بداية أشير الى ان الملف الشهري لـ «ريضان» سيتوقف عن الاصدار خلال شهر رمضان المبارك، ليعاود الظهور بشكل وتناول جديدين، ومن بينهما إمكان تناول أحد كتاب الساحة - إما باستكتاب من الصحيفة، وإما باختياره - لأحد شعراء الساحة الذين لم يتم تناولهم من قبل، شرط أن يكون الاختيار متسقا مع المعايير التي أخذ بها الملف منذ العدد الأول.
لا أحد يتفق معنا مئة في المئة بشأن كل الشعراء الذين حلوا ضيوفا على الملف الشهري في «ريضان». البعض رأى أننا وفقنا في بعض الأسماء ولكننا لم نتناولها بتجرد كافٍ، أو أننا جاملنا أحيانا في اختيار عدد من الأسماء ولم نشتغل على قراءة التجربة كما يجب، والبعض الثالث اتفق معنا في جانب وتحفظ علينا في جانب آخر من دون أن يبدي أسباب اتفاقه أو أسباب تحفظه.
لكن ما يجب الالتفات اليه في هذا الصدد أننا - وكما أشرت سابقاً - ما دمنا نعمل ونحاول ونجتهد، فلا بد من أن نقع في الأخطاء، ومن لا يعمل لا يخطئ، تلك واحدة من البديهيات التي لا يمكن لأحد أن يغفل عنها. يكفي أننا كرسنا لحال لم تعرفها الساحة لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، الأمر الذي انعكس حتى على بعض الصفحات الثقافية في بعض الصحف الزميلة، التي وفقت بشكل ملحوظ في التقاط التجربة وتجييرها في تدشين ملفات لكتاب وشعراء وقصاصين بحرينيين يستحقون الاهتمام كل الاهتمام.
ما يحزننا حقا هم أولئك الذين يتعاملون معنا بأكثر من وجه. فعلى الهاتف هم خيرة الأصدقاء، مقدرين وممتنين لكل الجهد، وبعد اغلاق سماعة الهاتف تبدأ اللعنات والمؤامرات والشتائم والدسائس، ما يكشف عن مأزق أخلاقي حقيقي. لم يجبرهم أحد لقول كلمة ثناء في حق التجربة، لذلك يمكنهم الاستمرار في التعامل معنا بروحهم ونفسيتهم الحقيقية. سنحترمهم كثيراً حين يتعاملون معنا بشكل ظاهر وباطن، ولكن لن نحترمهم قيد أنملة حين يمعنون في القيام بدور الأحبة في الظاهر، فيما يحشدون خناجرهم ومديهم للانقضاض على ما تبقى منك.
فيما يتعلق بضيف الملف لهذا الشهر الشاعر المتميز سعد الجميري، يُجْمِع أكثر الذين تعاملوا معه على دماثة خلقه، ووضوح تعاطيه مع زملائه من دون تلوّن أو مناورات أو تحفظ، وهذا الأمر يكاد يكون علامة فارقة حين يحدث في ساحة تتغنى ليل نهار بأخلاقياتها، فيما هي تحتاج الى سنوات كي تتعلم أبجدية تلك الأخلاق.
نحاول دائماً أن نحسن الظن بالمعنيين بهذه الساحة، لكن تبرز أحياناً شواهد لا تترك لك مجالاً لإحسان الظن ذاك، وإلا أصبحت مشروع استغباء واستهبال. وحسن ظننا بالشاعر الجميري تأتى من تعاطي الصفحة معه وتعاطيه معها - ولو عن بعد - اضافة الى انطباعات بالجملة من قبل زملاء له- يشهد الله - أنهم لم يذكروه الا بالخير كل الخير.
الجميري لم يدّعِ تفرد تجربته عن بقية تجارب زملائه في الساحة المحلية، بل ظل - وبحسب القريبين منه، والمخالطين أو المعاصرين لتجربته منذ بدايتها - يتعامل مع تجربته بهدوء تام، ووعي كبير، ومحاولات مستمرة لاكتساب مزيد من الخبرات، ولا تنتج تلك النظرة والرؤية والوعي إلا من قبل شخص معافى مما تعاني منه هذه الساحة من أمراض مستفحلة، وحالات متورمة تظل تعتقد أنها أنجزت وأتت بما لم يأت به الأولون والآخرون، ويمكن الوقوف على تلك النظرة والرؤية والوعي في قوله:
لا ما احترفت الشعر بس اهتويته
وبين الثريا والثرى شاسع الفرق
ولو كان بيدي من زمانٍ سليته
بس عادتي والله ما اضيع الحق
فكأنه في تعاطيه مع الشعر لا ينشد زخرف الظهور والصيت، بقدر ما ينشد أن يكون الشعر أداة منافحة ودفاع عن الحق الذي يرتأيه، وتصريحه بأنه لم يتخذ الشعر مهنة، يكشف عن مساحة من الخيار والحرية التي تتيحها له في تسجيل موقف يرتأيه، على الضد مما لو أنه محترف له، اذ لحظتها يظل رهين املاءات لظروف تحيط به.
كما لم ندّعِ - باعتبارنا معنيين بصورة أو أخرى بتلقي النصوص والتعاطي معها وأحيانا اختبارها وإخضاعها لاشتراطات وقوانين ليست من عندياتنا، بقدر ما هي من الثوابت - لم ندّعِ أن الجميري تجربة فريدة ومغايرة عن التجارب القائمة في الساحة المحلية، لأن كلاماً وتقريراً بهذا المستوى سيكون خالياً من صدقيته.
ما يتفق عليه كثيرون، أن الجميري يسعى ضمن تجارب سبقته أو تلته أو كانت مجايلة له، الى الاستفادة من الإضافات والقفزات التي حققتها تجارب يعترف هو بنضجها وتميزها، مثل تجربة الشاعر عبدالله حماد، عيسى السرور، فيصل الفهد، إبراهيم المقابي، بدر الرويحي، بدر الدوسري، محمد الجلواح، خليفة اللحدان، يونس سلمان، أحمد مطلق، عبدالرحمن الخالدي، أمينة الشيخ، ظما الوجدان، هنادي الجودر، وآخرين.
ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد أن تجربة الجميري، لا تتجاوز كثيراً تجارب ظلت على انشداد واضح وبين تجارب ظلت تتعامل مع القصيدة النبطية باعتبارها شكلاً أولاً، لا يمكن الخروج على تأسيسه وتفاصيله، ومضموناً ثانياً، يكاد لا يخرج على أغراض شعرية تم التأسيس لها، ومن النادر التجرؤ على توظيف تلك المضامين في أغراض هي في الصميم من حركة وواقع اللحظة الراهنة، وخصوصا الموضوعات التي تضع بينها وبين الوجدانيات والاخوانيات والغزل والرثاء، مسافة تمكنها من الولوج الى تفاصيل الواقع وإشكالاته. بمعنى آخر نادرا ما تخرج تلك المضامين على تلك الأغراض، ما جعل التعامل مع ذلك النمط من الشعر، وضمن الشكل الثابت، والمضمون الذي نادراً ما يتحرك، يبدو منطقياً وقارّا في وعي التعامل مع هذا النمط، وعلى رغم كونه قاراً في وعي التعامل، لا يعني بالضرورة أن يكون مؤبداً وغير قابل للخروج عليه، بمعنى اختزال الفضاء الذي يمكن للشاعر أن يتحرك من خلاله نحو نص قادر على إعادة اكتشاف امكانات اللغة والمضامين التي تمتح منها، إضافة الى اعادة التجرؤ على مساحات تجريبية تعطي للفن والأدب قدرتهما الدائمة على التجدد والحيوية، واقتراح أشكال ومضامين طبعها التحول والتحرك، لا الثبات والجمود.
الانحياز الى «الرمْنسة»
ربما أهم ما يلاحظه المتتبع للتجربة ، وقوفه على تأكيد الجميري على ما يمكن أن نطلق عليه بـ «الرمْنسة» أي اضفاء رومانسية على الكثير من النماذج التي اشتغل عليها، وليس بالضرورة أن تكون ضمن جانبها المباشر، والمتمثل في حالة وجدانية كالتي الفها نتاج النسبة الأكبر من الشعر النبطي منذ عقود، بل تمتد لتشمل الوطن باعتباره هو الآخر حالاً وجدانية قد يجد الشاعر نفسه مندفعاً بحيث يجد نفسه مجسداً إياه في صورة وملامح الحبيبة نفسها، على أنه في الأغراض الأخرى من تجربته ظل بمنأى من حيث الكم وأحياناً النوع، عن الاندفاع نحو تجارب أخرى تضعه في سياق طرق أبواب تجريبية تخرجه مما يشبه الحال الواحدة، والتوجه الواحد.
يكفي أن نشير الى أن الجميري وحتى هذا اليوم، لم يخض تجربة التفعيلة في الشعر العامي، وهو في النهاية شعر يخضع لنظام التفعيلة، والوزن، على رغم الاصطلاح الخاطئ الذي كثيرا ما يتكرر بتسميته (شعر النثر) في خلط عجيب وغريب، وإشارتنا الى شعر التفعيلة ينبع من حقيقة أن الفضاء الذي يمكن أن يتوفر للشاعر في هذا الصدد، هو أكثر رحابة وامتداد وقدرة على إفراغ الحالة الشعورية وتجسيدها ومنحها الكثير من العمق، فيما النمط الأول والمكرس يحد من ذلك الفضاء ويعمل على احتوائه بل وخنقه، مع التنويه هنا بالقدرة الملفتة والأدوات الرصينة التي يمتلكها الشاعر الجميري، ما يمنحه الخروج بتجربة يمكن أن يكون لها شأن كبير جنباً الى جنب مع تجارب بحرينية وخليجية، بحكم محدودية الأسماء التي أمعنت في تراكم تجربتها وتعميقها ضمن هذا الاتجاه.
ما يجب تأكيده في هذا المقام أن اللغة التي يكتب بها الجميري، وإن بدت موغلة في مباشرتها في عدد كبير من قصائده، الا أنها مباشرة تأتي في سياق الموضوعات والمضامين التي يشتغل عليها
العدد 1471 - الجمعة 15 سبتمبر 2006م الموافق 21 شعبان 1427هـ