تجسد الزيارة الهامة المرتقبة لعاهل البلاد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى ال خليفة الى جمهورية باكستان أهمية كبيرة في ظل تطلعات جلالته لتعزيز علاقات التعاون مع كافة البلدان الصديقة ومن الطبيعي أن تُدرج جمهورية باكستان الصديقة ضمن جدول أعمال زيارات جلالة العاهل المفدى لأقطاب النمو الجديد في آسيا، وذلك لعدة أمور، ربما يكون أبرزها: أن باكستان إحدى الدول المسلمة الكبرى، وترتبط بعلاقات وثيقة بالمملكة وبالمنطقة، ولا يحكم هذه العلاقات اعتبارات الوشائج التاريخية فحسب، ولا الروابط السياسية الممتدة هي الأخرى لآلاف السنين، وإنما يحكمها اعتبارات مهمة تتعلق بالعمق الاستراتيجي الذي تمثله الدولتان لكل منهما، سواء من حيث الموقع الجغرافي أو من حيث الموارد، فضلا عن المكانة والدور الإقليميين.
الأهمية الاستثنائية للزيارة السامية لباكستان..
ولذلك تبدو هذه الأهمية الاستثنائية للزيارة المرتقبة لجلالة العاهل، التي تأتي في إطار عدة زيارات محورية قامت بها القيادة الرشيدة لعدد من الدول الآسيوية الكبرى، واستهدفت تعزيز علاقات المملكة بمحيطها الإقليمي الأقرب، وفتح أبواب التعاون مع غيرها من الدول الآسيوية الصاعدة، وقد بدأت هذه الجولات المخطط لها والمدروسة جيدا باليابان، وانتهت بالهند، مرورا بكل من الصين وتايلاند، وهي زيارات تمت في غضون عدة أشهر فقط، وأسفرت عن تحقيق عدة نتائج جوهرية سواء على صعيد تمتين علاقات البحرين بدول العالم وتوسيع شبكة تحالفاتها، أو على صعيد نقل وتوطين التجارب التنموية المتقدمة وزيادة فرص الاستفادة منها داخل مملكة البحرين، خاصة من أصحاب المبادرات الفردية والأهلية، وفي مقدمتهم القطاع الخاص الوطني.
وتنظر البحرين إلى جمهورية الباكستان باعتبارها قطبا إقليميا مهما يتمتع بعدد من المميزات الإستراتيجية التي تدفع العالم عامة، والعالم الإسلامي بشكل خاص، والبحرين في مقدمته، إلى التقارب معها، فمن ناحية موقعها الجغرافي تعد الأقرب لدول الشرق الأوسط والخليج، كما أنها تعد في القلب من دول آسيا الوسطى، سيما الإسلامية منها، وتجاور عمالقة النمو الجديد في آسيا والعالم، التي تبزغ قواها حاليا على الصعيد العالمي في الصين والهند.
ومن ناحية الثقل الإقليمي، فباكستان هي الدولة الإسلامية الوحيدة في العالم التي دخلت وبقوة نادي الدول النووية، وتحظى بعلاقات وثيقة بكل دول الخليج العربية، ومنها المملكة، بل وينظر لها باعتبارها عمقا استراتيجيا لدول العالم الإسلامي برمته، ولدول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص، وللعربية السعودية بشكل أكثر خصوصية بالنظر لطبيعة العلاقات التي تربطهما، كما أن رفع مستوى التنسيق معها من الأهمية التي لا يمكن لأحد غض الطرف عنها، على خلفية التغيرات الجيوـ سياسية التي تشهدها المنطقة والعالم بالنظر إلى المخاطر التي تفرضها تحديات الأمن الإقليمي والعالمي، وتمس البلدين بشكل أو بآخر، وفرص الاستفادة الاقتصادية التي يمكن أن يجنيها الطرفان اعتمادا على العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة.
في المقابل، لا تغيب عدة اعتبارات استراتيجية أخرى عن باكستان عندما تنظر لعلاقاتها الوطيدة مع المملكة وتسعى للاهتمام بها وتطويرها، وذلك بالنظر إلى أن البحرين تستقبل إحدى أكبر الجاليات الباكستانية الموجودة في الخليج ككل، الذين يعملون في عدد من القطاعات ويسهمون بخبراتهم وطاقاتهم في تطوير التجربة التنموية والبنية التحتية الوطنية، كما تمثل المملكة لباكستان بوابة لسوق خليجية كبيرة لا يمكن أن تتجاهلها، بل وتسعى لتعظيم الاستفادة منها، خاصة في القطاعات التجارية والزراعية والخدمية والعمالية، فضلا عن الدفاعية والأمنية، وهي ـأي المنطقةـ بالإضافة إلى كونها مصدر الطاقة الرئيسي لباكستان، فإنها المورد الأكبر للاحتياطيات الرأسمالية الضخمة التي يمكن أن توجه للقطاعات التي بحاجة للتنمية في جمهورية باكستان، سيما منها الزراعية، والتي تعد رافدا من روافد الأمن الغذائي الخليجي.
ملامح العلاقات الإستراتيجية البحرينية ـ الباكستانية..
في ضوء ذلك يمكن الإشارة إلى عدد من الملامح التي تعكس تطور وأهمية العلاقات البحرينية الباكستانية على خلفية زيارة العاهل لكراتشي، وذلك كالآتي: الملمح الأول يتعلق بالاهتمام البالغ الذي توليه جمهورية باكستان لعلاقاتها مع المملكة، وهو الاهتمام الذي أكد عليه رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف خلال لقائه قبل عدة أشهر مع رئيس الحرس الوطني بالمملكة الفريق الركن الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، وكان سببا في دعوة العاهل لزيارة باكستان، مؤكدا سعي بلاده لتعزيز وتطوير هذه العلاقات في مختلف المجالات.
ويبدو هذا الاهتمام واضحا بالنظر إلى أمرين أحدهما خاص بقضايا الاهتمام المشترك بعد أن استعرض الجانبان مجمل التطورات الإقليمية والدولية، وحجم انعكاساتها على أمن وتطور البلدين، لا سيما منها ما يتعلق بزيادة المخاطر الناتجة عن صعود الجماعات المسلحة ذات المرجعية الدينية، وامتداداتها في دول الإقليم كله، والتي تستهدف أمن شعبيهما واستقرارهما، والآخر يتعلق بجوانب العلاقات الثنائية الممتدة والتاريخية بين البلدين، والتي وصفها رئيس الوزراء الباكستاني بـ"الأخوية" ودعا لتعزيزها وتطويرها في كافة المجالات، وذلك من أجل تعميق الشراكة الاقتصادية القائمة بين البلدين، مرحبا باستثمارات رجال الأعمال البحرينيين للاستفادة من فرص التوسع الاقتصادي التي تشهدها باكستان في مختلف المجالات، ومشيدا في الوقت ذاته بالمناخ الذي تنعم به جالية بلاده في بلدها الثاني البحرين وبالدور الذي تقوم به سواء في دعم خطط وبرامج التنمية البحرينية أو في رفد باكستان بالتحويلات المالية اللازمة التي تنهض باقتصادها الوطني.
الملمح الثاني للعلاقات الوطيدة التي تربط البحرين بجمهورية الباكستان يتعلق بالحرص الذي يبديه قادة الدولتين لتطوير وتنمية العلاقات الثنائية، ويتجلى ذلك واضحا بالنظر لعدد من الأمور يراها خبراء العلاقات الدولية بأنها الإطار الذي يحمي مسار العلاقات بين القوى والطراف الدولية ويدعم رسوخها وتطورها، ولعل أبرزها: المصالح الثابتة المشتركة، استعداد قيادة البلدين السياسية لدعم وتطوير هذه المصالح وتوسيعها، تجذر وامتداد العلاقات بين الدولتين على المستويين الرسمي والشعبي على السواء، هذا فضلا عن وقوف البلدين ودعمهما اللامحدود للآخر إزاء الملفات والقضايا التي تمس وجودهما.
المصلحة المشتركة وتعميق العلاقات الثنائية..
وهنا لابد من التأكيد على أن جوهر المصلحة المشتركة بين البحرين وباكستان تتمثل في حقيقة التحديات التي تواجه كلا من الخليج العربي وجنوب آسيا والناتجة عن جسامة الأوضاع والتطورات التي تشهدها المنطقتان، والتي يتعين على الدولتين التعاطي معها وفق رؤية تنسيقية عالية المستوى تدرك طبيعة مثل هذه المخاطر التي تمس أمنهما واستقرارهما، ناهيك عن أن من مصلحة الدولتين العمل وبجهد دؤوب لخلق إطار تنظيمي لدفع العلاقات الثنائية والمضي بها قدما، خاصة في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
الأمر ذاته بالنسبة لاستعداد قادة الدولتين وحرصهما على الاستفادة من تاريخ ثابت من العلاقات المشتركة من أجل توسيع فرص التعاون بينهما، حيث يشار إلى برهانين يدعمان ذلك، أحدهما: أن تاريخ هذه العلاقات يعود إلى ما قبل عام 1971، تاريخ إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية على مستوى السفراء وافتتاح أول سفارة باكستانية بالمملكة، الآخر: حجم ومستوى الزيارات المتبادلة بين قادة ومسؤولي البلدين، والتي بدأت في فبراير عام 1974 بزيارة رفيعة للمغفور له الأمير الراحل سمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة للمشاركة في مؤتمر القمة الإسلامي في لاهور، ثم زيارة لرئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة عام 2005، وزيارتان لسمو ولي العهد عامي 1998 و2006، فضلا عن زيارة وزير الخارجية عام 2011، ورئيس الحرس الوطني العام الماضي في ديسمبر 2013، وهو ما قوبل بحرص واهتمام متزايد من جانب كبار المسؤولين الباكستانيين، الذين زاروا المملكة على فترات متقاربة، وبحثوا على أعلى المستويات أوجه التعاون والتنسيق بين بلادهم والبحرين.
ويشار هنا إلى أن اثنين من رؤساء جمهورية باكستان قاموا بزيارات رسمية للمملكة، أولهم الرئيس ضياء الحق عام 1981 ثم الرئيس آصف علي زرداري عام 2011، كما قام أربعة من رؤساء الوزراء الباكستانيين بزيارات مماثلة، منهم اثنتين لرئيسة الوزراء السابقة بنزير بوتو عامي 1990 و1996، والأخيرتين قام بهما غلام مصطفى جاتوي المكلف برئاسة الوزراء عام 1990، ونواز شريف في مارس 1999، هذا فضلا عن زيارات أخرى كان أبرزها وزير الدفاع عام 2008 ووزير الخارجية عام 2009، وغيرها.
تطابق وجهات النظر إزاء القضايا الإقليمية والدولية..
مع وجود الأساس الذي انبنت عليه العلاقات بين البحرين وباكستان، وهي المصالح المشتركة والحرص والاستعداد المتبادل اللذين أبداهما قادة ومسؤولي البلدين لتعزيز ودعم العلاقات، كان من الطبيعي أن تتجذر وتمتد أواصر التحالف الوثيق بين البحرين والباكستان، الأمر الذي انعكس على تطابق وجهات نظر البلدين ناحية القضايا الإقليمية والدولية المختلفة، ويتضح ذلك في العديد من الأمور، لعل من أبرزها: حجم التنسيق والتشاور القائم بين البلدين، والذي يشمل العديد من المجالات والملفات، ورغبتهما في دفع العلاقات بينهما إلى آفاق أرحب، وبما يسهم في خير ورفاهية الشعبين، فضلا عن الأطر التنظيمية الموضوعة لتأطير وتطوير العلاقات الثنائية.
وللتأكيد على هذه المعاني التي تعكس تطابق وجهات النظر بين البلدين، يبدو مهما التركيز على أمرين أحدهما خاص باتفاقات ومذكرات التعاون والتفاهم بين البلدين، والتي تصل إلى نحو 14 مذكرة واتفاق تشمل كافة مجالات التعاون، التجاري والمالي والاجتماعي والثقافي والتربوي، فضلا عن الدفاعي والأمني، وغير ذلك، والتي من المنتظر أن ترسخها زيارة العاهل المفدى وتزيدها قوة وعددا، والآخر يتعلق بالإطار المنظم للعلاقات الاقتصادية التي تربط البلدين، والذي لا يقتصر فحسب على الجانب الرسمي ممثلا في اللجنة المشتركة التي أنشئت عام 1983، وعقدت أربعة اجتماعات كان آخرها في المنامة عام 2001، وساهمت بجهد كبير في تمتين علاقات البحرين بالمملكة، ويُنتظر إعادة تفعيلها مجددا لتكون قاطرة لتطوير العلاقات المشتركة، وإنما تشمل أيضا الجانب الشعبي ممثلا في القطاع الخاص الوطني الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع نظيره الباكستاني، ويُتوقع أن تتعمق وتزداد متانة خلال الزيارة المرتقبة للعاهل بالنظر إلى الوفد الكبير الذي سيرافقه، خاصة من أعضاء الغرفة التجارية ورجال الأعمال البحرينيين.