لولا الغرق الأميركي في مستنقع العراق، والتورط مع إيران وكوريا الشمالية، لما سكت المحافظون الجدد في إدارة بوش عما يجري في الصومال وخصوصا أن لهم ثأراً سابقاً مع أهلها والقوى المناوئة لمصالحهم هناك. ولولا أن هناك مصالح أميركية تتعلق بالسعي للترتيب لإنشاء قرن إفريقي أميركي كبير (لا يختلف عليها الجمهوريون والديمقراطيون)، لرفعت واشنطن يدها عن الصومال، ولكن لأنها مجبرة على التدخل لتحقيق أهداف استراتيجية واقتصادية، فقد كان من الطبيعي أن تنفذ “الخطة البديلة” وهي تحريك حلفائها الإثيوبيين لضرب نظام المحاكم الإسلامية هناك.
والأمر هنا لم يقتصر فقط على تنشيط التعاون الأميركي - الإثيوبي وتوفير اعتمادات لحكومة أديس أبابا كي تتولى - بالإنابة - محاربة سيطرة قوات الإسلاميين (المحاكم الإسلامية) المتزايدة على الصومال، ولكنه شمل قيام مسئول أميركي أمني كبير بجولة إفريقية قبل أيام زار خلالها أديس أبابا وأسمرا والخرطوم والقاهرة لدراسة مستجدات الملف السياسي والأمني في الصومال.
أما التطور الأبرز - الذي يكشف حجم القلق الأميركي من إفشال المحاكم الإسلامية والبشير معاً للمخطط الأميركي في القرن الإفريقي - فكان فتح وزارة الدفاع الأميركية - حسبما أعلن رسميا هذا الأسبوع - أول مكتب لـ “المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية” التابع للوزارة في إفريقيا.
فالإعلان عن افتتاح هذا المكتب في هذا الوقت بالذات، وفي أديس أبابا على وجه الدقة والتحديد، جاء من أجل متابعة مستجدات الوضع السياسي في القرن الإفريقي عموماً، وفي الصومال على وجه التحديد، الذي يشهد زحفا متواصلا لسيطرة اتحاد المحاكم الإسلامية على مختلف نواحي الحياة في الصومال، وهي سيطرة مشفوعة بتأييد شعبي كبير متعطش للسلم الأهلي بعد خمسة عشر عاما من الحروب والدمار.
والمشكلة هنا أن واشنطن تسعى لتوظيف مصطلحات حرب الإرهاب في حملتها لضرب نفوذ قوات المحاكم في الصومال وتزعم وجود توجهات قاعدية لقادة المحاكم تهدد أمن واستقرار القارة الإفريقية كمبرر للتدخل العسكري الإثيوبي المرتقب بدعم لوجستي أميركي، ولهذا يتحدث قادة المحاكم الإسلامية - الذين أعلنوا أنهم في حرب مفتوحة مع إثيوبيا - عن “تحالف استراتيجي” بين أديس أبابا وواشنطن لمحاربة المحاكم الإسلامية في الصومال.
فيما يرى مراقبون أن كلام رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي لدى استقباله رئيس المكتب السابق الجنرال متقاعد كارلتون فولفورد بمناسبة افتتاح المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية، وإعرابه عن “استعداد حكومته التام للتعاون مع المركز”، واعتباره قرار الإدارة الأميركية افتتاح مكتب للمركز في إثيوبيا “قرارا مشجعا” - بمثابة ترجمة واقعية لحقيقة التحالف الأميركي - الإثيوبي ضد الصومال خصوصا، ومقدمة لهيمنة أميركية على القرن الإفريقي عموما.
ويبدو أن واشنطن نجحت في اختيار “البديل العسكري” (إثيوبيا) للتدخل في الصومال، إذ تتوافق الرغبات الإثيوبية مع الأميركية في ضرب المحاكم ووقف سيطرتها على الصومال (على رغم أن التقارير الدولية تؤكد أن الاستقرار والاستثمارات الأجنبية بدأت تعود للصومال على يد المحاكم). فرئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي يشعر بقلق كبير حيال التوسع المستمر لنفوذ اتحاد المحاكم الإسلامية، وخصوصا أن قسما كبيرا من الإثيوبيين المتواجدين في إقليم أوغادين وغالبيهم من المسلمين قد عبروا عن بداية تململ وعدم رغبة في فتح حرب غير مبررة على بلد تربطهم به علاقات قبلية ودينية علاوة على الجوار الجغرافي، كما أنه يرغب في تصدير أزماته الداخلية - التي نتجت عن حربه مع إريتريا - بقضية خارجية جديدة يشغل بها الرأي العام الإثيوبي.
وما يؤكد الريبة في هذا المركز وسعيه لمواجهة “الخطر الإسلامي” في السودان والصومال - بحسب رئيس المكتب السابق الجنرال متقاعد كارلتون فولفورد - أنه يركز على قضايا متعلقة بالأزمات في كل من السودان والصومال، كما أنه واحد من بين خمسة مراكز إقليمية للدراسات الأمنية تعمل لصالح وزارة الدفاع والوكالات الأميركية الأمنية المختلفة المعنية بما يسمى بمكافحة “الإرهاب الايديولوجي” وتعزيز التعاون الإقليمي فيما يتعلق بالمسائل الأمنية، والتي لها دور فيما يسمى “الفوضى الخلاقة” التي تستهدف فتح الطريق أمام ترسيخ أقدام النفوذ الأميركي.
المحاكم تعرقل السيطرة الأميركية
ومن الواضح أن المخاوف الأميركية الحقيقية ترجع إلى القلق من أن يهدد هؤلاء الإسلاميون الجدد في الصومال الخطط الأميركية للتمدد في إفريقيا، وأن يتحول هذا البلد الواقع في القرن الإفريقي وتسوده الفوضى إلى ملجأ “للإرهابيين” أو مجموعات “القاعدة” التي تعادي النفوذ الأميركي المتصاعد هناك.
فليس سرّاً أن هناك خططاً أميركية للتركيز على إفريقيا، وأن هذه الخطط ترتكز على منطقة نفوذ استراتيجية واقتصادية ولوجستية في وقت واحد بحيث يمكن أن تتحول منطقة القرن الإفريقي إلى منطقة نفوذ وقاعدة انطلاق للقوات الأميركية هناك على غرار منطقة الخليج، وخصوصا أنها منطقة تتحكم في المضايق ومداخل المحيطات والبحار فضلا عن غناها بالثروات الطبيعية غير المستغلة وهو ما يؤكده تكالب المستثمرين على الصومال في أعقاب سيطرة الإسلاميين على غالبية البلاد وفتح موانئ ومطارات العاصمة، في ظل هدوء نادر وتوقف لإطلاق النار في البلاد بعد طرد أمراء الحرب وقواتهم.
وجاء التدخل الأميركي في رواندا ثم السودان والسعي لنقل قوات أميركية إلى دارفور، وأخيرا السعي لمنع سيطرة قوات المحاكم في الصومال، ضمن هذا المخطط العام لتوسيع منطقة النفوذ الأميركية هناك وتحويلها إلى منطقة تحرك استراتيجية، وخصوصاً بعدما ظهر النفط في جنوب وغرب السودان، وظهر اليورانيوم و “البوكسيت” (خام الألمنيوم) الذي يستخدم لصنع الطائرات والمعدات الحربية.
وتزامن هذا مع تصاعد أصوات أميركية تحذر من أن “البشير” و”المحاكم الإسلامية” ربما يعرقلان الخطط الأميركية في إفريقيا، وخصوصا أن فكرة “القرن الإفريقي الكبير” الموالي لأميركا، مصطلح أميركي تحدث عنه مسئولو الإدارة الإفريقية بالخارجية الأميركية منذ البداية في العام 1995 ضمن ما عرف حينئذ بـ “مشروع القرن الإفريقي الكبير”، الذي يرتكز على السودان والصومال وإثيوبيا.
تاريخ التدخل الأميركي
والحقيقة أنه منذ تنامي قوة المحاكم الإسلامية، والولايات المتحدة تسعى لوقف نفوذها، وقد بدأ هذا بزيادة دعمها قوات أمراء الحرب القدامى الذين كانت تحاربهم من قبل، وأغدقت عليهم السلاح والأموال، بيد أن هزيمة أمراء الحرب دفعت واشنطن الى التحالف مع قوى إقليمية (إثيوبيا) متضررة بدورها من تصاعد قوات المحاكم ومن احتمال تحول الصومال لدولة إسلامية، وخصوصا أن هناك أقليات من “الأورومو” المسلمين في إثيوبيا، وهناك مخاوف من دعم الحكم الجديد في الصومال لهم.
وقد أكد الاتحاد الإفريقي هذا التدخل الأميركي حينما انتقد رئيس جمهورية الكونغو الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي دينيس ساسو نجوسو، دعم الولايات المتحدة لزعماء الحرب في الصومال، معربا عن أمله في أن تساعد واشنطن الشعب الصومالي على إقامة حكومة حقيقية في مقديشو، وطالب ساسو - في مؤتمر صحافي عقب لقائه مع الرئيس الأميركي جورج بوش ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قبل عدة أشهر - إدارة بوش بعدم تقديم معونة لزعماء الحرب بالصومال وذلك لإنهاء الصراع هناك.
وبرر مسئولون أميركيون حينئذ مد زعماء الحرب الصوماليين بالدعم المالي والاستخباري، بأنه يستهدف التصدي لما أسموه “المد الطالباني” في الصومال على اعتبار أن هناك وجه تشابه بين قوات المحاكم الإسلامية في الصومال، وقوات حركة طالبان في أفغانستان التي تشكلت من طلاب المدارس الإسلامية، فضلا عن أن الطرفين (المحاكم وطالبان) تحركا للسيطرة على الحكم بعدما تحول بلداهما إلى مناطق حروب أهلية ونزاعات قبلية.
وزاد من مخاوف الأميركيين تأكيد رئيس المحاكم الشرعية في مقديشو الشيخ شريف أحمد أن “الكفاح الإسلامي في الصومال” سيستمر إلى أن تقوم الدولة الإسلامية، وتأكيد ميليشيا المحاكم الشرعية أن الهدف هو أن “تخضع البلاد كلها لحكم الشريعة”، وهو نفس ما قاله أنصار حركة طالبان في أفغانستان وهم يستولون على مدينة تلو الأخرى حتى سيطروا على أفغانستان.
وساعد على حسم مسألة الاستعانة بالحليف الإثيوبي أن هناك مشكلة أميركية تتلخص في المخاوف من مرارة الهزيمة كما حدث في التجربة الأميركية السابقة بالصومال ما بين عامي 1992 و1994، حين منيت القوات الأميركية بخسائر كبيرة في الأرواح وخرجت مهزومة بطريقة مهينة، فضلا عن أن هناك تقارير عن أن أعداء أميركا وخصوصا من الجهاديين وأنصار “القاعدة” باتوا أكثر شغفا للتدخل الأميركي في أي منطقة (ومنها دارفور) لكي يثخنوا القتل في الجنود الأميركيين على غرار التجربة العراقية، وخصوصاً بعدما حذر وزير الدفاع السوداني من أن دخول قوات دولية إلى دارفور سيحول الإقليم لبؤرة صراع، وسيجذب أنصار تنظيم القاعدة.
مستقبل القرن... إسلامي أم أميركي؟
ويبدو أن اعتراف رئيس وزراء إثيوبيا بإرسال قوات إلى الصومال مع تخفيف الأمر بالقول إن بلاده “أرسلت مدربين عسكريين لمساعدة الحكومة الانتقالية الصومالية في بيدوا”، وإعلان “المحاكم الإسلامية” بدء حملة لتجنيد مئات الصوماليين الراغبين في القتال تحت لوائها لمحاربة القوات الإثيوبية، ووقف المفاوضات مع حكومة الصومال قبل سحب هذه القوات، كلها عوامل تصب في خانة توقع دخول منطقة الحدود الصومالية الإثيوبية دائرة الحرب في القريب العاجل.
فالإثيوبيون - ومن خلفهم الأميركيون - يستغلون وجود حكومة ورئيس دولة للصومال في بلدة بيدوا الحدودية، للادعاء أنهم يساندون الحكومة الشرعية، وتبرير دخول قوات أجنبية للصومال لهذا الغرض. وإعلان قوات المحاكم لـ “الجهاد” ضد هذه القوات، ووقوع مصادمات فعلاً بين قوات إثيوبية وأخرى تابعة للمحاكم يهدد - كما حذر المجلس الإسلامي الأعلى في الصومال - باندلاع حرب إقليمية في القرن الإفريقي، والقضاء على جهود السلام الدائرة في السودان بين مجلس قوات المحاكم وبين الحكومة الصومالية الضعيفة التي تستقوي بالإثيوبيين.
وفي حال نجحت قوات المحاكم في حصار حكومة “بيدوا” وحصار التغلغل الإثيوبي وتأجيل المواجهة لحين استكمال قواتها وإكمال السيطرة على غالبية الأقاليم الصومالية، فسيعد هذا نصراً لها، وإفشالاً للخطط الأميركية من أجل جرها إلى حرب تستهدف ضرب بنيتها التحتية قبل أن تستفحل وتنال مباركة غالبية الشعب الصومالي.
وربما يعزز هذا النصر للمحور الإسلامي في القرن الإفريقي خلق أشكال من التعاون بين الخرطوم وقوات المحاكم، وسعي الخرطوم لتنشيط دورها الإقليمي في الوساطة بين المحاكم وحكومة بيدوا بحيث يصبح لها دور في حسم الصراع في الصومال لاسيما أنها ترفض السماح بنشر قوات أجنبية في دارفور وتعرقل التدخل الغربي وخطط القرن الأميركي.
أما لو اندفعت قوات المحاكم إلى معارك غير متكافئة مع المحور الإثيوبي - الأميركي وقبل أن تستكمل قوتها، فربما تتحقق الأهداف الأميركية في الفوضى الخلاقة بهذه المنطقة، وربما يساعد ذلك على “أمركة” القرن الإفريقي حينئذ، ووقوع انهيار مماثل على الجبهة السودانية في ظل حالة الصراع الداخلي في السودان بين القوى المختلفة على هذا التدخل
العدد 1528 - السبت 11 نوفمبر 2006م الموافق 19 شوال 1427هـ