العدد 1023 - الجمعة 24 يونيو 2005م الموافق 17 جمادى الأولى 1426هـ

حرب على الصحافة

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في العام 2001 رفع الزميل حافظ الشيخ دعوى قضائية ضد قرار وزارة الإعلام وقفه عن الكتابة وحكمت المحكمة ببطلان القرار وعاد الشيخ للكتابة بقرار من المحكمة. لكن هذا الحكم لم يدشن مرحلة جديدة للصحافة المحلية، بل على العكس كان بداية لما يمكن أن نسميه حربا جديدة على الصحافة.

قبل العام ،2001 كان القمع والخوف يتكفلان بإخراس الألسن، وكانت منظومة الخوف داخل المؤسسات الصحافية قد غدت أعرافا وتقاليد. لكن ما ان بدأنا نتنفس أولى نسائم الحرية إلا وكانت الصحافة هدفا لحرب جديدة فيها من الضراوة، ما يجعلنا ندرك أن حرية التعبير التي لا تعني بالنسبة إلى الكثيرين سوى لازمة خطابية هي موضوع الحرب.

العملية الحسابية بسيطة: 10 مقسوما على 4 يساوي: .2,5 فالدعاوى المعروفة التي أحصيتها بنفسي من دون بحث أو استقصاء لدى الصحف بلغت 10 دعاوى خلال أربعة أعوام ونصف. أي بمعدل قضيتين ونصف كل عام.

بعض هذه القضايا ردتها المحاكم ويمكن اعتبار هذه من النصف في النسبة 2,5 وبعضها مازال مستمرا. في بعض القضايا سيق الصحافيون إلى النيابة العامة أو المحكمة لمجرد قيامهم بنشر تصريحات لأشخاص آخرين. أما المفارقة، فإن القليل منها رفع بسبب الرأي لأن غالبيتها تتعلق أساسا بقضايا "نشر وقائع". هنا بالضبط يتعين علينا إعادة تصنيف موضوع الحرب، فغالبية القضايا لم ترفع بسبب الرأي، ما يجعل التصنيف بأنها حرب ضد حرية التعبير يبدو فضفاضا على رغم صحته. وفي غالبية القضايا المتعلقة بالنشر، سيق رؤساء التحرير إلى المحكمة بتهمة السماح بنشر الوقائع موضع الشكوى أو بسبب سماحهم بنشر آراء لآخرين مثلما هي قضية القضاة الشرعيين ضد "أخبار الخليج". الأصح أنها حرب ضد "حق الناس في المعرفة".

طيلة السنوات الثلاثين الماضية، لم تشهد ساحات المحاكم من قضايا مرفوعة ضد الصحافيين سوى عدد محدود للغاية وعلى فترات متباعدة جدا لأسباب شتى. كانت العقوبات توقع مباشرة على الصحيفة التي تعتبرها السلطة مخالفة من قبل الوزارة من دون اللجوء إلى القضاء. كان الوقف عن الصدور عقوبة تعرضت لها صحيفة يومية لمرة واحدة في أواخر الثمانينات لكن بسبب خبر غريب في وقائعه ليس إلا. كما تعرضت مجلة أسبوعية للتوقيف أيضا غير مرة بقرار من الوزارة أيضا. أما الكتاب، فقد تعرض بعضهم للوقف أكثر من مرة بمكالمة هاتفية فقط تصل إلى الصحيفة التي يعملون فيها. وفي حالات أخرى ظل صحافيون ممنوعين من العمل في الصحف المحلية بموجب قرار غير مكتوب حرمهم من العمل وتحصيل الرزق لفترة وصلت إلى عقدين. لكن هذه الأسباب والدوافع التي كانت تحول دون وصول الصحافيين إلى المحاكم إلا فيما ندر، لم تكن تتعلق بحالة من الرشد كانت تعم الصحافة بقدر ما تتعلق بأوضاع كانت الحكومة فيها تتعامل مع قضايا النشر والصحافة بطريقتها بعيدا عن المحاكم.

على مستوى الأرقام، فإن ندرة القضايا المرفوعة ضد الصحافيين في العقود الماضية وزيادتها الملحوظة في مرحلة الإصلاح قد تفتحان الباب أمام استنتاجات عدة. حتى لو سايرنا حس الدعابة والسخرية لدينا وافترضنا أن أسباب ندرة القضايا في السابق كانت تعود إلى حالة من الرشد في صحافتنا المحلية، فهل تعني زيادتها الآن في مرحلة الإصلاح محاولة للجم تمردها وحريتها؟

ها أنتم ترون أن الدعابة أيضا مليئة بالدلالات والقدرة على التبصر، فهذه الضراوة في التعامل مع قضايا النشر لا تعني سوى أن كل أولئك الذين اختصموا الصحافيين يريدون الحفاظ على أوضاع قديمة لم تكن الصحف فيها مشبعة بروح الاستقلال مثلما هي عليه الآن. إن هذا قد لا يعني حكما بأن الصحف تؤدي دورها بحرفية عالية بل إن روح الاستقلالية باتت سائدة في أجواء الصحف بدرجة لا يمكن أن تخطئها البصيرة.

يتنوع المدعون في كل هذه القضايا المرفوعة طيلة الأعوام الأربعة ضد الصحافيين، والحكومة طرف في واحدة من القضايا فيما تتوزع القضايا الأخرى بين مسئولين ورجال سلطة قضائية وأفراد. وإذا كانت كل هذه القضايا تظهر مقدارا من الصعوبة في أن يتخلى مجتمع بأسره عن نزعات القمع والكبت في داخله، فإن هذا الاستنتاج لا يصح على الحكومة فقط بل هو استنتاج يشترك فيه حتى أولئك الذين يقفون ضد الحكومة.

تتحمل الحكومة نصيبها في هذه الحرب على الصحافة لأنها أثبتت عبر قانون 47 وتعديلاته أنها ليست في وارد التفكير في التعايش مع صحافة حرة ومستقلة وهي لاتزال تسعى لإعطاء ألف تفسير ومعنى للحرية بعيدا عن كونها مجرد حرية.

لكن المحاكم ليست هي الساحة الوحيدة للحرب على الصحافة وعلى حرية التعبير، فالجمهور أكثر قسوة من الحكومة على الصحافة. والقضايا التي بيدنا يمكن أن تعطينا مؤشرا، فغالبيتها مرفوعة من أفراد وجمعيات بل ومن ممثلين منتخبين.

وعلى رغم أن "حرية التعبير" مفردة أثيرة في خطاب الجميع فما من أحد حتى اليوم برهن على تعلقه بحرية التعبير إلا عندما تتعلق بغيره. فما أن يطوله الانتقاد إلا وتظهر كل النوازع الفاشية في داخله لينضم إلى كل أولئك الذين لا يريدون صحافة مستقلة وحرية في التعبير. فالجميع لا يتعامل مع حرية التعبير إلا على طريقة: "إذا كانت ضد الحكومة وضد الآخرين فأهلا وسهلا فهي حرية تعبير، أما إذا مستني فالويل لهم".

الجميع ليس مستعدا بعد للقبول بصحافة حرة تكتب وتنشر الوقائع وتنتقد وتبدي آراء لا تساير بالضرورة رأي الحكومة أو المعارضة أو أية جهة كانت. والجميع أيضا ليس مستعدا للتعامل مع حرية التعبير مهما كانت الادعاءات بليغة وفصيحة

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1023 - الجمعة 24 يونيو 2005م الموافق 17 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً