تحت عنوان «مفهوم القبيلة، فكرة رومانسية عن الصحراء أم مؤثر سلبي في التنمية؟» نشرت صحيفة «الحياة» في عددها الصادر في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 مقالاً مهماً للكاتب والوزير السعودي السابق إياد مدني، نورد بعض ما جاء فيه:
تحدث الكاتب بداية عن نظام القبيلة إذ اعتبرها الأصل في المجتمع البدوي، مشيراً لكون العصبية القبلية بمثابة الروح لهذا النظام، وهي تقابل الوطنية الحادة التي تغلب فيها العنجهية.
وأضاف بأن العصبيات التي اختفت في فترة الفتوح الإسلامية الأولى، كشفت عن نفسها ثانية حين استقرت الأمور.
وذكر الكاتب رواية نقلها حتى في كتابه تشير إلى أن منطقة دمشق كانت ذات يوم مسرحاً لحرب قاسية، ظلت زهاء عامين، لأن «معدياً» اختلس بطيخاً من بستان «يماني»، كما سالت الدماء سنوات عدة في مدينة مرسيا في الأندلس، لأن «مضرياً» التقط ورقة عنب من بستان يمني.
وأضاف مدني بأن العرب كانوا يؤمنون بالأنساب إيماناً شديداً، وظلوا على ذلك في الإسلام، فتكتلوا على أساسها في مجموعتين كبيرتين: مجموعة قحطانية يمنية ومجموعة مضرية عدنانية. وكان التنافس شديداً بين الطرفين، وكثيراً ما جرّ إلى منازعات في الكوفة والبصرة وإلى حروب في أقصى الشرق وفي خراسان وفي أقصى الغرب في الأندلس.
وكتب مدني «إذا كان لنا أن ننتقل من العصر الجاهلي البعيد إلى تاريخ قريب، فانظر لمحة من مطاحنات القبائل كما أوردها عبدالله بن خميس في كتابه «المجاز بين اليمامة والحجاز»: «وفي القرن الـ11 امتد نفوذ قبيلة «عنزة» على نجد، وحلت محل «بني لام» في القوة والمنعة وبعد الصيت، وبقي ظلمهم ممتداً على هذه الأصقاع طيلة القرن الـ11، وفي القرن الـ12 نازعتهم قبيلة «مطير» النفوذ، ونشبت بينهم حروب، امتدت إلى نهاية القرن الـ12 وفي النهاية كانت الغلبة لقبيلة «مطير»، ودار الزمان دورته، وانقلبت الأيام، ودالت على «مطير» بمنازع جديد انحدر إليهم من الحجاز ومن تهامة، وهم قبيلة «قحطان» التي طوت نفوذ قبيلة «مطير»، وأزاحتها من قلب نجد، وعظمت زعامتها، وحابتها القبائل، وطلبت ودّها. بعدها ناقش الكاتب ما إذا كان الانتماء القبلي وعصبية القبيلة قد ضعفا واضمحلا بعد اختفاء التناحر الحربي منذ تأسيس المملكة العربية السعودية كوحدة سياسية واحدة، وما إذا كان مفهوم القبيلة يقف حجر عثرة أمام ترسية مفاهيم الوطن والوطنية في أطرها الإسلامي؟
وطرح الكاتب موقف المؤيدين لهذا الرؤية وهم من ينظرون إلى القبيلة على أنها بقية من بقايا مجتمع المشاعية البدائية وهي كما يرى البعض لا تمثّل حالاً فطرية أو أزلية، بل ظاهرة ذات تاريخ، إذ ظهرت في مرحلة من تاريخ البشر، ووفق شروط محددة وظهورها وزوالها مرتبط بالدرجة الأولى بمستوى تطور الإنتاج.
وأضاف بأن النظام القبلي مرتبط بالتخلف والحياة البدائية أينما كانت، وليست له علاقة بالخصائص الطبيعية لأي شعب، فجميع الشعوب كانت عبارة عن قبائل وعشائر قبل آلاف السنين، لكنها تجاوزت هذه المرحلة قبل نحو 2000 سنة أو أكثر أو أقل من ذلك. وإنه إذا كنا اليوم نرى المستشرقين وعلماء الآثار الأوروبيين يقومون بالأبحاث والدراسات عن بلدان الشرق وأحوالها، ويهتمون كثيراً بدراسة عادات القبائل وتقاليدها في هذه البلدان وفي أواسط إفريقيا، فإن واحداً من أهدافهم الأساسية من وراء هذا هو أن يكتشفوا أنفسهم، وكيف كانوا يعيشون في أوروبا قبل آلاف السنين من خلال دراسة حياتنا نحن في الوقت الحاضر.
وكتب مدني «إن متغيرات الحياة الحاضرة تؤدي في نهاية المطاف إلى زوال القبيلة كمؤسسة، لكن هذا لا يعني زوال الأفكار والمفاهيم والتقاليد القبلية، وإذا تركت هذه المسألة للتأثيرات الحضارية وللتطور الطبيعي، فإن هذا سيستغرق وقتاً طويلاً».
بعدها سرد الكاتب بعض مظاهر السلوك القبلي الذي يجب التخطيط من أجل التخلص منه، ومن بينها:
- نظرة الاحتقار إلى العمل اليدوي. فالقبلي يهتم بمظهر العمل الخارجي أكثر مما يهتم بقيمته الحقيقية أو بمدى مردوده عليه أو على المجتمع. لهذا يفضل الأعمال التي تضفي عليه مظهراً خارجياً، يوحي بالقوة أو بأنه آمر أو متنفذ، مثل السياقة أو العمل كشرطي.
- الإحساس المفرط بالكرامة الشخصية، فالقبلي لا يضع فاصلاً بين كرامته الشخصية وكرامة القبيلة. كما إن الإفراط في الإحساس بالكرامة الشخصية يكاد لا يترك لدى الإنسان القبلي مكاناً للإحساس حتى بكرامة الوطن.
- الإفراط في الكرم، فالقبلي كريم جداً، يرى في الشئون العامة شئونه الخاصة كما يرى في الملكيات العامة ملكياته الخاصة.
- الميل إلى الحسم والبتّ في المسائل، فإذا لم يكن البتّ السريع بالطريقة الصحيحة ممكناً، فليكن البتّ السريع ولو بطريقة خاطئة. فالقبائل لم تتعود على أن تناقش كثيراً، ولا أن تحقق كثيراً، ولا أن تضع حلولاً ذات مدى طويل من أي نوع كان.
- القبلي لا يرى حرجاً في أخذ ما للغير، فلقد ترسبت هذه المسألة في أعماقه على أنها عمل من أعمال الجرأة والشجاعة والذكاء.
- القبلي يميل إلى العصب للمجموعة التي يعيش أو ينسجم أو يرتاح معها، والتي تتعصب معه هي الأخرى.
- الإصرار على الرأي وعدم التراجع عن الخطأ، لأن القبيلة عادة تقدس القوة والإصرار والعناد تقديساً مجرداً بصرف النظر عن الموضوع والنتائج.
- القبلي إنسان شديد الحساسية، وهو لا ينسى الإهانات، ولا المحاسبات ولا الانتقادات الشديدة، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، وهذه الحساسية من بقايا عقلية الثأر الذي تتوارثه القبيلة جيلاً بعد جيل.
- القبلي إنسان عاطفي للغاية وسريع التأثر، حتى في المسائل العامة والقضايا الكبرى، فهو يصدق ويكذب بسرعة كبيرة جداً، ويعطي ثقته الكاملة لأتفه الأسباب، ويوافق أو يعارض بسرعة، ويحدد مواقفه من قضايا كبيرة لأسباب بسيطة.
- المساواة المطلقة، فالنظام القبلي يقوم على التخلف في مستوى الإنتاج وعدم وجود فوارق في ملكية الأرض، وبالتالي بقاء الجميع من دون استثناء عند مستوى منخفض وموحد من المعيشة، إلا أن هذه المساواة «الداخلية» المتشددة تقيم تراتبية واضحة بين القبائل، أي أن شعور المساواة الذي يكنّه القبلي لأفراد قبيلته صغيرهم وكبيرهم، لا يمتد إلى أفراد القبائل الأخرى، كما أن ثمة تفاوتاً عميقاً يقسم المجتمع القبلي إلى شطرين متباعدين، هو التفاوت الجنسي، فالحياة العامة تستبعد وجود المرأة ومشاركتها وفعلها. وعلى رغم بروز بعض النساء من زوجات المشايخ والقادة، وعلى رغم أن المرأة عامل مهم في علاقات القرابة والثأر، إلا أن أهميتها هذه لا تجعل منها طرفاً مكافئاً، إنها الرمز أو الأداة أو الجسد المادي في إطار عالم ذكوري.
بعدها طرح الكاتب سؤالاً عما إذا كان صحيحاً أن تأثير القبيلة كمفهوم وكسلوك وكانتماء قد ذبل مع ذبول وجودها كمؤسسة اجتماعية، وكتب «هل يشعر «الحضري» بأن شيئاً ما ينقصه، بل هل يعتقد القبلي أن الحضري ينقصه شيء ما؟ هل القبيلة في عالمنا اليوم فكرة رومانسية عن الصحراء ونجومها وأبطالها وبساطتها، أم هي امتداد يؤثر في قراراتنا الاجتماعية والإدارية، ويلون مناخنا الثقافي والفكري؟».
في الفقرة الأخيرة من المقال تطرق الكاتب للعلاقة بين التنمية والقبيلة، كمؤسسة وظاهرة حياتية، إذ أشار إلى أن خطط التنمية لا تتحدث عن القبيلة، لكنها تقول إن من أهداف التنمية الاجتماعية تشجيع التنمية الاقتصادية من طريق التغلب على المعوقات الاجتماعية التي تعترض التنمية، والتي تبدأ من الأمية إلى سوء الحال الصحية، وتصل إلى الاتجاهات التي تدعو إلى تقييد حركة التجديد. فهل القبيلة من هذه الاتجاهات التي تقيد التجديد وتعوق التنمية؟ وإن كانت كذلك أفلا يستحق الانتماء القبلي والمفاهيم القبلية والامتداد القبلي مجهوداً واضحاً صريحاً ومنظماً لمقاومته وتفتيته وإضعافه، حتى يصبح الانتماء إلى الوطن والمساواة ومساواة التقوى لا النسب، والقضية هي التنمية لا القبيلة.
العدد 3745 - الجمعة 07 ديسمبر 2012م الموافق 23 محرم 1434هـ