أعادت حوادث التمرد الأخير الذي قام به متمردون تشاديون مناهضون لنظام الرئيس «إدريس ديبي» باحتلال مدينة أبتشي الاستراتيجية (شرقي تشاد) في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2006، ثم الانسحاب منها بعد وقت وجيز، إلى الأذهان الحديث عن الأزمة الداخلية التشادية وارتباطها الشديد بما يحدث في دارفور، وما يصحب ذلك من توتر في العلاقات السودانية التشادية.
وعلى رغم البروتوكول الموقع في أغسطس/ آب 2006 في طرابلس بهدف التزام كلتا الدولتين بعدم التدخل في شئون الدولة الأخرى، والامتناع عن دعم القوى المتمردة على أي من الجانبين. فضلاً عن اتفاق سابق كان قد تم توقيعه في فبراير/ شباط من العام نفسه بين الخرطوم ونجامينا تحت رعاية ليبية أيضا.
الاتهامات التشادية
وتتركز الاتهامات التشادية للسودان في القول إن حكومة الخرطوم تسعى إلى تغيير الحكم في نجامينا عبر دعمها المتمردين التشاديين بالسلاح والتمويل، وعبر خلق الفتنة بين القبائل والتدخل في الشئون الداخلية، في الوقت الذي يكرر فيه السودان بشكل دائم أن عمليات القتال والكر والفر الدائرة في تشاد هي شأن داخلي يدور بأيدي التشاديين على الأراضي التشادية، وأنه لا يوجد فرد سوداني واحد مشارك في هذه الحوادث.
وعلى رغم أن هذا القول قد يكون صحيحاً من الناحية الشكلية، فإن المتابع لحوادث هذه المنطقة يدرك من مجرد الاطلاع على بعض تفاصيل العمليات العسكرية التي تقع، أن هناك يداً سودانية تؤثر فيها إلى حد كبير؛ ففي حوادث إبريل/ نيسان الماضي 2006 استطاعت قوات التمرد أن تطرق أبواب العاصمة نجامينا، وكادت أن تنجح في إسقاط نظام الرئيس ديبي، لولا تلقيه دعماً عسكرياً من القوات الفرنسية المتمركزة في تشاد. وهذه القوات انطلقت آنذاك من شرق تشاد ومن مناطق بعيدة عبر الالتفاف والمناورة من داخل أراضي إفريقيا الوسطى، في خطوط تحرك بلغ مداها في بعض الأحيان أكثر من سبعمئة كيلومتر، فمن أين لهذه الفصائل الحصول على التمويل الكافي ووسائل النقل والوقود، إذا لم يكن لديها دعم من جهات من خارج تشاد.
وعلى رغم أن الحكومة التشادية لم تقدم أدلة ملموسة على التدخل السوداني، فإنه يمكن قراءة هذه المسألة من خلال تاريخ العلاقة بين البلدين وعوامل الجوار الجغرافي والتداخل القبلي والارتباط الجيواستراتيجي، وسابقة انطلاق التغيير لمرتين متتاليتين في قمة السلطة في تشاد من داخل إقليم دارفور وبمساعدة سودانية.
التورط في أزمة دارفور
على الناحية الأخرى نجد أن نظام إدريس ديبي متهم من جانب السودان بدعم متمردي دارفور وإمدادهم بالأسلحة والعتاد، وأحياناً بالمقاتلين، بسبب الانتماء القبلي المشترك؛ فإدريس ديبي ينتمي إلى الفرع التشادي من قبيلة الزغاوة التي شكلت عماد التمرد المسلح في دارفور؛ الأمر الذي وجد معه إدريس ديبي نفسه في مأزق كبير؛ فهو لا يستطيع أن ينحاز إلى أبناء عمومته المنخرطين في القتال في دارفور كي لا يعادي الحكومة السودانية، وهو يعرف أنها تستطيع أن تسبب له الكثير من المتاعب والاضطرابات الداخلية، إن لم تسع إلى إسقاط نظامه بالكامل.
وفي الوقت نفسه فإن نظامه الذي يعتمد في دوائره الداخلية وأجهزته الأمنية على رابطة القبيلة وتماسكها الداخلي، أصبح مواجهاً بالكثير من المتاعب نتيجة ازدياد الضغوط على ديبي من داخل نظامه، بضرورة تقديم الدعم والمساندة لبني العمومة على الجانب الآخر من الحدود، وخصوصاً أن ديبي حينما زحف إلى نجامينا في العام 1993 استعان بكثير من مساعدات قبلية في دارفور.
وحاول الرئيس ديبي الخروج من هذا المأزق بلعب دور الوساطة في بدايات الأزمة، إلا أن التوترات السريعة والمتلاحقة للصراع في دارفور أدت إلى فشل هذه الاستراتيجية؛ الأمر الذي اضطره للتخلي عنها في نهاية الأمر، ولاسيما بعد ازدياد الضغوط من داخل النظام وحدوث محاولة انقلاب جرت السيطرة عليها، مع قيام بعض الضباط والقادة بتقديم دعم واسع بالأسلحة وتوفير الملاذ للحركات المسلحة في دارفور. كل ذلك في نهاية المطاف، جعل تشاد متورطة في نزاع دارفور بأشكال كثيرة سياسية وميدانية، ولم يكن ذلك نتيجة لقرار سياسي مسبق، بل نتيجة للترابط والتداخل القائم بين مجريات الحوادث في دارفور وتداعياتها المباشرة في تشاد شاءت هذه الأخيرة أم أبت.
مخاطر التدويل
ونتيجة لعدم قدرة نظام إدريس ديبي على إيقاف تحركات الفصائل المتمردة ضد نظامه؛ فقد حاول أخيراً أن يوظف أزمة القرار 1706 والمساعي الدولية لنشر قوات أممية في دارفور، في محاولة خلق حاجز يحول بين المتمردين وتلقي أي دعم من داخل الأراضي السودانية، إذ أعلن ناطق رسمي تشادي إلى أن بلاده لا تمانع في نشر قوات دولية على الحدود مع السودان وأنها ستطرح القضية أمام الاتحاد الإفريقي، وأن تشاد لا تمانع في نشر قوات دولية على الحدود المشتركة مع السودان. وأضاف: «موقفنا واضح في نشر قوات للأمم المتحدة في دارفور لحفظ الأمن في الإقليم، ومستعدون لتأييد نشر القوات الدولية على الحدود؛ لأن المشكلة مرتبطة بالسودان الذي يريد تغيير النظام الحالي في تشاد».
وعبَّر هذا الموقف في أحد جوانبه عن نوع من اليأس من إصلاح العلاقات مع الخرطوم، خصوصاً في ظل تكرار الأزمات ومحاولة التوصل إلى اتفاقات لا يجري الالتزام بها، بسبب أن العوامل المنتجة للأزمة الرئيسية بين البلدين مازالت قائمة، ومن ثم فإن المظاهر والتداعيات الناتجة عنها تعيد إنتاج نفسها من جديد.
الأزمة الداخلية في تشاد
يقودنا الإطار السابق إلى الكثير من الأسئلة، فهل أزمة تشاد الداخلية ناجمة فقط عن أزمة دارفور ومترتبة عليها؟ وهل يعني حل أو تسوية أزمة دارفور أن تؤدي تلقائياً إلى استتباب الأوضاع في تشاد؟.
قد يكون من الصحيح القول إن هناك ارتباطاً يكاد يكون عضوياً بين التهديدات المباشرة التي يواجهها نظام ديبي الآن وبين استمرار التدهور في دارفور، لكن الأوضاع التشادية لها أيضا آلياتها وأسبابها الداخلية المحضة التي جعلت الوضع الداخلي مهيأ بل ناضجاً لتلقي الدعم من الخارج لكي ينطلق ويهز النظام هزاً عنيفاً.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أن الأزمة الحالية في تشاد تدور حول ثلاثة محاور رئيسية، تتمثل في الفساد والأزمة المالية الحادة الناجمة عن الاختلاس المنتظم وبحجم كبير لعائدات الدولة؛ الأمر الذي أحدث أزمة اجتماعية غير مسبوقة ساعدت على انتشار التذمر، في حين أن عائدات النفط المكتشف حديثاً كان من شأنها أن تخلق نوعاً من التحسن في مستويات المعيشة، وبالتالي إحداث حال من الرضا الاجتماعي. وتكفى الإشارة إلى أن مستوى الفساد قد وصل إلى الحد الذي جعل تشاد تتصدر قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم طبقاً لما ورد في تقرير منظمة الشفافية عن العام 2005، وإلى الدرجة التي جعلت البنك الدولي يحظر صرف بعض مستحقات عائدات النفط إلى الحكومة التشادية، بسبب إخلالها باتفاق أوجه الصرف وتحويل العائدات لأجهزة الأمن والإسراف في الفساد والبذخ.
ويتمثل المحور الثاني في غياب المجال السياسي الذي يسمح بالحوار عوضاً عن الصدام. فطوال السنوات التي قضاها إدريس ديبي في السلطة لم ينجح في إجراء مصالحة شاملة في تشاد. وعلى رغم وجود تعددية حزبية فإن المؤسسات الديمقراطية مفرغة من المضمون في ظل انتشار الفساد وهيمنة القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس على مقاليد الحكم في البلاد، حتى أصبحت هناك شكوك في قدرة ديبي على قيادة البلاد نحو عملية سياسية متوازنة، بسبب عدم قدرته على السيطرة الكاملة على قيادات نظامه بسبب مرضه من ناحية وبسبب تطرف بعض هؤلاء في الانغماس المباشر والواسع النطاق في الصراع في دارفور التي تمثل المحور الثالث الذي تجمعت عليه عوامل عدم الاستقرار في تشاد.
وهكذا فإن هناك اعتقاداً واسعاً أن الاستقرار في تشاد مرتبط إلى حد كبير في الآونة الحالية بتحقيق السلام في دارفور عبر تسوية شاملة بين الحكومة السودانية ومناوئيها في الإقليم، في الوقت الذي أصبح واضحاً فيه أن الاستقرار في دارفور مرتبط أيضا بإجراء تسوية مع تشاد واستقرار أحوالها الداخلية؛ إذ إنها تمثل الممر الرئيسي لحصول جبهة الخلاص الوطني المعارضة لاتفاق أبوجا على الدعم التسليحي واللوجستي
العدد 1550 - الأحد 03 ديسمبر 2006م الموافق 12 ذي القعدة 1427هـ