بعد ظهور نتائج انتخابات البرلمان والمجالس البلدية الأخيرة في البحرين، وفوز الكتل الإسلامية بالغالبية الساحقة، تنامت في الشارع السياسي البحريني من جديد، المناقشات بشأن دور “الإسلام السياسي” المستقبلي في الحياة السياسية المحلية في الأعوام الأربعة المقبلة، وما هي آفاق ومسارات التحول الديمقراطي في ظل موازين القوى المتصارعة. لقد باتت مثل تلك الحوارات، بمعنى اتجاه مسار الحياة السياسية بوجود عنصر الإسلام السياسي، مثار اهتمام الكثير من مؤسسات القوى السياسية، بما فيها تلك المهتمة بدراسة العلاقات الاستراتيجية العالمية من دون المحلية. ويبدو أن السبب وراء هذا الاهتمام هو الشعور المتزايد بتنامي ظاهرة انفراد الإسلاميين بساحة المعارضة، كما يبدو ذلك واضحاً في الحال الفلسطينية بفوز حركة حماس بالانتخابات البرلمانية وقيامها بتشكيل الحكومة، وفي العراق بتعزيز مكانة الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية على حد سواء، وفي مصر بوصول جماعة الإخوان المسلمين إلى 88 مقعداً في مجلس الشعب المصري، وأخيراً نتائج الانتخابات النيابية والبلدية في البحرين.
ولو حاولنا تتبع تاريخ تداول هذا المصطلح في الفقه السياسي، فسنجد أن عطية الويشي يعتقد في كتابه “حوار الحضارات” أن أول من استخدم هذا المصطلح هو الزعيم النازي أدولف هتلر، حين التقى الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين آنذاك، إذ قال له: إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشيوعية، بل إنني أخشى الإسلام السياسي.
أما محمد عمارة في كتابه “الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي”، فيعتقد أن أول من استخدم مصطلح “الإسلام السياسي” هو الشيخ محمد رشيد رضا. لكنه استخدمه في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها “الإسلام السياسي” ويعني الذين يسوسون الأمة في إطار الأمة الإسلامية. أما المصطلح المعاصر للإسلام السياسي وكما يُستخدم الآن، ومنذ العقود الثلاثة الماضية، في أعقاب صعود المد الإسلامي والظاهرة الإسلامية، بمعنى: الحركات الإسلامية التي تشتغل بالسياسة، فهو يرى في هذا المصطلح “الإسلام السياسي” شبهة اختزال الإسلام في السياسة؛ لأنه ليس هناك إسلام من دون سياسة، حسبما يراه.
ونجد أن علي صدرالدين البيانوني المراقب العام للاخوان في سورية يرى أنك حين تجرّد الإسلام من بعده التشريعي، لا يبقى إسلاماً، وإنما يتحوّل إلى شيء آخر. إن الإسلام، كما يراه، دينٌ شاملٌ لكل جوانب الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية... فليس هناك إسلام سياسيّ، وإسلام اقتصادي، وإسلام اجتماعي... بل هو إسلامٌ واحد، شاملٌ لكلّ جوانب الحياة، ولذلك فهو يرفض مقولة “الإسلام السياسي”.
ويشاركه في هذا الرأي ساجد العبدلي، الأمين المساعد للشئون الإعلامية في الحركة السلفية الكويتية، ففي حوار أجرته “صحيفة الراية” القطرية في 24 مايو/ أيار 2002، وصف العبدلي عبارة “الإسلام السياسي” أنها تشويه كبير للمقاصد الشرعية من العمل السياسي، وبأنها قد تعطي إيحاء بأن هناك إسلاماً سياسياً وآخر دعوياً وآخر خيرياً وهكذا، بينما الإسلام واحد، وهو دين شامل لا يتجزأ لكل مناحي الحياة، ولم يكن المسلمون يفصلون بين العمل السياسي والدعوة في يوم من الأيام، بل كانت جميعها كلاً متكاملاً.
لكن بعيداً عن الخلفية التاريخية، وإذا ما عدنا إلى الواقع المعاصر، سنجد أن عمرو حمزاوي، كبير الخبراء بمؤسسة كارينجي للسلام العالمي والمتخصص في دراسة التحول الديمقراطي في العالم العربي يرى أن الظاهرة لن تنحصر في النتائج التي أشرنا إليها أعلاه، وإنما ستكون متجسدة أيضاً في فوز حزب حركة العدالة والتنمية الإسلامي بالانتخابات التشريعية في المغرب، وبروز الإسلاميين كقوة المعارضة الأساسية في كل من اليمن والكويت وغيرها من الدول العربية الأخرى.
ثلاثة تفسيرات رئيسية
ويقدم عمرو حمزاوي ثلاثة تفسيرات رئيسية لهذه الظاهرة في ندوة نظمها مركز الحوار العربي في واشنطن نلخصها على النحو الآتي:
أولاً: عملية الأسلمة: وتعني أن المجتمعات العربية منذ السبعينات من القرن الماضي مرّت بعملية إعادة تعريف لهويتها وإعادة تعريف لتوجهاتها ولعلاقات القوى بين الأطراف السياسية المختلفة لمصلحة التيارات الدينية الإسلامية داخل هذه المجتمعات. وسرعان ما انعكست البنية الاجتماعية بهيمنة التيارات الدينية الإسلامية عليها في العملية السياسية من خلال نتائج الانتخابات التي أجريت في العام الماضي بنفس هذه التوازنات.
ثانياً: ظاهرة التصويت الاحتجاجي: وتعني أن نجاح الحركات الإسلامية في صناديق الانتخابات يعكس حقيقة أن من شارك من الناخبين العرب في تلك الانتخابات، سواء بنسبة مشاركة عالية جداً، كما حدث في العراق أو بنسب منخفضة تقل عن 20 في المئة، كما في الحال المصرية، سجل بصورة ما تصويته الاحتجاجي على النخب الحاكمة وعلى فسادها وفشلها في تحقيق طموحات المواطن على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولكن، لماذا ذهب التصويت الاحتجاجي إلى التيارات الدينية الإسلامية ولم يذهب إلى البدائل الأخرى من الأحزاب العلمانية واليسارية التي شاركت في العملية الانتخابية؟
يجيب عمرو حمزاوي فيقول: “لقد شعر الناخب العربي بأن التيارات والحركات الإسلامية أصبحت في وجدانه تشكل البديل الوحيد المقنع، لأن القوى الليبرالية والقوى اليسارية أصبحت ضعيفة وغير موجودة في الشارع السياسي العربي”.
ثالثاً: انحسار تأثير القوى العلمانية في المجتمعات العربية: فقد ضعف تأثير هذه القوى في العقود الثلاثة الماضية بحكم فشل النظم العربية التي تبنت مفاهيم علمانية وقومية، فأفقدت هذه الأيدلوجيات صدقيتها عند المواطن العربي، كما أن نظماً عربية بعينها مثل المغرب ومصر واليمن اتبعت نظماً تعددية سياسية مقيدة، فسمحت بوجود أحزاب سياسية ورقية لا وجود لها في الشارع العربي، لأن النظم العربية الحاكمة لم تسمح لها بهامش من الحركة يتيح لها المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، بل واستخدمت النظم العربية الحاكمة الحركات الإسلامية في بعض الأحيان كوسيلة لضرب اليسار أو القوميين العرب.
وهناك أسباب فرعية أخرى من بينها أن الناخب العربي الذي يشعر بالغضب من السياسات الأميركية في العالم العربي، يشعر بأن الحركات الإسلامية هي الرافض الحقيقي للنفوذ والسيناريو الأميركي في المنطقة العربية، لذلك صوت لصالح تلك الحركات الإسلامية التي ينظر إليها كطليعة وحيدة في جبهة المقاومة العربية للهيمنة الأميركية.
في السياق ذاته، ومن جانب آخر يلخص الباحث في الدراسات الإسلامية مروان الأسمر في مقال مطول راجع فيه مجموعة من الكتابات الأجنبية حول تطور مفهوم الإسلام السياسي وتطوره. ويرى الأسمر أنه على رغم العدد الكبير من الكتب التي وضعت، فإن هناك تقليلاً من أهمية الآراء حول رؤية الإسلام السياسي لنظم المجتمع، وقضية النظام، والعلاقات البينية، والعلاقات مع الآخر، بينما هناك تسليط للضوء من جانب عدد من الكتّاب، مثل برنارد لويس، على ما يسميه الآراء العدائية في الإسلام، مثل الحرب، وقضايا إخضاع غير المسلمين. لكن هذه الآراء تعتبر خارج السياق بحسب رأيه.
ويتوقف الأسمر عند تلك الدراسة التي قام بها غراهام فوللر وهو من رجال وكالة المخابرات المركزية الأميركية سابقاً حول الموضوع بالقول. يرى فوللر أن الإسلام هنا ليبقى، وهو يصلح كبديل واقعي للأنظمة القمعية في العالم الإسلامي، الأمر الذي يحتاج الغرب إلى الاعتياد عليه.
ويبتعد فوللر، كما يرى الأسمر، عن الآراء المقولية التقليدية عن الإسلام التي تعود إلى القرون الوسطى، ويرسم صورة نضرة عصرية للإسلام وهو يدخل القرن الحادي والعشرين. ويقول المؤلف إن الإسلام ديانة قابلة للتكيّف، قادرة على العمل داخل المؤسسات الحديثة، سواء كانت ديمقراطية أو شبه ديمقراطية. وللإسلام قدرة فائقة على المشاركة في النظم الحديثة في العالم، وقبول مبادئ مثل الديمقراطية التعددية، ويمتاز بشموليته في العالم الحديث. وهناك الكثير من الأفكار، والكثير من المعتقدات. ويرى الكثيرون بأن الإسلام ليس نظامَ معتقدات متماثلة، فهناك الكثير من الاتجاهات والحركات داخل الديانة، ما يشير إلى بنيته الثرية والطريقة التي يشارك فيها في البنى المعقدة في أنحاء العالم. وهو، على وجه الإجمال، ديانة داخل النظام العالمي، وليس بديانة تسعى للعمل من خارجه، أو حتى لتدميره
العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ