كثيرة هي الأسباب التي دفعت المجتمعات العربية إلى الثورة والنهوض في وجه أنظمة الحكم السائدة منذ عقود. وفي واقع الأمر، يمكن اختيار سببين استراتيجيين لنهوض الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي، هما القمع والفساد. ولكن من الأسباب الرئيسية التي لم يتم التركيز عليها في التغطية الإعلامية والتحليلية لهذه الثورات انتهاك حقوق المواطنين في الموارد وفي البيئة النظيفة، كذلك الفساد الناجم عن سوء إدارة الثروات والموارد الطبيعية في معظم دول العالم العربي. فهذا أدى بفئات عديدة من الشعب إلى الثورة والاحتجاج بهدف تغيير أنماط الحكم واستعادة السيطرة على الموارد والثروات الطبيعية.
من الصعب وضع جميع الأنظمة العربية في المعيار السياسي والتنموي والبيئي نفسه. ففي بعض الدول، تمكنت الأنظمة من توفير نمط حياة يفوق المعدل العالمي، عن طريق ضخ عائدات النفط إما في المشاريع التنموية والاستثمارية وإما في خلق الوظائف وتأمين الخدمات والسلع بأسعار زهيدة نسبياً عن طريق الدعم الحكومي، وهذا حقق نوعاً من الاستقرار. وفي دول حققت مرتبة متوسطة من النمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية، تأثرت الاقتصادات الداخلية بموجات العولمة وارتفاع الأسعار والاحتكارات الرأسمالية. في هذه الدول تحولت الرموز السياسية إلى رجال أعمال يحتكرون قطاع «البزنس» الدولي والإقليمي، بينما تغرق الفئات الكبرى من الشعب في مستنقع الديون والفقر والبطالة.
الفساد البيئي في العالم العربي
شهدت الدول العربية العديد من حالات الفساد البيئي، التي تعكس إما عدم الاكتراث لأهمية الموارد الطبيعية وحماية حقوق المواطنين في بيئة سليمة، وإما حالات من السرقة الحقيقية لقيمة الموارد الطبيعية نتيجة سياسات الخصخصة وبيع الأصول، التي لا تتضمن تحسين الأداء بمقدار ما تهدف إلى تحقيق الأرباح الطائلة بطرق تتجاوز القانون.
في ليبيا، أهدر نظام القذافي ثروة الشعب النفطية في مغامرات طائشة وبذخ شخصي فاحش من دون الاهتمام بحقوق التنمية في البلاد. لكن الأمر تجاوز ذلك في تعمد تعريض المواطنين الليبيين للتلوث بالمواد السامة. فقد كشفت وثائق ويكيليكس أن القذافي رفض في العام 2009 التخلص من آخر شحنة من بقايا اليورانيوم المخصب من البرنامج النووي الليبي غير المكتمل، وكان يجب أن تشحن إلى روسيا للتخلص الدائم منها. وأبقاها في مركز أبحاث، غير مؤمنة لا أمنياً ولا بيئياً، في محاولة للضغط على سلطات مدينة نيويورك التي رفضت السماح له بإقامة خيمته الشهيرة في حديقة سنترال بارك أثناء مشاركته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
أما في تونس، فقد تناقل المجتمع التونسي قصصاً ووقائع حول قيام زوجة الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلتها بممارسة الضغوط على المواطنين والمؤسسات العامة، لتسجيل أراض زراعية خصبة بأسماء أفراد عائلتها، وتحويل مسمياتها من زراعية ذات ملكية للدولة إلى استثمارية ذات ملكية خاصة، لإقامة مشاريع سياحية وعقارية على أخصب الأراضي وأفضلها في تونس. مثل هذه الحالات من الفساد هي التي وضعت الشعب التونسي أمام خيار الثورة وتغيير النظام، على رغم تحقيق تقدم مشهود في مجال التعليم والتنمية والتصنيع، خصوصاً في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
وفي مصر، كان موضوع الفساد والهدر في إدارة الموارد الطبيعية من أهم الملفات الساخنة على منبر الثورة المصرية، خصوصاً قرار الحكومة بيع الغاز الطبيعي لإسرائيل بثلث متوسط السعر العالمي. وساهم ذلك في تأجيج المشاعر الشعبية والمطالبة بمحاكمة المسئولين عن هذا الملف. وهناك قضية أخرى أرقت الشارع المصري قبيل الثورة، تتعلق بضعف الدولة في الدفاع عن حقوقها في مياه النيل والوصول إلى تفاهم يستعيد الحصص المصرية التاريخية، التي يتم حالياً التفاوض بشأن إعادة تخصيصها بين دول حوض النيل في غياب مصري واضح.
ظهرت أيضاً في شعارات الثورة المصرية احتجاجات على إدخال المخصبات الزراعية المسرطنة إلى السوق المصرية، واستمرار المصانع في تلويث مياه النيل، وعدم جدوى مشروع توشكى للزراعة في الصحراء، واستمرار ظهور السحابة السوداء الكريهة في سماء القاهرة كل فصل خريف نتيجة حرق قش الرز في الأسابيع الأخيرة من الصيف. حتى في البلدان التي لم تصل فيها الاحتجاجات إلى المطالبة بتغيير النظام، مثل الأردن، كان من أهم شعارات المتظاهرين وقف بيع أصول الدولة ومواردها للقطاع الخاص. فتم تحميل سياسات الخصخصة الكثير من المسئولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، خصوصاً بيع شركات الاستخراج والتعدين الناجحة مثل شركات الأسمنت والفوسفات والبوتاس، التي حققت عوائد وأرباحاً كبيرة بعد بيعها بمبالغ زهيدة نسبياً وعدم فرض مسئولية بيئية عليها لتنظيف المناطق الملوثة الناجمة عن عمليات التعدين.
هل من طريق نحو مستقبل مستدام في الربيع العربي؟
لايزال مستقبل الدول العربية التي تخوض مرحلة التحولات الديموقراطية، إما بالثورة وإما بالتغيير الاحتجاجي، مفتوحاً على عدة احتمالات. فهناك الأمل في حدوث تطور في معايير الإدارة والقيادة والمعرفة، بحيث تنتقل هذه الدول نحو مرحلة الدولة المدنية الحريصة على حقوق الإنسان، ومنها الحقوق البيئية، أو تدخل في مستنقع من الفوضى والعشوائية تكون فيه نوعية البيئة أحد أكبر الضحايا.
في تونس، واجهت المحميات الطبيعية الكثير من المشاكل في ظل تراخي الإدارة والمراقبة وتعرض الكثير من محتوياتها والبنية التحتية فيها إلى السلب، ناهيك عن الصيد والجمع غير المنضبط للأنواع الحية ومنها ما هو مهدد بالانقراض. لكن العمل البيئي المؤسسي شهد قوة في تونس، من خلال قيام مجموعات شعبية ومدنية بالضغط لتضمين الحق في بيئة سليمة في الدستور التونسي الجديد. كما ضمت الحكومة التونسية وزيرة بيئة من الناشطات في الثورة التونسية ولا يتجاوز عمرها 28 عاماً، وهذا في ذاته وإن كان يمثل نموذجاً فريداً للاقتناع بدور الشباب فإنه أيضاً يمثل تحدياً لا يستهان به.
ووثقت تقارير إعلامية مصرية العديد من الانتهاكات لنهر النيل في مرحلة ما بعد الثورة المصرية، ومنها السيطرة بالقوة على مئات الفدادين من الأراضي المحاذية للنهر، وتزايد وتيرة صرف المجاري والمخلفات في غياب الرقابة الأمنية الفاعلة.
وفي الأردن، تزايدت نسبة الاحتجاجات التي قادتها جماعات وعشائر محلية ضد إقامة المحميات الطبيعية، وذلك استناداً إلى ما تعتبره حقاً لها منذ ما قبل نشوء الدولة. وفي الجانب الإيجابي، ساهم النشاط الشعبي المترافق مع الربيع العربي في منع إقامة كلية تدريب عسكرية كبيرة في قلب غابة برقش التي تشكل أحد أهم أنظمة الغابات النادرة في الأردن. كما تستمر الحملة الشعبية المناهضة لإقامة المفاعل النووي في كسب الزخم والتأييد الشعبي، بحيث أصبحت تملك قدرة كامنة على اتخاذ قرار وشيك بوقف المشروع في مرحلة مقبلة.
أما في اليمن، فقد أدت المواجهات المسلحة إلى تدهور وضع البيئة إلى الحد الأدنى من الاهتمام السياسي والشعبي. فتزايدت الاعتداءات على البيئة وحالات التلوث وتراكم المخلفات، وحتى تهديد جزيرة سقطرى الفريدة التي طلبت الإدارة الأميركية إقامة قاعدة عسكرية أميركية فيها، وربما تكون الخطة قد ألغيت نتيجة تطورات الثورة.
ولكن في المقابل ثمة أسباب وجيهة للأمل. فالربيع العربي يقدم فرصة كبيرة لتغيير جذري في الإدارة في العالم العربي، باعتماد معايير الجدارة المهنية وليس نظام الوساطات التي تسيطر على الإدارة الحالية والسابقة والتي ساهمت في جعل الناس ينقلبون على السلطة الفاسدة. ان التحول المنشود للدول العربية من مرحلة الحكم الواحد إلى التعددية السياسية من شأنه أن يضع القرار في يد الشعوب التي تحدد مطالبها وأولوياتها. وفي السياق البيئي، لا يتطلب ذلك فقط تغييراً في نمط الوعي لدى صناع القرار، بل أيضاً ارتقاء البيئة والإدارة المستدامة للموارد إلى المواقع ذات الأولوية في أجندة العمل الديموقراطي والحزبي.
تبقى القضية الأولى على أجندة الإصلاح البيئي في العالم العربي ظهور القيادات البيئية الحقيقية في الإدارة الرسمية. فلايزال معظم وزراء البيئة العرب، باستثناء قلة نادرة، من الأقل تأثيراً ونفوذاً في الحكومات. وعادة ما يتم انتقاؤهم من أقليات دينية أو عرقية أو سياسية، كنوع من إظهار إشراك جميع فئات المجتمع في الإدارة العامة للدولة. إن وزارات البيئة في العالم العربي تحتاج إلى وزراء أصحاب تخصص علمي، وإلى شغف حقيقي في تحسين نوعية البيئة وتحقيق قصة نجاح تبقى مرتبطة بسمعتهم المحلية والعالمية، بدلاً من قضاء الأشهر في المناسبات الاجتماعية وافتتاح الندوات والمؤتمرات والسفر في المشاركات الخارجية واستقبال مندوبي ورؤساء المنظمات الدولية في انتظار راتب تقاعدي مريح.
نحو اقتصاد عربي أخضر
يمكن لجميع الدول العربية الجادة في التحول نحو مستقبل اقتصادي مستدام أن تستخدم توصيات وتفاصيل التقرير السنوي الرابع للمنتدى العربي للبيئة والتنمية، الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 تحت عنوان «الاقتصاد الأخضر في عالم عربي متغير»، ليكون وثيقة تخطيط استراتيجي لهذه الدول.
يطرح هذا التقرير عدة طموحات محسوبة للانتقال إلى اقتصاد مستدام، ومنها أن التحول إلى الممارسات الزراعية المستدامة يمكن أن يؤدي إلى توفير 5 ـ 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي نتيجة زيادات إنتاجية المياه ورفع مستوى الصحة العامة وحماية الموارد البيئية، وسيبلغ إجمالي هذا التوفير 100 بليون دولار سنوياً. ولتحقيق أهداف التنمية المستدامة تحتاج الدول العربية إلى توظيف ما لا يقل عن 1,5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً في مجالات الصرف الصحي والبنى التحتية للمياه وابتكارات كفاءة استخدام المياه وتقنيات إعادة التدوير.
وفي مجال الطاقة يمكن تخفيض متطلبات الطاقة للكثير من العمليات الصناعية، حيث التحسينات في كفاءة الطاقة في صناعة الأسمنت مثلاً تخفض الاستهلاك ما بين 20 و40 في المئة لكل طن أسمنت، كما يمكن توفير 150 ألف بليون كيلوواط ساعة سنوياً من العمليات الصناعية عن طريق تحسين كفاءة الطاقة 30 في المئة، بقيمة 12 بليون دولار.
وفي مجال الإنشاءات يمكن أن يساهم تحويل الأبنية التقليدية إلى أبنية خضراء في معالجة مشاكل البطالة في المناطق الحضرية وخلق كوادر جديدة من العاملين. كما يمكن لإنفاق 100 بليون دولار في تخضير 20 في المئة من الأبنية الموجودة حالياً في البلدان العربية إنتاج 4 ملايين وظيفة جديدة. إن احداث مثل هذا التحول الجذري في السياسات الاقتصادية يحتاج إلى تغيير سريع وجذري في عقلية اتخاذ القرار في المنطقة. وهذا بدوره يتطلب المزيد من الوعي والضغط من قوى المجتمع المدني والرأي العام، للدفع نحو دمج البعدين الاجتماعي والبيئي بشكل مباشر في محاور تحديد السياسات الاقتصادية والتنموية.
العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ