على رغم ضجيج الباعة المتقاطع مع أحاديث المارة واستفساراتهم عن الكتب، لا يتردد أبوربيع في أن يرفع صوته فجأة، ملقياً على مسامع رواد شارع المتنبي في قلب بغداد أبياتاً من الشعر.
لحظات وتتجمَّع بعض الحشود المنتشرة بين كتب تفترش جانبي الشارع العريق لتتأمل نعيم الشطري (73 عاماً) وهو يصرخ محركاً يده بإيماءة عفوية «أعز مكان في الدُنى سرج سابح، وخير جليس في الزمان كتاب».
يستريح بعدها أبوربيع على كرسيه، وفيما يكمل المارة جولتهم الثقافية، يواصل هو سرد أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي، قبل أن يقاطع نفسه ليقول: «لا تفجيرات يمكن أن تخرجنا من هذا الشارع».
ويضيف أبوربيع الذي يملك مكتبة في المتنبي منذ نحو 40 سنة ويهوى بيع الكتب الماركسية «المتنبي مربيناً، المتنبي حياتنا».
ولم تمنع التفجيرات الدامية التي هزت العراق يوم الخميس (23 فبراير/شباط 2012) وقتل وأصيب فيها العشرات، أبوربيع وأصحاب المكتبات الأخرى من أن يفتحوا الأبواب أمام رواد الشارع من الكتاب والمثقفين وغيرهم.
وفيما كانت تزدحم في شوارع العاصمة آليات الشرطة والجيش ونقاط التفتيش بين الحواجز الأسمنتية المضادة للمتفجرات، وحده المتنبي ظل يعج بالباحثين عن متنفس يستبدلون في مكتباته ومقاهيه أخبار العنف بأخبار الثقافة والمجتمع.
ويعود هذا الشارع الواقع في قلب بغداد بمنطقة يطلق عليها اسم القشلة، إلى أواخر العصر العباسي، وكان يعرف أولاً باسم «درب زاخا» واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية.
وقد أطلق عليه اسم المتنبي في العام 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمُّناً بشاعر الحكمة والشجاعة أبوالطيب المتنبي.
وتحول شارع المتنبي في مطلع التسعينيات، في ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق، إلى ملتقى للمثقفين كل يوم جمعة؛ إذ يتم عرض آلاف الكتب وتنتشر فيه مكتبات الرصيف.
ويبدأ الشارع الذي يمتد إلى أقل من كيلومتر، بتمثال للمتنبي مطل على نهر دجلة، وينتهي بقوس بارتفاع نحو 10 أمتار، نقش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي «الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم».
وتباع في هذا الشارع الذي تحيط بجانبيه أبينة تراثية كانت تشكل معاً مقر الحكم العباسي، أنواع الكتب كافة، وعلى رأسها السياسية والاجتماعية والتاريخية، وتتراوح أسعارها بين 250 ديناراً (أقل من دولار) ومئات آلاف الدينارات.
كما تباع القرطاسية والإقراض المدمجة والنظارات الطبية والخرائط، وحتى الألعاب الصغيرة.
ويقول كامل السعداوي (59 عاماً) وهو يقلب بين يديه كيساً يحتوي على كتب اشتراها حديثاً «منذ نحو 30 سنة وأنا آتي إلى هذا الشارع كل يوم جمعة. في كل مرة أقول إني لن آتي، لكني سرعان ما أعود عن قراري».
ويتابع صاحب الأعمال المتقاعد «المتنبي لا علاقة له بالواقع العراقي. هو جزيرة معزولة، عراق آخر، عراق الحلم».
ويشهد العراق منذ اجتياحه العام 2003 أعمال عنف شبه يومية قتل فيها عشرات الآلاف، وبينها حرب طائفية بين عامي 2005 و2007.
وقد تعرض شارع المتنبي الواقع على الجانب الشرقي لنهر دجلة لهجوم بسيارة مفخخة العام 2007 قتل فيه 30 شخصاً وأصيب أكثر من 65 آخرين بجروح.
وبقيت حينها ولأكثر من يومين سحب دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية تغطي سماء شارع المتنبي بعد أن تحوَّل إلى ركام وانقاض، قبل أن يعاد افتتاحه رسمياً العام 2008.
ويقول أبوربيع إن «اصعب ذكرياتنا في الشارع هي عندما وقع التفجير على أيدي أحفاد هولاكو. كنت متوجهاً نحو النجف، وعندما وصلت قالوا لي: لقد وقع أكبر انفجار في بغداد، في شارع المتنبي».
ثم يجهش بالبكاء ويسند جبينه بيده اليمنى قائلاً: «أصدقائي ذهبوا، خسرت الكثير منهم، والحياة هنا لم تعد كما كانت من دونهم»
العدد 3464 - الخميس 01 مارس 2012م الموافق 08 ربيع الثاني 1433هـ