العدد 1572 - الإثنين 25 ديسمبر 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1427هـ

أكلة بأكلة

من إنتاجات الرادود عبدالشهيد الثور التي ينشرها على عدد من المواقع الالكترونية ومنها موقع مكتوب كان هذا الاقتباس:

مستلقيان على التراب يسير بهما الحديث في أودية مختلفة... كل منهما متكئ على مرفقه متوسدا راحة كفه معطيا وجهه لأخيه... فوزي يرسل النكات على أخيه هاني ويستقبل ضحكاته المكتومة خوفا من وصولها إلى سمع أبيه... تتأرجح النكات على لسانيهما من لسان إلى لسان... يبثها فوزي حارة محبوكة فيتلقفها هاني بشوق عارم... يعقبها ضحكات من كليهما.

وربما كان هاني يروي وفوزي مشدود إلى كل كلمة تنبت على فم أخيه، حالهما كهذا كل يوم في العطلة الصيفية... يتوجهان إلى مزرعة والدهما يساعدانه فيما يطلبه منهما... يجنيان الثمار الناضجة، ويملآن السلال بها... اليوم لم يأمرهما والدهما بشيء، هما بانتظار أوامره... وفي وقت الانتظار تحلق النفس في كثير من الأمور التي تصادفها فتعبرها... وفي جو ملئ بالنسيم العليل ورائحة الثمار الشهية والخضراوات المتدلية في أغصان أشجارها.

مازالت الطرف اللذيذة متواصلة من فم فوزي يرافقها سمع حاضر من أخيه هاني... هما هكذا لا يبرحان يمارسان الدعابة كمهنة ولدت معهما من بطن واحد، لا يستغنيان عنها... على البعد لاح خيال أبيهما قادم إلى ناحية ما هما فيها.

استولى الوقار عليهما... خففا من الصوت وأخذ الهدوء يتمكن من المكان شيئا فشيئا مع مرور دقيقة واحدة فقط وأعين رأسيهما مصوبة نحو الوالد متأبطا سلتين كبيرتين... انتزعهما الخوف انتزاعا... بادرا لمساعدة أبيهما... كل منهما تناول سلة بين ذراعيه وانحنى بها على الأرض... استقرت السلتان فوق الأرض ممتلئتان بالطماطم الممتلئ بالنضارة والاحمرار.

استدار الأب راجعا عنهما بضع خطوات فقط وارتد برأسه إلى الوراء متداركا شيئا ما نساه عندهما... انتهت الخطوات من رجليه حين باشرت الكلمات ظهورها من فمه، رفع إصبعه نحوهما لكنه يشير إلى السلتين المودعتين فوق التراب، كان صوته الأجش المرتعش المملوء بالرهبة ينطلق من فمه يطوقهما بالخشوع والطاعة... كانت أوامره واضحة يقول: عند الظهيرة خذا هاتين السلتين لبيت مهدي القصاب.

ما كانت الكلمات تحتاج إلى تفصيل أكثر لذلك أنهى العبارة وابتدأت خطواته في استعادة طريقها المقطوع... كان من سوء حظ السلتين أو لربما من سوء حظهما أن استقرتا في مكان يقع وسط مجلسهما.

في العريش المظلل بسعف النخيل عاودا جلستهما السابقة يكملان ما تبقى من سرد النوادر والنكات، فمازالت حافظة كل منهما مشبعة بالكثير... تمدد الجسدان والسلتان بينهما كالصفرين بين الواحدين... مازال هنا الكثير من الوقت عن الظهيرة، وشرعت النكات تتجسد في فم كل منهما بالتوالي ومع كل نكتة كانت يد أحدهما تمتد إلى السلة القريبة منه تتناول من طماطمها واحدة ما يفتأ الفم أن يقضمها.

النكات تسير بهما كالقطار في طريق لا ينتهي، كلما انتهى واد ولد من نهايته واد آخر، كذلك النكات حالها بآخر حبكتها تكمن أخرى لا تتورع الذاكرة عن روايتها.

نكات ونوادر وطرف تروى، وضحكات تختم كل نادرة من نوادر الريف وما أكثرها، ويدان تقتحمان السلة كل دقيقة وأخرى وأسنان تلتهم الطماطم تغمرها نشوة البسمات. نفد الوقت حثيثا بنفاد السلتين... استفاقا على نفاد السلتين كما يستفيق الغافل بنفاد عمره من يده دون شعور بتعاقب السنين في حياته.

بتناول آخر قطعتين من السلة كانت الدهشة تبرز علاماتها في وجهيهما وأطلت من عينيهما، قال فوزي من فرط دهشته: أين ذهب محتوى السلة؟! وكان جواب هاني لا يخلو من الدهشة المغلفة بالمرح: سل أسنانك القاطعة وبطنك الممتلئة؟

أجابه فوزي بمرح معاكس: سلة في بطني وسلة في بطنك! ولكن ما نصيب مهدي القصاب من السلتين؟ قال هاني دعنا نتناسى الأمر ونخفي السلتين وكأننا أرسلناهما كما أراد والدنا.

وضع هاني سلة في الأخرى وأخفاهما خلف الشجر الكثيف وخرج هو وأخوه من المزرعة بينما كانت الظهيرة تلاحقهما بحلول موعد تسليم السلتين... انصرم النهار عن نصفه دون أن تصل السلتان إلى مهدي القصاب وطبعاً لم يصله شيء مادام محتوى السلتين قد أفرغ في بطنين غافلين.

فوق مائدة الغداء المتواضعة تغلغل الهدوء في فوزي وهاني... هدوء المرتاب المترقب لا هدوء المطمئن... نظراتهما ترتفع من فوق المائدة لتلتقي وتتخاطب دون سمع الحاضرين... تتناجى النظرات بسر خفي وخوف قاتل يحيط بخلجات قلبيهما... هكذا تكون سرائر المذنبين، في ريبة وترقب العقاب... وتبقى الذنوب ذنوبا مهما صغرت ومهما خفيت على أعين الناظرين.

انتهوا من تناول الغداء ولم تنته الهواجس من الصدور، ومن الطبيعي جداً بعد تناول سلة كبيرة كاملة من الطماطم أن لا يحتمل جهاز هضم هذا الكم منها... فوزي وهاني جالسان وبطناهما تحضران لعملية إسهال متكررة.

الوالد بفطنته وتجاربه مع ولديه أدرك الحقيقة شبه كاملة، وليس أخبر منه بولديه بعدما رأى من بقايا الطماطم في موقعهما، وبعدما عثر على السلتين فارغتين خلف الشجر في المزرعة... قليلا غاب أبوهما عن أعينهما وحضر وحضرت بيده عصا خضراء طرية من جريد النخل... صعد الخوف إلى أعلى وجهيهما... ومن دون مقدمات هبط عليهما سؤال الإدانة الأول: أين ذهبتما بالسلتين بما فيهما؟ كانت الإجابة مخبئة في السؤال بأسلوبه الاستنكاري.

حاصرتهما الأسئلة كما حاصرتهما بوادر الإسهال من الجهة الثانية... ماطلا قدر ما استطاعا دون فائدة، أخيرا أقرا بالحقيقة كاملة وعلائمها بادية بمقاومة الإسهال... برهة صمت فرضها سكوت الوالد عنهما، كأنه يبحث عن عقاب يليق بهما وبمن أوقع الخسارة به وفوت عليه نتاج يومه من المحصول.

ها... لقد وجدها... العصا حاضرة والإسهال يشتد عليهما... وقبل أن يكسر حزام الصمت الذي فرضه بادره هاني طالبا منه السماح له بدخول الحمام وأعقبه فوزي بالطلب نفسه... تلك اللحظة كان العقاب جاهزا لهما.

قبل أن تدخلا الحمام اسمعا، قال الوالد، لكل منكما خمس دقائق في الحمام وتعقب كل خمس دقائق خمس ضربات لكل خارج من الحمام، وبمقدار ما يزداد المكوث داخل الحمام يزداد عدد الضربات حتى ينتهي الإسهال منكما حينها انتهي منكما جزاء لما أكلتما من طماطم... بهذا أضافا إلى دفتر نكاتهما طرفة جديدة تضحك الآخرين كما ضحكا وأشبعا نفسيهما ضحكا وطماطم?

العدد 1572 - الإثنين 25 ديسمبر 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً