالوعظ بعد أن تصل لمراحل متقدمة من المعرفة.
يكبر الابن الهجيبن بين أعمامه الأسياد وأخواله البدون ويدخل في دوامة، بين رجعية أمه وفساد أهله من الطرفين...
«فكيف أكون أنا بناري وبشغفي وبصهيلي وفرادة روحي الحرة الهاربة من أقفاص الأسياد والعبيد، من نموذج عمي وقالب خالي ورجعية أمي؟ ص 219
يعتزم هذا الوريث لثروة ضخمة أن يهاجر، ليكتشف نفسه، لكنه يعود ليقرر البقاء والاستحالة لـ فايروس يدّمر كل هذه الطبقية التي استفحلت في المجتمع، وذلك بتسلله إليهم وفرض أفكاره التي تشبه لحد كبير شخصية المخلّص القادم.
«أنا الفيروس القادم الذي سيعيد التوازن لحياتكم، والذي سيحقق منطق العدالة بينكم. أنا فيروسكم القادم يا عمي ويا خالي، فانتظروا ساعة قيامتي ووقت انتشاري، ولحظتي التي قريباً ستتفشى بكم». ص 220
الجرأة في الطرح والتكنيك...
لاشك أن الرواية تدخل عوالم جديدة، وتتطرق لقضايا حساسة في المجتمعات العربية والخليجية بشكل خاص. أولاً... نوعية الطرح، بدء بالجنس الذي قد يشعر القارئ لوهلة أنه محاولة رخيصة للإثارة، لكنك بنظرة فاحصة تجد أن السياق تحليلي تماماً كما تطّرق باولو في رواية «أحد عشر دقيقة» والذي ركز من خلال روايته على الأبعاد الإنسانية في تعاطيه مع الجنس كمفهوم، هنا في رواية السالم نجد أيضاً البعد التاريخي في محاولة للوصول لتحليل يفصل مفهوم المجتمع العربي للجنس وماهيته الحقيقية نظراً للموروث البيئي، وكان اختيار الولوج لهذا المنحنى من خلال الرقص كمفهوم للإثارة وتوحيد كل العرب لهذه النظرة - بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف - وإيجاد ما يدلل من شذوذ أو رغبة طافحة من خلال ظاهرة كراقصات «القعدات» هي محاولة تثبت عدم الرغبة في جعل الجنس في الرواية أداة إثارة وحسب.
«الرقص في الشرق وتحديداً في العالم العربي يأتي من الجسد، ليس له أية علاقة في تحرر الروح وانطلاقها في صفاء خفّتها، وشفافية صوفيتها». ص
العدد 3464 - الخميس 01 مارس 2012م الموافق 08 ربيع الثاني 1433هـ