منذ أن أخرج أفلامه الأولى كان راينر فيرنر فاسبندر يحظى في وطنه الأم ألمانيا، بالاعجاب والتقدير من ناحية ويحصد الرفض والاستنكار من ناحية أخرى. وكان مرد هذا التقييم المتباين يكمن، إلى جانب أسباب أخرى عدة، في موقفه الاستفزازي حيال ألمانيا وتاريخها. وإلى هذا اليوم، أي بعد مضي ثلاثة وعشرين عاماً على وفاته، لايزال فاسبندر موضع نقاش وخلاف. بمعنى أن علاقته بالتاريخ الألماني لاتزال مثقلة بتعقيدات كبيرة ومشكلات محرجة.
والسؤال الذي يطرح هنا هو: لماذا لاتزال ألمانيا حائرة في التعامل مع فاسبندر والشهرة التي حظي بها على المستوى العالمي؟ ومهما كان موقف ألمانيا منه، الأمر الذي لا خلاف عليه، وهو أن هذا المخرج، المتوفى العام 1982 عن عمر ناهز 37 عاماً، قد ضمن لنفسه ذكرى خالدة في التاريخ.
فمنذ تسعينات القرن العشرين تحظى ذكراه بالاطراء والثناء في نيويورك ولندن وأخيراً وليس آخراً في مركز بومبيدو بباريس، إذ يجري حالياً عرض أعماله في مهرجان كبير. ومن المتوقع أن تقتفي طوكيو أيضا خطى العواصم الأخرى. إنه لحدث جدير بالتمعن فعلاً، ولاسيما حينما يأخذ المرء بنظر الاعتبار أن فاسبندر قد قورن في الكثير من المرات بالايطالي بيير باولو بازوليني والياباني يوكيو ميشيما. وهؤلاء الثلاثة لم يكونوا أبناء يتوقون للتصالح مع أممهم التي سادتها نظم فاشية فيما مضى من الزمن ولم يردعهم رادع عن ممارسة المثلية الجنسية كتعبير عن الاحتجاج السياسي وكوسيلة للإلهام الشعري وحق من حقوق تأكيد الذات.
وكان نمط الحياة الذي اختاره فاسبندر لنفسه قد أساء إلى نتاجه على مدى زمن طويل. فثمة فضائح أعطت أولئك الذين ما كانوا يكنون له الود أصلاً مبررات كثيرة لأن يتجاهلوا أفلامه أولاً بأول. إلا أن هذا الموقف طرأ عليه بعض التغيير في السنوات الأخيرة. وحدث هذا التحول بفضل الجهود التي بذلتها مؤسسة راينر فيرن فاسبندر الخيرية أيضاً، هذه المؤسسة التي تشرف على إدارتها يوليانا لورنس. وبعد وفاة والدته، تولت السيدة، التي عاشرها فاسبندر سنوات كثيرة، تدبير الشئون الخاصة بميراثه. لكن جهودها لم تثمر إلا عن القليل على ما يبدو، فأفلام فاسبندر نادراً ما تعرض على شاشات التلفزة الألمانية، ناهيك عن عرضها في دور السينما. وفي الواقع لا يعاني فاسبندر وحده من هذا الاجحاف، بل يشاركه في ذلك كل المخرجين من أبناء جيله ومخرجون آخرون أيضاً. وصارت يوليانا لورنس تركز جهودها على المعارض - ووسائل العرض الحديثة كأشرطة الـ «دي في دي ض» وما ترافقها من منشورات وأبحاث تساعد على الاحاطة بمغزى أعمال فاسبندر. فعلى رغم كل التجاهل، الذي تعرض له، فإن فاسبندر لايزال حياً.
هل كانت أفلامه جديدة أم رديئة؟
قال جان لوك غودار ذات مرة: «قد يصح الرأي القائل إن أفلامه كلها رديئة، إلا أن فاسبندر يظل مع ذلك أعظم مخرج سينمائي ألماني. فهو كان قد استجاب لنداء القدر وراح ينتج الأفلام في حقبة كانت فيها ألمانيا أحوج ما تكون لسينما تمكنها من التعرف على ذاتها. إنه لا يقارن إلا بالايطالي روسليني وحده، وذلك لأن التيار الجديد نفسه قد عجز عن عرض حاضر فرنسا على نحو يضاهي عرض فاسبندر لواقع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية». وكان كثير من مخرجي الأفلام قد اتخذوا فاسبندر محكاً يستطيعون من خلاله ليس تحديد موقفهم فحسب، بل وابراز رفضهم لتوجهاته على وجه الخصوص. وفي الحقيقة لم يترك فاسبندر خلفاء بالمعنى المتعارف عليه، لم يكن له خلفاء من هذا القبيل في ألمانيا على أدنى تقدير. وكان لارس فون ترير أنتج من خلال شريطه «أوروبا» فيلماً على شاكلة أفلام فاسبندر حقاً، وكان فيلم «البلهاء ie Idioten» من أفلام «الجيل الثالث» في سلسلة الأفلام التي أنتجها فون ترير، فهؤلاء البلهاء هم ارهابيون يتقمصون في الأزمنة العادية دور من يتصنع الارهاب في أيام الكرنفال. وفي فرنسا يتقاسم حالياً نمطه في اخراج الأفلام كل من فرانسوا أوزون وكاسبر نوئيه، الأول من خلال تقفيه خطى فاسبندر في عرض ما يمكن أن تكون عليه المشاعر من خداع وتصنع يثيران السخرية، أما الثاني فإنه يرث عن فاسبندر الناحية الأكثر عتمة، بمعنى عرضه لأولئك الضحايا غير الأبرياء، الذين يتصرفون بخبث كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وتتمحور أعمال فاسبندر الفنية حول محطة الانفعالات النفسية (العائلة البديلة) والمحطة السينمائية وما تشتمل عليه من عوالم مصطنعة تتكون من مرايا ونظرات وأماكن مصورة وحوارات سينمائية ورسومات صوتية لأماكن محددة. في هذه المتاهات، أعني متاهات الأنا وصداها، تتحرك الشخوص، فعنهما تنشأ قصص الحب والغرام بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء وبين الرجال والنساء. وتخترق النساء، على وجه الخصوص هاهنا، حدود التحرر والقهر في كلا الاتجاهين.
وفي الدراما وما يصاحبها من علاقات حب إما ميئوس منها أو تدعو للسخرية أو مأسوية تثير الحزن والكرب، ويتحطم أزواج الفرق بينهما شاسع وعظيم، أعني أزواجاً من قبيل علي وإيمي في فيلم «الخوف يأكل الروح»، وفرانس وهاني في فليم «مسار الحيوانات البرية»، وبيترا وكارين في فيلم «دموع بيترا فون كانط الساخنة»، أو فرانس وراينهولد في فيلم «برلين ميدان الكسندر». وفي غالبية الأحيان كان «استوديو الرجل الواحد». يحافظ على توازن النظامين العائلي والسينمائي عند فاسبندر: فقد غدت كل من هانا شيغولا وانغريد كافن وما رغيت كارستنسن وباربارا سوكوفا واليزابيت تريسينار وروزل تسيش من نجوم السينما بفضله هو في المقام الأول.
إلا أن موقفه من الرجال كان على النقيض من هذا، هؤلاء كانوا أسرى فاسبندر عاطفياً أو مادياً أو جنسياً. وبحسب ما يؤكده البعض، كان فاسبندر يستغلهم إما من خلال تحريض بعضهم على البعض الآخر أو من خلال شراء ضمائرهم بمزيج محسوب قائم على الاضطهاد والمضايقة من ناحية والجود والكرم من ناحية أخرى. وكانت الروابط الثنائية الناشئة عن هذا المزيج، ضمنياً، تحافظ على استمرار عمل آلة الانتاج وكأن المشاعر المتناقضة على وجه الخصوص هي أفضل زيت تتحرك به هذه الآلة وأن الفزع الباطني أرقى المبتكرات الميكانيكية ضماناً لعملها بأعلى كفاءة.
العائلة البديلة: مجموعة من الممثلين
بالنسبة إلى فاسبندر شكلت مجموعة من الممثلين بديلاً مناسباً عن الأسرة. وكانت هذه الأسرة البديلة تقوم على أسس بالية ومتخلفة عن طابع العصر وتعاني من عقدة أوديب التاريخية والمتأخرة في آن واحد: فهي كانت تخلق وتدمر الهوية والكرامة والاعتداد بالنفس باستمرار وتتجرأ فتخرج على صيغ الانتظام في الإطار الاجتماعي بالنحو المتعارف عليه تقليدياً. وفي كل حقبة من حقب حياته القصيرة نجح فاسبندر في تحويل ضياع الطفولة والتخلي عن الحياة في إطار الأسرة الصغيرة إلى نفع يخلق له روابط اجتماعية من أنواع مختلفة: الأسرة البديلة واستوديو الانتاج ليس باعتباره المختبر الذي يجري فيه رسم صورة «الرأسمالية المتأخرة» فحسب، بل وباعتباره أيضاً المكان لنقيضه، أعني باعتبار الاستوديو المكان المناسب للتعبير عما في المشاعر وعلاقات العمل
توماس الزيسر
كاتب ألماني
العدد 1482 - الثلثاء 26 سبتمبر 2006م الموافق 03 رمضان 1427هـ