العدد 3577 - الجمعة 22 يونيو 2012م الموافق 02 شعبان 1433هـ

توظيف التراث الصوفي

يدخل السماهيجي أرضا ليست بكراً في مقام البحث لكنه يجترح أدواته ويقصد منطقة الاشتغال بطريقة بكر؛ ما يجعل دراسته هذه في توظيف التراث الصوفي إضافة جديرة بالاقتناء وجديرة أيضاً بنقد النقد لمشتغلين جدد. لعلكم تتساءلون مالذي دفع السماهيجي لقصد منطقة الاشتغال هذه؟ على ما هي عليه من رمال متحركة، وما يمكن أن يدفع بالباحث إلى أن تزل قدمٌ بعد ثبوتها، ولاسيما أن التعالق النصي التراثي، والشعري الصوفي ليس من السهولة بمكان على الباحث، وهي ليست عملية كشف فحسب، أو استدعاء مجرد؛ بل هي عملية إبداعية معقدة، حاول السماهيجي أن يقاربها في أهم مفصل من مفاصلها، أعني مسألة «التوظيف» كاصطلاح علمي وكممارسة، وهو ما يحتسب للباحث في طرقه البحث في هذا المصطلح الشائعِ استخدامُه،الخفيِ مفهومُه، وتعريفه.

ولئن كانت عملية «التعريف» من أعقد المسائل وأكثرها حيرة لدى المناطقة، وكذلك عند الفلاسفة، كما هي عند الصوفية الذين رأوا أن الوجود لا يقبل التعريف، لأنه واضحٌ وبديهي، وشاع «أن توضيح الواضحات من أصعب المشكلات» إلا أن السماهيجي قبل هذا التحدّي، وشاء أن يعيث في أرض البحث نقداً وتفكيكاً، كي يخلص لتعريف خاص بما هو ذلك المعنيُ «بالتوظيف».

ولعل الشاعر حسين السماهيجي هو الأقدر من بين مجايليه على اقتحام هذه المنطقة الرجراجة، فهو من أولئك الذين تشربوا التراث وحبّه منذ عنفوان شبابه، كما أنه من أولئك الآخذين بحبل متين بالنص الجديد، وقادرٍ على إيراد الإبل من موردها، بتوازن لا يُنقص حظ التراث، ولا يصادر النص الحديث بدعوى التغريب.

مرت الدراسة ُ بمسحٍ أشبه ما يكون بالمسح «الببليوغرافي» لتلك الكتب والدراسات التي تناولت تجربة الشعر العربي الحديث في ضوء (الصوفية) أو التأثيرات الصوفية في الشعر العربي الحديث. نقف سريعاً عند بعض تلك الكتب والدراسات التي تطرق لها السماهيجي

فمن تلك الكتب «توظيف شخصية الحلاج في الشعر العربي الحديث» صدر العام 1997 لمختار علي أبو غالي.

رأيُ الباحث: «لم يأت المؤلف على بيان مصطلح التوظيف ولم يعمل على تأصيله علمياً وعرض جوانب من توظيف شخصية الحلاج دون المضي قدماً لمعاينة جوانب التوظيف رؤيا وكتابة».

من تلك الكتب «العبارة الصوفية في الشعر العربي الحديث» العام 2000، لسهير حسانين ووصف هذه الكتاب بأن له «أهميته البالغة».

رأي الباحث: اقتصر هذا الكتاب على النظر إلى ما أسماه بـ «العبارة الصوفية في الشعر العربي الحديث» بعيداً عن تناول مستويات العلاقة بين النص الشعري والتصوف

كتاب «أدونيس والخطاب الصوفي» العام 2000، لخالد بالقاسم.

رأي الباحث: معاينة للمنجز الأدونيسي من خلال قنوات اتصاله بالصوفية هذه المعاينة لم تذهب أبعد إلى جغرافيا أبعد من الجغرافيا الأدونيسية لذلك كانت قاصرة عن تقديم طرح شمولي يكشف جوانب الاتصال بين المنجز الأدونيسي، والمنجزالعربي المعاصر.

من الدراسات أيضاً «الشعر والوجود: دراسة فلسفية في شعر أدونيس» لعادل ظاهر.

رأي الباحث: هذه الدراسة، اقتصرت على المنجز الأدونيسي وحده ولم تتصف بالشمولية.

وائل غالي كتاب «الشعر والفكر- أدونيس نموذجا» العام 2001.

رأي الباحث: درس التجربة الشعرية الأدونيسية من خلال علاقتها بالجوانب الفلسفية والصوفية مع افتقار البحث إلى المحاورة مع النتاج الشعري نفسه.

استعرض الباحث السماهيجي تلك الكتب التي قاربت التجربة الجبرانية من منظور ديني وعرض من بين تلك الدراسات دراسة روز غريب في كتابها «جبران في آثاره الكتابية»؛ إذ اعتنت الكاتبة بالبحث في الموضوعات التي كانت محور التجربة الجبرانية مع إفراد مساحة واسعة لدراسة (صوفية جبران) وكشف عن ثغرات هذه الدراسة في عدد من المستويات

مدونة البحث (لماذا هذا الموضوع).

ربما من خلال (نقد تلك المصادر) تكشّف لكم ما الذي يريده السماهيجي من خلال دراسته هذه!!

- توسيع دائرة البحث في المنجز الشعري الحديث وعلاقته بالتصوف لتشمل عفيفي مطر، صلاح عبدالصبور، البياتي، آدونيس وجبران خليل جبران.

- تجاوز البعد (القُطريّ) مع التركيز على أن تلك الأسماء هي من أهم الأسم التي تعاملت مع التراث الصوفي ووظفته نظرياً وأبداعياً.

- العمل على جعل تلك الاختيارات كنماذج لتجارب شعرية مهمة ينبغي عدم إغفالها بوصفها ممثلة لأهم المحطات الشعرية التي كانت ولاتزال مراكز شعرية أساسية في راهن الشعر العربي.

اشتمل البحث على مقدمة وبابين، تضمن كل باب فصلين اثنين ثم خاتمة أخيرة درس في الباب الأول (التوظيف) من حيث هو مصطلح ودواعي لجوء الشعراء إليه مرتكزاً على أن جبران خليل جبران يمثل بدءاً جديداً للشعرية العربية الحديثة وفي الباب الثاني تمت دراسة الشاعر من خلال الجانب المعرفي التكويني المتمثل في (الخيال/ الرؤيا / المرآة) والقصيدة عبر جانبين، تكويني تمثل في (اللغة / المعنى / الشكل) والثاني تشكيلي تمثل في (الصورة / الرمز القناع).

في «التوظيف» لغةً ومصطلحاً

يبحث حسين السماهيجي في مصطلح التوظيف في محاولة منه لضبط هذا المصطلح بشكل أكثر علمية وصرامة، ومع قلة الدراسات التي حاولت تأصيل هذا المصطلح أو ضبطه علمياً إلا أن الباحث يقوم بغربلة علمية دقيقة جداً للوصول إلى تعريف واضح لمصطلح (التوظيف). ويمر عند عدد من المنعطفات بين من أجرى هذا المصطلح كرديف للاستخدام البلاغي عبر استعمال مصطلح (التوظيف الفني) وبين من استخدمه بطريقة تقليدية وأرسله إرسالا، وبين استعماله بمعنى (التأويل) أو بمعنى (التمثيل).

إلا أن المقاربة الجديرة بالتوقف هي مقاربة علي عشري زايد والتي عدها الباحث من أفضل المقاربات لمصطلح التوظيف وجاءت ضمن دراسته (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر) ويورد الباحث رؤية زايد لمصطلح التوظيف إذ يقول إن «التوظيف يعني استخدام الشخصية استخداماً تعبيرياً لحمل بعدٍ من أبعاد تجربة الشاعر المعاصر؛ أي أنها تصبح وسيلة تعبير وإيحاء في يد الشاعر يعبر من خلالها، أو يعبر بها عن رؤياه المعاصرة». يحاول الباحث السماهيجي في طريقه لكشف مصطلح التوظيف العودة به إلى الجذر اللغوي العربي ويستنتج أن هذا المصطلح بحسب ما تشير إليه اللغة يتصل بحقول دلالية ثلاثة هي الموافقة، والملازمة، والاستيعاب مستنداً على اشتقاقات الكلمة وتصريفاتها المعجمية، ليصل في آخر المطاف إلى أن التوظيف «إعادة لنظم المادة الموظّفة، أياً كانت ضمن سياقات جديدة تقترحها المادة الموظِّفة وعبر صلة جديدة معها تتنزل خلالها في منزلة (المستثمَر) من قبلها، بما يمنح المادة الموظِفة قابلية للتواصل مع تراثها ومع القارئ»

- التوظيف هو فعل إبداعي كلما أمعن في خفائه ومواربته كانت فعاليته أشدّ في النفوس وأوقع.

- التوظيف عملية متواصلة في فعاليتها التأويلية.

- التوظيف عملية عكسية يحدث فيها تبادل أدوار بين المادة الموظَفة والمادة الموظِفة.

لماذا التوظيف؟ ولماذا يستخدمه الشعراء كوسيلة تعبيرية؟

توجد دواع ذاتية، تتمثل في تعبير الشاعر عن حاجة ذاتية لديه يستطيع من خلالها أداء مسئوليته وهي مسئولية إنسانية الطابع خيرية التوجه وقائمة على المعاناة في التجربة، والقلق الوجودي.

يقابل ذلك دواع موضوعية تتلخص في اشتباك النص الشعري الحديث بالواقع وتحولاته، وفي تحديث النص الشعري ذاته وتطويره على مستوى جمالية القصيدة وتقنياتها الشعرية في النص الجبراني والخروج الكبير.

لعل الملمح الأهم في هذه الأطروحة هو عودة الباحث السماهيجي إلى المشروع الجبراني واصفاً هذا المشروع بالخروج الكبير الذي تتضح معالمه مع حضور الصوفي من خلال توظيفه بصورة فعالة؛ إذ ولدت الكتابة الجديدة المسكونة بقيم الأبدية والخلود ولم يستثن الباحث في دراسته لمشروع جبران خليل جبران أدب المراسلات والكتابة السِّيريّة؛إذ يرى أنها تحتل مكانة قصوى لفهم نفسية جبران ومنطلقاته الإبداعية (استغرق هذا الجزء من الأطروحة (فصلاً كاملاً) امتد على مساحة 31 صفحة عنونت بـ «اللحظة الجبرانية التأسيس للخروج» واختار الباحث النظر إلى تلك المدونات والمراسلات بوصفها نصوصاً يمكن للباحث أن يتوسلها باعتبارها مصادر أساسية لدراسة الأدب الجبراني وفهم التباساته وإشكالياته. ويحيل السماهيجي بالقول بضرورة الوعي باللحظة الجبرانية إلى قول نذير العظمة في كتابه «مدخل إلى الشعر العربي الحديث» الذي رأى أن «أي تقويمٍ لحركات التجديد الحديثة يسقط من حسابه إنجازات جبران في مجال تجديد الكتابة العربية وأساليبها يبدو ناقصاً وتعوزه الدقة والموضوعية».

في هذا الفصل يرى السماهيجي أن جبران كان يمثل البداية لكينونة الشعر الحديث، التي وقعت على تشكلها الأخير فيما نراه قائماً من عمارة شعرية شاهقة، أن جِدّة جبران تتخطى (الشكل) مروراً بقصيدة التفعيلة، إلى قصيدة النثر، إلى النص المفتوح وأن الميزة في جبران هي في طرحه مشكل الكتابة الشعرية في عمقها المسكون بما هو مسكوتٌ عنه، والذي تمثل فيما استطاع توظيفه من تراثه الصوفي على وجه أخص وما استفاده من الإرث الرومانسي الغربي.

وبالطبع فإن مقاربة السماهيجي لجبران لا تتصل بحيز تجربته فحسب؛ بل بمجاورة تلك التجربة وتناسخ روحها في تجارب حداثية لاحقة عند عفيفي مطر، والبياتي، وعبدالصبور، وأدونيس.

ويحيل السماهيجي القاريء إلى اقتباس جبران الذي يقول فيه: «أنا لستُ مفكرا أنا خالق أشكال»، وهي مقولة ينظر السماهيجي من خلالها إلى ذاته ويصف نفسه بأنه خالق أشكال فيما ينفي عن نفسه الصفة الذهنية كمفكّر. وتطبيقاً لما اختاره السماهيجي من تضمين المدونات السيرية، وأدب التراسل كمادة بحث إلى جانب الشعرية، فإنه يقف عند رسالة كتبها جبران إلى مي زيادة وفيها يقول: «إنما مكتبي هيكلي وصومعتي ومتحفي وجنتي وجحيمي. هو غابٌ تنادي فيه الحياةٌ الحياة وهو صحراء خالية أقف في وسطها فلا أرى سوى بحر من رمال، وبحر من أثير. إن مكتبي يا صديقتي هو منزلٌ بدون جدران وبدون سقف».

أهم ما في هذا الاقتباس هو تحويل جبران فضاء مكتبه إلى صومعة بما لهذه المفردة من دلالة التعبد والانقطاع عن العالم، ودعوة إلى العزلة والعودة إلى استبطان الذات. إن هذه الغربة والعزلة كما يذهب السماهيجي أخذت جبران إلى حيث الوقوع على ذاته التي أرادها متحدة بالذات الأعظم في الوجود

خاتمة

أن جهداً نقدياً كهذا الجهد لا تتسع له جلسة مبتسرة كهذه؛ بل هو جهد مضنٍ ومثقل بقلقين قلق الذات الشاعرة عند حسين السماهيجي، وقلق البحث الذي قاد الباحث إلى تخوم قد تفتح أبواباً آخرى في مشاغل نقدية قادمة.

العدد 3577 - الجمعة 22 يونيو 2012م الموافق 02 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً