العدد 3752 - الجمعة 14 ديسمبر 2012م الموافق 30 محرم 1434هـ

اللهجة البحرانية وظواهر ما قبل «الشتات»

تناولنا في الفصل السابق ظاهرة خاصة باللهجة البحرانية وهي ظاهرة إضافة النون بين اسم الفاعل والضمير المتصل (كقولنا ضاربني وضاربنك... إلخ). وتنتشر هذه الظاهرة في لهجات حضرية أخرى في شرق وجنوب الجزيرة العربية (كالقطيفية والعمانية واليمانية)، وهي بذلك تشترك في توزيعها الجغرافي مع ظواهر لهجية أخرى خاصة باللهجة البحرانية. من خلال هذا التوزيع الجغرافي والعرقي لهذه الظواهر ومن خلال الدراسات التاريخية التي أجريت على هذه المناطق يبدو أن هناك روابط قديمة تربط شعوب هذه المنطقة وأن هذه الظواهر تكونت في جماعات عرقية معينة، ومع «تشتت» هذه الجماعات انتشرت هذه الظواهر. يذكر أن هناك جماعات فرعية أخرى انتشرت خارج الجزيرة العربية لكنها بقت محافظة على جزء من خصائص لهجتها، وبذلك تسمى هذه الظواهر «ظواهر ما قبل الشتات» أو ما قبل «الدياسبورا» prediasporic. في هذا الفصل سنناقش أولاً الاختلاف في أصل وجود النون بين اسم الفاعل والضمير المتصل، وبعدها سنتناول باختصار نظريات منشأ وتطور هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر اللهجية الحضرية.

بين التنوين ونون الوقاية

من المعروف في اللغة أن اسم الفاعل العامل عمل الفعل ينون إذا كان مجرداً غير مسند، وقد ذكر ذلك سيبويه في كتابه «الكتاب»: «هذا باب من اسم الفاعل الذي جرى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت في يفعل كان نكرة منوناً، وذلك قولك: هذا ضاربٌ زيداً غداً، فمعناه وعمله مثل: هذا يضرب زيداً غداً، فإذا حدثت عن فعل في حين وقوعه غير منقطع كان كذلك» (مكتبة الخانجي 1988، ج 1ص 164).

وقد اختلف النحاة في كون هذا التنوين إجبارياً أم لا؛ فقد يحذف هذا التنوين أحياناً، قال سيبويه: «واعلم أنّ العرب يستخفون فيحذفون التنوين والنون، ولا يتغير من المعنى شيء وينجر المفعول لكفّ التنوين من الاسم، فصار عمله فيه الجر، ودخل في الاسم معاقباً للتنوين، فجرى مجرى غُلامِ عبدالله في اللفظ، لأنه اسم وإن كان ليس مثله في المعنى والعمل. وليس يغير كفّ التنوين، إذا حذفته مستخفاً، شيئاً من المعنى، ولا يجعله معرفة» (مكتبة الخانجي 1988، ج 1ص 165 - 166).

ويرى هشام بن معاوية أبوعبدالله الضرير الكوفي، وهو من نحويي القرن التاسع الميلادي، أن تنوين اسم الفاعل إجباري حتى إذا كان الفاعل ضميراً مستتراً، وإنما يكتب التنوين نون وبذلك يخالف من قال إن هذه النون هي نون الوقاية (انظر الفصل السابق)، جاء في كتاب «ارتشاف الضرب من لسان العرب» لأبي حيان الأندلسي: «وأما لحاق النون اسم الفاعل نحو: أمُسلمُني؛ فقيل: هي نون الوقاية، وإليه ذهب ابن مالك وقال فيه: إنه قد تلحقه، وذهب غيره إلى أنه تنوين وهو مذهب هشام، وأجاز: هذا ضاربُنك، وضاربُني بالتنوين، والكاف والياء في موضع نصب» (مكتبة الخانجي 1998، ص 925).

وهناك عددٌ من المستشرقين الذين تبنوا فكرة التنوين، منهم Reinhardt في كتابه عن اللهجات في عمان وزنجبار حيث ذكر ثلاثة احتمالات لوجود هذه النون منها أنها «تنوين»، إلا أنه لم يرجح هذا الاحتمال (Reinhardt 1894. p141)، وانظر الترجمة في Brockett 1985، p. 18. أما Brockett في كتابه عن اللهجة المتحدث بها في الخابورة في عمان فقد رجح أن هذه النون ما هي إلا التنوين وإن بقاء هذا التنوين على رغم ندرة التنوين في اللهجات العامية، له وظيفة في تحديد ظاهر الكلمة (morphological) وليست له أية وظيفة دلالية تطورية semantic) Brockett 1985, p. 19). ويتفق سيدشبر القصاب مع هذا الرأي الأخير حيث يرى أن هذه النون ما هي إلا تنوين لاسم الفاعل «والغرض من تنوينه فيما يبدو عندهم هو للتفريق بين العامل منه أي: الذي يعمل عمل الفعل ويشبهه من غير العامل، أي: الذي يفيد التملك ونحوه» (القصاب 2002، الواحة العدد 26). وقد أوضحنا هذا في الفصل السابق.

النون وتأثير اللغات السامية الأخرى

لا تخلو اللهجات الحضرية في شرقي الجزيرة العربية من تأثيرات اللغات السامية الأخرى وقد سبق أن ذكرنا العديد من الألفاظ ذات الأصل السامي غير العربي، وتتعدى تلك الآثار إلى ضمائر المخاطبة فقد سبق أن ذكرنا رأي عبدالعزيز مطر في كتابه «ظواهر نادرة في لهجات الخليج العربي» الذي أشار لوجود الضميرين إنتين وإنتون في اللهجة البحرانية وفي لهجات يمنية ورجح أن وجود هذه الضمائر ناتج عن تأثيرات آرامية حدثت قبل الإسلام (مطر 1976، ص 75 - 76). كذلك ظاهرة إضافة النون بين اسم الفاعل والضمير المتصل قد عللها البعض بأنها ناتجة عن تأثير لغات سامية أخرى، ومن أولئك Landberg في كتابه Etudes sur les Dialectes de l»Arabie merideonal وذلك في الجزء الثاني من المجلد الثاني المخصص للهجة دثينة في حضرموت (Landberg 1909, v. 2، part 2, p. 738)، وقد قام Retso في العام 1988م بدراسة مفصلة حول وجود النون اللاحقة في اللهجات العربية والسامية الأخرى (Holes 2012).

ظواهر ما قبل «الشتات»

من خلال ما قدمناه في الفصول السابقة عن خصائص اللهجات في البحرين يتضح لنا أن هناك عدداً من الظواهر اللهجية الخاصة باللهجة البحرانية تعتبر ظواهر حصرية توجد في اللهجات الحضرية أو لهجات شرق وجنوب الجزيرة العربية القديمة أي أن هذه الظواهر توجد في لهجة البحارنة واللهجات الحضرية الخاصة بشرق الجزيرة العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان وكذلك اليمن وخصوصاً حضرموت، ومن أمثلة هذه الظواهر:

1 – إضافة النون بين اسم الفاعل والضمير المتصل.

2 – الضمائر المنفصلة إنتين وإنتون.

3 – الكشكشة، قلب حرف كاف المخاطبة إلى حرف شين.

4 – فتح باء التنفيس، مثل بَيروح (أي سوف يذهب)، وهي لهجة بحرانية فرعية تختص بها جزيرة سترة وقرى الساحل الشرقي.

وقد أكد مهدي التاجر في كتابه Language and Linguistic origins in Bahrain على وجود التقارب بين اللهجة البحرانية وتلك اللهجات معللاً أن سمات هذه اللهجات هي التي تمثل سمات لهجات شرقي الجزيرة العربية الموغلة في القدم بينما تمثل اللهجات ذات الامتداد القبلي، والتي تسمى مجموعةً باللهجة العنزية أو لهجة الخليج العربي، الامتداد الشرقي للهجات شمال ووسط الجزيرة العربية (Al-Tajir 1982, Arabic Summary, p.18 - 19)، ويقول التاجر أيضاً: «والشواهد التاريخية لا تتعارض مع النتائج اللغوية التي توصلنا إليها في هذا البحث. بل إن الدلائل اللغوية تؤكد الصلات اللغوية بين لهجات شرق الجزيرة وجنوبها؛ فأزد عمان نزحوا من اليمن بعد انهيار سد مأرب وبالمثل فإن قبائل عبد القيس... نزحت من سهول تهامة باليمن قبل أن تتخذ البحرين مقراً لها. وربما فسر هذا التقارب التاريخي وجود خصائص صرفية موغلة في القدم في كل من البحرانية والعمانية واليمانية، هذه الخصائص تميز اللهجات التي يتكلمها الحضر من سكان شرقي وجنوبي الجزيرة الذين استوطنوا المنطقة قبل مجيء الإسلام» (Al-Tajir 1982, Arabic Summary, p. 19).

كذلك Clive Holes في بحثه A participial infix construction of eastern Arabia يؤكد أن العرق العربي الحضري في شرقي الجزيرة العربية هو، في الغالب، امتداد لقبيلتي الأزد وعبد القيس، وأن الظواهر اللهجية الحضرية المشتركة بين اللهجة البحرانية واللهجات الحضرية في شرق الجزيرة العربية والإمارات وعمان واليمن ناتج عن انتشار فروع هذه القبائل في هذه المنطقة (Holes 2012).

تلك القبائل لم تستقر فقط في شرقي الجزيرة العربية بل حدث لمجموعات منها «شتات» كونت «دياسبورا» أو مجتمعات منعزلة تتحدث اللغة العربية خارج شبه الجزيرة العربية، إلا أن هذه المجموعات المتشتتة حافظت على خصائص لهجية معينة تدلل على أصولهم الحضرية القديمة. ويوضح Holes في بحثه السابق كيف أن ظاهرة «إضافة النون بين اسم الفاعل والضمير المتصل» موجودة في اللهجة السودانية الغربية، بالإضافة لوجودها ضمن مجتمعات عربية منعزلة في خراسان وأوزباكستان ونيجيريا؛ وقد علل Holes، اعتماداً على مصادر تاريخية ولغوية، وجود هذه الظاهرة بسبب هجرات لجماعات تنتمي للعرق الحضري لشرق الجزيرة العربية وبالتحديد ذلك المنحدر من قبيلة لأزد (Holes 2012).

أياً كان أصل تلك الظواهر، سواء كانت عربية قديمة أو من تأثيرات اللهجات السامية الأخرى، فهي بلا شك تبدو وكأنها ظواهر خاصة بشرقي وجنوب الجزيرة العربية وأنها تكونت منذ عهود قديمة وربما انتشرت مع هجرة القبائل التي تحضرت في هذه المنطقة كقبيلة الأزد وعبد القيس.

العدد 3752 - الجمعة 14 ديسمبر 2012م الموافق 30 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً