العدد 1029 - الخميس 30 يونيو 2005م الموافق 23 جمادى الأولى 1426هـ

حتى لا نعدم الطريق إلى "الإصلاح السياسي"!

الإصلاح قبل الكارثة

عبدالهادي مرهون comments [at] alwasatnews.com

إجمالا، يمكن القول إن عملية الإصلاح السياسي في المنطقة العربية، والمنطقة الخليجية منها خصوصا، غدت الشاغل الأساسي للمهتمين بالشأنين العربي والخليجي. وإذا كان هذا الاهتمام قد عكس في جانب منه اعترافا بجدية الإصلاحات التي خطت نحوها غير دولة خليجية، إلا أنه من جانب آخر، كشف عن مستوى هائل من القصور الكامن في هذه الإصلاحات الذي أصبح يهددها، بل ويمكن له، إذا ما ترك العنان سائبا للكثير من العوامل الكابحة، أن يصيبها في مقتل.

أول هذه العوامل، متأت من تداخل البعدين الداخلي والخارجي في الإصلاحات الحاصلة، وثانيها تجاذب العوامل المعوقة الدافعة لعملية الانفتاح، وأما ثالثها فيعبر عنه تقاطع قضية التحول الديمقراطي مع قضية الأمن القومي. وقبل هذا وذاك البعد العائلي والقبلي في أنظمة الحكم المعنية، ففي جميع دول مجلس التعاون الخليجي - كما يبدو - فإن النخب الحاكمة ليس لديها المقدار الكافي من الرغبة في الدخول في عملية الإصلاح السياسي والإداري الشامل، فإذا تحدثوا عنه فهم يقصدون كلماته الظاهرة وليس مدلولاته الموضوعية الكامنة، ولا يبدون أدنى استعداد للتخلي عن بعض سلطاتهم المطلقة ولا المزايا أو العوائد والامتيازات التي يستحوذون عليها، بل أحيانا يتم الاعتداء على بقايا فتات ما لدى المواطنين ويستولون عليها بالقوة أو بالقانون المجير، وتلك العوامل تتشارك فيها أنظمة الحكم في دول الخليج مع أنظمة الحكم العربية، والاعتبارات السابقة لها تداعياتها وتأثيراتها على العملية السياسية والديمقراطية بمجملها، ودرجة صدقيتها ووتيرة تطبيقها والتعامل مع معطياتها. لذلك يستوجب الحديث عن التحول الديمقراطي والانفتاح السياسي في منطقة الخليج الإجابة عن بعض التساؤلات المثارة، وذلك لوضع هذه الإصلاحات في سياقها الصحيح.

يأتي على رأس هذه التساؤلات تساؤل على صلة بمصدر الانفتاح الذي شهدته المنطقة أخيرا؛ إذ يتنازع في الإجابة على ذلك اتجاهان أساسيان: الأول يرى أن هذا التحول جاء تلبية لضغوط خارجية ومطالبات دولية وأن الانفتاح السياسي الذي شهدته المجتمعات الخليجية والعربية هو استجابة لأجندة دولية جديدة تعلي من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أما الاتجاه الثاني، فيرى أن الديمقراطية التي تشهدها الدول الخليجية وبعض الدول العربية وتسارع خطواتها ما هي في الواقع سوى استجابة لمطالب وضغوط داخلية شهدتها هذه الدول قبل فترة طويلة من بروز الخطاب الدولي حول الديمقراطية. ولعلي هنا أرى أهمية وضرورة الدمج بين هذين الاتجاهين؛ إذ ومع الاعتراف بأهمية البعد الدولي في التحولات التي تشهدها المنطقة العربية عموما ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصا، إلا أنه لا ينبغي أيضا إغفال البعد الداخلي في هذه التغييرات، وحتى نكون منصفين يتعين علينا الاعتراف بأن دول المنطقة شهدت حراكا جادا للمطالبة بإحداث انفراج سياسي يتجاوز حال الركود التي عاشتها هذه الدول طيلة العقود الماضية.

إن أكبر خطيئة يقدم عليها دعاة الإصلاح والديمقراطية في البلاد العربية هي الركون إلى ما تطرحه الولايات المتحدة الأميركية من دون مناقشة، وعلى الحكام العرب أن يمعنوا النظر بجد إلى ما يحصل حولهم من تغيرات والكف عن الحج إلى واشنطن بانتظام لتلقي توجيهاتها واملاءاتها السياسية الداخلية والخارجية، والاستعاضة عن ذلك بالاستدارة نحو شعوبهم وتمتين جبهاتهم الداخلية لتصبح عصية على الاختراق والتدخل الأجنبي كما حصل في العراق.

وتأسيسا على ذلك، يتبين أنه في ظل غياب الإصلاحات السياسية والتشريعية والدستورية التي تقر المساواة في المواطنة وتوفر حماية قانونية لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، يزداد الميل للعنف والتطرف في شتى الدول العربية، لذلك فإن الإصلاح السياسي المبني على الإقرار بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان وتطبيق قيم الديمقراطية وتفعيل المجتمع المدني واحترام سيادة القانون والمحاسبة والشفافية، هي شروط أساسية لتعزيز الوحدة الوطنية وتمتين الجبهات الداخلية للحيلولة دون حدوث التدخلات الأجنبية في كل قطر عربي، فضلا عن ضرورتها للتنمية الاقتصادية والبشرية.

لذلك فإن الدعوة يجب أن تتجه إلى إصلاحات شاملة لا تقف عند حد الإصلاحات السياسية فقط بل تمتد لتشمل ما يأتي:

1- إصلاح اقتصادي يتضمن تفكيك دولة رفاه الاقلية ومعاناة الاكثرية، وإنهاء سيطرة الدولة الاحتكارية التي بقيت لعقود طويلة جاثمة على صدور المجتمعات العربية. وعلى أن يتضمن برنامج الإصلاح المطلوب تخصيصا حصيفا وشفافا يكون للقطاع الوطني الخاص الدور الأبرز فيه، وكذلك ترشيد وعقلنة الإنفاق العام وإعادة توزيع الثروة بصورة أكثر عدلا والفصل التام بين أنظمة الحكم ومن يتولون المسئولية العامة فيها وقطاع الأعمال والتجارة، بحيث لا يكون الحاكم تاجرا أو التاجر حاكما أو يتم الجمع بين المهمتين، مع توفير مناخ يشجع الاستثمار ولا يكون طاردا له، والتحول من اقتصاد أحادي نفطي إلى التنمية الشاملة التي تعنى بالانتاج والانفتاح على الأسواق والاندماج بحساب في بوتقة الاقتصاد العالمي.

2- إصلاح أنظمتنا التعليمية عبر الابتعاد عن أسلوب التلقين الذي تتبعه الدول الخليجية، وإطلاق المناهج التي تثري الفكر والعقل، وذلك لإزالة الجدار الذي يباعد بين الشعوب وتعزيز قيم التنوع بما يؤدي إلى قبول الآخر.

3- إصلاح ثقافي وإعلامي شامل، يتضمن الدعوة إلى التعايش بين الحضارات، وإبراز القيم المشتركة التي تجمع بينها والاستفادة من عطائها.

كذلك هناك حاجة ماسة لوضع آليات بناءة على الصعيد الوطني تؤطر عمل قوى الإصلاح في كل دولة، تكون ذات طبيعة ائتلافية مرنة، بحيث تتسع لتشمل الأحزاب والتكتلات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات العامة التي تتوافق على برنامج حد أدنى للإصلاح. ويمكن أن يتسع هذا الإطار ليضم أطرافا وعناصر من العوائل والنخب الحاكمة عندما يكون ذلك ممكنا.

أما على المستوى الإقليمي نرى دعم إنشاء منبر إقليمي في العالم العربي للحوار، وتبادل الخبرات بين قوى الإصلاح من تكتلات وجمعيات سياسية ومؤسسات مجتمع مدني وبعض الشخصيات العامة. وعلى الصعيد الدولي فان المعطيات الدولية تفرض تطوير هيكل الحوار المقترح بين المجتمع الدولي والحكومات العربية الراغبة في الإصلاح، ليكون مثلثا متساوي الأضلاع، بانضمام مؤسسات المجتمع المدني كشريك متكافئ في هذا الحوار.

إن عملية الانتقال إلى الديمقراطية تتطلب شروطا أساسية منها، وقف العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، إذ مازالت سارية المفعول في بعض الدول العربية، وإطلاق الحريات الإعلامية ورفع كل أشكال الرقابة عنها، وإزالة مختلف القيود المفروضة على تأسيس الأحزاب والجمعيات، والإفراج عن جميع معتقلي الرأي والضمير، فضلا عن السماح بعودة جميع المنفيين السياسيين، إضافة إلى تبني نظم وطرائق انتخابية تعزز من اتساع المشاركة الشعبية والتعددية السياسية التي تفضي إلى التبادل السلمي للسلطة وتضمن الحقوق الانتخابية للأقليات، وخصوصا المرأة.

ويبقى لنا أن نقول إنه لا إصلاح بلا إصلاحيين فاعلين وقادرين على إحداث التغيير المطلوب في موازين القوى السياسية والاجتماعية، ليس لإطلاق عملية الإصلاح فحسب، بل لضمان استمراريتها ونجاحها. وهذا بلا شك يتطلب العمل على تعميق الرؤية الإصلاحية والعملية الديمقراطية وتحديد آفاقها المستقبلية في شتى الميادين، وبناء الأطر السياسية والمجتمعية الحديثة القادرة على النهوض بها. كما أن الحديث عن الإصلاح يجب ألا يستغرق في سجال مفاهيمي، بالقول إن دول المنطقة عليها البدء بالإصلاح الاقتصادي والثقافي ثم الانتقال إلى ما هو سياسي. فنحن هنا في المنطقة، شهدنا في فترات سابقة سجالا شبيها بهذا السجال الدائر الآن، وكنا في ذلك مرآة عكست مناخا عربيا أوسع. فقد كان الحديث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، يدور حول ما إذا كانت وحدة العرب يجب أن تسبق حريتهم أو العكس، وما إذا كانت التنمية يجب أن تسبق الحرية أو العكس. بيد أن هذا السجال المرير أضاع علينا كل شيء، بل مزقنا شر ممزق، كما يقول الكاتب البحريني عبدالجليل زيد مرهون، فلم تحقق حكومات البرجوازية الصغيرة التي استولت على الحكم عنوة، ولا الملكيات العربية الموروثة، أيا من أماني الشعوب العربية، فهي لم تكن سببا في نيل الاستقلال ولم تحقق الحرية أو تبلغ الوحدة، بل ان بعضها فرط في أجزاء عزيزة من أراضي الأوطان العربية ولم يستطع استردادها حتى الآن.

ومع ذلك كله وبعده، دعونا نسأل: أي إصلاح سياسي ذاك الذي نريد وننشد؟ يمكن القول إن المشاركة الشعبية هي جوهر أي إصلاح سياسي، وأي خطوة لا تنتهي بتحقيق هذا الغرض ستبقى قاصرة عن بلوغ الهدف. وعلى دول المنطقة وهي تسعى لذلك ألا تستغرق في الوسائل والأدوات بحيث تستنفد طاقاتها قبل الوصول إلى الهدف.

إن الاستغراق في النقاش القانوني والمفاهيمي وإطالة السجال بشأن المصطلحات والمسميات هو أمر لا جدوى منه، إنه يفوت على المنطقة وقتا وجهدا هي في أمس الحاجة إليهما. لذلك، فإن على دول المنطقة، متى ما قررت الأخذ بخيار الإصلاح الشامل وبناء الديمقراطية، المضي نحو جوهره من دون الوقوف عند أطلال حروفه. وهكذا، فإن خيار المشاركة الشعبية يجب أن يفضي إلى عملية انتخابية صالحة ومؤسسات برلمانية وبلدية ذات جدارة. فإن العملية الانتخابية إذا ما تقرر إنجازها يجب أن تمضي بعيدا عن التموضع المرتكز على التقسيمات الرأسية للمجتمع أو التشطير العمودي للأثنيات، كما يطلق على ذلك أستاذ الاجتماع البحريني عبدالهادي خلف، إذ تنتفي الديمقراطية عند ذلك بالضرورة، فمثل هذه العملية تفضي إلى مشاركة تكرس الأمر الواقع، في الوقت الذي تدعي أنها جاءت لتطويره. والأخطر من ذلك أن الانتخابات التي تقوم على أساس التشطير الرأسي من شأنها أن تفرز مناخا من التقاطب الداخلي الذي يمهد لنسف عرى الوحدة الوطنية وتمزيقها أيما تمزيق. ونحن إذ نقول ذلك إنما نستحضر تجارب عربية وإقليمية ما برحت ماثلة للعيان.

كذلك إن على واضعي القوانين الانتخابية في دول المنطقة تنظيم هذه القوانين بحيث تعكس الحقائق القائمة على الأرض لا أن تقفز عليها. كما أن على شعوب المنطقة التعايش فيما بينها بعيدا عن أشكال التخندق الطائفي والقبلي كافة. وعلينا المراهنة على وعي مجتمعاتنا وتطور حس المواطنة "Citizenship" لديها، مؤكدين في الوقت نفسه، أن المواطنة لا يمكن لها الاكتمال من دون تعضيدها بمبدأ المشاركة المتساوية في الحقوق والواجبات، وجعل الوطن قاسما مشتركا بين الجميع. وغني عن القول هنا، إن مفهوم المشاركة لا مكان فيه لمنطق الغلبة، كما أن الغلبة المقلوبة، هي الأخرى لا مكان لها في هذا المفهوم الذي يستعصي على التجزئة.

وإذا انتقلنا من الأدوات إلى الأطر، فإن المؤسسات المنتخبة يجب أن تعكس إرادة الناخبين، لأنها إذا لم تكن كذلك، تنتفي عنها صفة "التمثيل". فإذا ما قررت دول المنطقة إقامة برلمانات يجب عليها إعطاءها صلاحيات تشريعية ورقابية كاملة، وإلا فالأجدر الاستغناء عنها من الأساس لكي لا تبقى محل خلاف بينما عول عليها لأن تكون محل اتفاق. كذلك فإن المؤسسات المنتخبة، متى وجدت، يجب أن تكون محصنة ومحمية من الهزات والتقلبات السياسية لا أن تصبح جزءا من التاريخ بمجرد استعصائها على التطويع. وما لم يكن الحال على هذا النحو فان الديمقراطية الموعودة لن تكون سوى ديمقراطية أسيرة لا فاعلية لها. وما لم يكن الحال على هذا النحو فإن الديمقراطية والإصلاح اللذين يكثر الحديث عنهما مع إقامة الحكم الصالح، لن يكونا سوى ديمقراطية مكبلة هي أقرب إلى الديكور الذي يتجمل به الحكام والحكومات العربية لتزيين وجوه كالحة وممارسات خاطئة لم ينتج عنها طوال العقود الماضية سوى اقتصادات مشوهة غير منتجة.

ولعل ما يزيد من مأزق شعوبنا العربية أن أدوات الحكم الصالح الذي تسالمت عليه الأمم وأجمعت عليه شعوب الأرض من خلال الأمم المتحدة، لم تعد تلقى اعتبارا لدينا في المنطقة فأصبحت شعوبنا في مواجهة حكام وحكومات منافقة يعدون ولا يفعلون، وأحزاب وجمعيات غير ناضجة لا تجيد غير ردات الفعل المتأخرة، وبرلمانات ومجالـس تشـريعية لا تسـتطيع أن تقول "لا" أمام الحكام والسلطات المستبدة، ومثقفين وأدباء لا يجيدون غير التزلف وتدبيج المدائح، نتجت عنها شعوب مقهورة تعاني من التخلف ولا تنتظر سوى الأمل بعد أن عانت طويلا من استمرار الألم والقهر الاجتماعي، وذلك لأن الديمقراطية ليست مجموعة إجراءات بيروقراطية وحسب، بل هي ممارسة خلاقة تعبر تعبيرا حقيقيا عن إرادة مجتمعية حية ومدركة

العدد 1029 - الخميس 30 يونيو 2005م الموافق 23 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً