شكلت محاضرة بابا الفاتيكان وتصريحاته بشأن الإسلام واتهامه باستخدام السيف وسيلة للاقناع صدمة سياسية كبيرة في العالم الإسلامي. كذلك تصدت لتلك الأفكار الكثير من الصحف الأوروبية والأميركية ورد بعض الباحثين على كلام البابا وطرح أسئلة بشأن مناسبة إعادة التذكير بصورة المسلم في الذهنية الأوروبية والمتخيل عن الآخر.
أفكار البابا عن الإسلام ليست جديدة. الجديد فيها مناسبة اطلاق تلك التصورات الذهنية بعد ان ظن الكثير من المستشرقين ان أوروبا تجاوزتها حين اكتشف العالم العربي الإسلامي على حقيقته وأعادت قراءة تلك المحطات الزمنية وفق منهجية معاصرة.
مكسيم رودنسون كان من أصحاب هذا الرأي. وننشر هنا مساهمته في مشروع عن الإسلام اشرف عليه المستشرق جوزيف شاخت في ستينات القرن الماضي. دراسة رودنسون تاريخية وموضوعية عن العلاقة الملتبسة بين الإسلام والمسيحية والشرق والغرب والبدو والحضارة. ولكن للأسف تصريحات البابا اعادت رسم صورة سلبية اعتقد الكثير من الباحثين ان التطور العلمي تجاوز تلك المرحلة، ومن بين هؤلاء المستشرق الفرنسي الراحل رودنسون.
مكسيم رودنسون
إن تراكم المعلومات الصحيحة عن الإسلام وأصوله وكذلك عن الشعوب الإسلامية، والاتصالات المتزايدة على الصعيدين السياسي والتجاري، والتقدير الذي نشأ عن ذلك في بعض الأحيان، والتقدير العميق للمذاهب العلمية والفلسفية التي صدرت عن البلاد الإسلامية، كل هذه الأمور انضافت إلى التطور الداخلي البطيء للعقلية الغربية، وأدت إلى احداث تغيير في الزاوية التي أصبحت تنظر من خلالها إلى العالم الأجنبي. لكن العنصر الأساسي في هذا التطور كان تحول العالم اللاتيني والاتجاهات العربية نحو علمنة الايديولوجيات.
فلقد طرأ على الصورة «الهجومية الوحشية لعدو شيطاني» تغير تدريجي، ليبرز بدلا منها مفهوم أدق في ظلاله، على الأقل في بعض الأوساط. لأن الصورة التي زرعت في عقول الناس في مطلع العصور الوسطى، والتي تناولت الأدب الشعبي بالرعاية كانت لاتزال تؤثر في عقول الجماهير. وطبعاً لم يكن مفهوم نسبية الايديولوجيات معروفا حتى ذاك الوقت إلا في حالات متفرقة، مثل حالة تلك الشخصية المحبة للإسلام والمهتمة بالعربية وهي الإمبراطور فردريك الثاني (النورماندي) من أسرة هو هنشتاوفن الذي كان يناقش المسلمين في أمور الفلسفة والمنطق والطب والرياضيات، والذي تأثر بعبادتهم الإسلامية وأقام في لوسيرا مستعمرة من السراسنة (البدو أو سكان الخيم) الذين كانوا يعملون في خدمته، والذين كان لهم مسجدهم الخاص مع جميع مرافق الحياة الشرقية.
وحين قام البابا غريغوري التاسع بطرد فردريك الثاني من الكنيسة العام 1239م فقد اتهمه من بين ما اتهمه به من الخطايا ومن مظاهر الود تجاه الإسلام، بأنه كان يؤمن جازماً بأن العالم وقع فريسة لخداع ثلاثة من الدجالين وهم رسل التوحيد، وقد تكون التهمة لا أساس لها، كما ادعى الإمبراطور، ولكن مجرد توجيهها يدل على الأقل على أن الموضوع الذي يبدو أن منشأه كان في العالم الإسلامي، كان واردا في ذلك الحين في أوروبا المسيحية أيضاً. ويبدو أنه بعد ذلك بفترة وجيزة اتهم أحد كهنة تورناي بالتجديف نفسه. ولعل الصورة التي ابرزت للمسلمين والتي تجعلهم بالنسبة إلى المسيحيين نماذج للتقوى في عبادتهم وفضائلهم اليومية، كما حدث مرارا، لعل هذه الصورة لم تكن سوى حيلة لجأ إليها الموجهون الأخلاقيون، أو لعلها شوكة بارزة من التيار المعروف المعادي للأكليروس في القرون الوسطى. وعلى أي حال فقد كان من شأنها تقوية الاتجاه الذي ينظر إلى المسلمين كأناس مثل غيرهم يعبدون الله بطريقتهم الخاصة، وإن كانت (بحسب الرأي المسيحي ذاك) طريقة خاطئة.
هذا الموقف يتجلى بأوضح صورة - في عهد فردريك الثاني - في أعمال الشاعر المغني البافاري فولفرام فون ايشنباخ، ففي قصيدته «فيلهالم» نراه يأخذ بحرية عن الملحمة الفرنسية التي تعود إلى مطلع القرن الثاني عشر وهي «الاستيلاء على أورانج» حول حصار أورانج. لكن الشاعر يحاول أن يبدي في هذه القصيدة تفهما للقتال بين السراسنة والفرنجة، وكلاهما يتمتع بفضائل الفروسية. ونرى السيدة المسلمة الجميلة آرابيل التي أصبحت هنا مسيحية باسم جيبورغ تنادي بالتسامح. ويعلق الشاعر على ذلك بقوله: «أليس خطيئة أن يذبح كالماشية أناس لم يسبق لهم أن سمعوا بالمسيحية؟ بل أقول إنها خطيئة محزنة، لأن جميع الناس الذين ينطقون بالاثنتين والسبعين لغة هم مخلوقات الله. وبالطريقة نفسها يغير بارسيفال وولفرام أجواء نموذجه، كريتيان دوتروي. ها هنا نجد والد بارسيفال جهموريت بتوجه إلى الشرق ولكن ليس ضمن إطار الصليبيين على الاطلاق. بل نراه على النقيض ينضوي في خدمة مبارك بغداد الذي كان، كما كان وولفرام يعلم، القائد الروحي أو بابا المسلمين: لقد جاءته الحياة في أنجو، وفقدها أمام بغداد من أجل مبارك (الفقرة 108). ويدفن في العاصمة الإسلامية على نفقة مبارك في قبر فخم إذ يقدسه المسلمون ويبكونه. وبنتيجة نجاحات جهموريت الغرامية يظهر لبارسيفال أخ غير شقيق هو فيرفيتز المسلم الشهم. ولقد جاء العلماء بعدة نظريات، بعضها في منتهى الجرأة، بخصوص مصادر وولفرام الشرقية، وبغض النظر عن حكمنا على هذه النظريات يجب أن ننوه بأن كاتبنا يكتب بصورة صحيحة الأسماء العربية لمختلف الكواكب (الفقرة 782)، وأنه يقول إن مصدره الرئيسي هو مخطوط إسلامي اكتشفه كيوث الغامض في طليطلة ويعود إلى الساحر والمنجم فليجيتانس (الفلك الثاني) وأصله نصف مسلم ونصف يهودي. ويذكر أن قمة الأسطورة التي سادت في العصور الوسطى، والمتعلقة بكأس المسيح - وهي بمصادرها السلتية المعروفة، أرفع ما توصل إليه الأدب في التعبير عن العقلية المسيحية في العصور الوسطى - كانت ملحمة تتخللها العناصر الإسلامية، وهي مليئة بالاتجاهات الغنوصية (الروحية) والمانوية الوثنية التي نشأت في العالم الشرقي. على ان وولفرام الذي يبدو أنه كان مسيحيا صالحا، كان مع ذلك يبشر بزوال الكراهية نحو الوثنيين (المسلمين) الذين إنما أصبحوا على ما هم عليه لأنهم (بحسب رأيه) لم تتح لهم الفرصة لسماع رسالة المسيح.
ومما ضاعف من سرعة التقدم في هذا الاتجاه، الشعور بالخطر المغولي واكتشاف عالم وثني غير الإسلام من جهة، ومن جهة أخرى، انتشار الانقسامات على المستوى الروحي ضمن العالم المسيحي، تلك الانقسامات التي حدثت في العقيدة العالمية للمسيحية نفسها، وذلك أمر أخطر من الصراعات القديمة بين الهيئات السياسية والايديولوجيات القومية والعرقية. فازدادت قوة الشعور بأن للإسلام المفهوم الأساسي نفسه في الدين وهو التوحيد - وهو شعور كان يظهر من حين إلى آخر بصورة عابرة فقط في السابق. وفي العام 1254م اشترك ويليام رويز برويك وهو مبعوث القديس لويس، في مناظرة أمام الخان العظيم بين النساطرة والمسلمين والبوذيين وانحاز مع النساطرة والمسلمين ضد البوذيين.
هذا الاتجاه نحو فهم أعمق للفكر الإسلامي، وهو الاتجاه الذي نشأ في هذه الظروف لم يقدر له أن يطول أمده. فقد تحدث روجر بيكون وريمون ليل (1235 - 1316م تقريباً) عن إحلال الجهود التبشيرية التي تستند إلى فهم عميق للعقيدة الإسلامية واللغات الإسلامية محل المساعي العسكرية، وأخذ بيكون في الاعتبار إسهام الإسلام الايجابي في مخطط الوحي الإلهي مثلما حدث أخيراً لدى الكاثوليك المتقدمين على طريق المسكونية. صحيح أن محاربة الإسلام ظلت أمراً واجباً، لكن معرفة عميقة به كان من شأنها أن تؤدي إلى المزيد من الموضوعية، بل أن تؤدي في المدى البعيد إلى المزيد من النسبية. ففي مطلع القرن الرابع عشر أخرج دانتي من النار كلا من ابن سينا وابن رشد وصلاح الدين ووضعهم في المطهر، وهؤلاء هم المحدثون الوحيدون الذين انضموا إلى حكماء العالم القديم وأبطاله. وفي العام 1312م صدق مجلس فيينا على أفكار بيكون وليل بخصوص تعلم اللغات وخصوصاً اللغة العربية.
لكن ذلك جاء بعد فوات الأوان. فقد وضع سقوط عكا العام 1291م حدا حاسما لجميع الآمال التي كانت في مخيلة الصليبيين. وبعد ذلك بوقت طويل لم تنجح محاربة الكفار في الشرق في جر الغرب إلى السلاح مرة ثانية، وحلت مكان المخطط الهادف إلى توسيع عالم أوروبا المسيحي المتحد، والمخططات السياسية التي كانت تحيكها كل أمة على حدة. ولم تستمر حروب الاسترداد إلا في إسبانيا، لكنها حتى هناك كانت تدخل ضمن نطاق مثل هذه المخططات.
فأوروبا اللاتينية المنهمكة في صراعاتها الداخلية التي كانت تتقدم على الصعيد الثقافي لم تعد تعتبر الصراع العقائدي مع الإسلام ذا أهمية بالغة، بل أخذت تفقد اهتمامها به. وأصبح النزاع العقائدي الداخلي هو الشيء المهم. كان جون ويكليف (1320 - 1384م تقريباً) يرى أن إصلاح الكنيسة يأتي بالدرجة الأولى، وأن العودة إلى منبع المسيحية الرئيسي كفيل أن يؤدي إلى ذبول الإسلام. فقد تبين أن الرذائل التي يهتم الإسلام بها كانت متوافرة بالدرجة نفسها في العالم المسيحي اللاتيني. كانت الكنيسة مسلمة (في رأيه) ولم يعد اليونان واليهود والمسلمون بأبعد عن الخلاص من كثير من المسيحيين، وانتشر هذا الرأي الأخير مثلما انتشرت نكته الدجالين الثلاثة.
فمن وجهة النظر الفكرية نجد أن كبار المؤلفين المسلمين الذين كان اكتشافهم قوة تجديدية أصبحوا يتمثلون (ويهضمون) بصورة تدريجية، ويدمجون ضمن الثقافة العامة. وخلال عدة قرون نجد أن ابن سينا وابن رشد والغزالي في الفلسفة وابن سينا وهالي (علي بن العباس) والرازي في الطب ومؤلفين آخرين في العالم الآخر، نجد هؤلاء يقلدون وتعاد طباعة أعمالهم ويعلق عليها وتدرس. ولابد أن الطبيب الذي قابله تشوسر (وهو الذي ألف أيضاً بحثاً عن الاسطرلاب بالاستناد إلى الترجمة اللاتينية لكتاب ما شاء الله العربي) في خان تابارد في كانتربري نحو العام 1390م، لابد أن هذا الطبيب كان يمثل عصره. فقد كان لا يعرف الكتاب المقدس جيداً لكن:
كان يعرف جيدا إسكولابيوس القديم ود
العدد 1498 - الخميس 12 أكتوبر 2006م الموافق 19 رمضان 1427هـ