العدد 103 - الثلثاء 17 ديسمبر 2002م الموافق 12 شوال 1423هـ

الهوية الوطنية الجامعة... هواجس التشظي والانغلاق أيضا

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

ما مقومات الهوية البحرينية؟. هذا السؤال يمكن ان تعقبه تنويعات اخرى: من هو البحريني مثلا...؟ ويمكن ان نتبع ذلك باستدراك وجيه: هل يمكن الحديث عن هوية وطنية لشعب صغير وسط محيط عربي واسع...؟ ألا يبدو الامر وكأنه ينطوي على مغالاة؟

قبل ان نبحث عن اجابة، يمكن ان ننشط اذهاننا بسؤال آخر في السياق نفسه: من هو العراقي مثلا...؟ من هو المصري؟ من هو السوداني؟ من هو الجزائري؟ بل لنذهب إلى ما هو ابعد من ذلك ونسأل ذاكرتنا: من هو اللبناني؟ بل لنطرح السؤال الذي لا يرد كثيرا: من هو الفلسطيني؟.

هل نحن مطمئنون إلى الصورة النموذجية العالقة بأذهاننا والموروثة من ثقافة عامة تشربناها منذ الصغر او تلك التي استخلصناها بوعي أم من دونه من تجارب عشناها في حياتنا، ام من مقولات ترددت ومازالت تتردد واحتفظنا بها وبتنا نتداولها باعتبارها مسلمات...؟ أي الأجوبة التي يمكن أن تسعفنا بها الذاكرة الآن عن سؤال الهوية هذا...؟ هل ستقفز إلى أذهاننا الصورة التي قولبها الإعلام عن كل هؤلاء وعنا نحن ايضا، ام ان الجواب أكبر من هذا التبسيط...؟

انه واحد من اكثر الاسئلة الشائكة التي تواجهنا منذ فترة ليست بالقصيرة. أميل إلى هذا التحديد «منذ فترة ليست بالقصيرة»، لأن سؤال الهوية يبدو مثل المارد الذي استيقظ من الرماد في العقدين الماضيين على الاقل واستحوذ على الذاكرة الجماعية للعالم بأسره وبات يحرك هذا العالم: حروب هويات على نحو نموذجي تارة وصراعات مستعرة تنتظر الشرارة في وجه آخر.

ادرك مثلما يدرك الكثيرون وجاهة الاستدراك الذي يمكن ان يصل إلى حد الاعتراض على سؤال الهوية الوطنية للبحرينيين، لكن البحث في الهوية الوطنية وطرح الأسئلة عنها لا يخلو من وجاهة ايضا لأنني أدرك بحق مثلما يدرك الكثيرون (لربما بإلحاح أكثر) ان هويتنا الوطنية لحق بها من التشويه والتشظي ما بات يستدعي اعادة صوغ مقوماتها بوعي استثنائي لا بمقولات مدرسية ولا بهتافات في مسيرة أو تظاهرة ولا حتى بمقولات حصرية رائجة في خطاب المثقفين والسياسيين. لن اتردد في القول انها مهمة يومية.

من هو اللبناني؟ هل هو الكاثوليكي الماروني ام المسلم السني ام المسلم الشيعي ام المسلم الدرزي أم الروم الكاثوليك ام الارثوذكس ام السريان ام الارمن؟ مم تتشكل الهوية اللبنانية...؟ هل من الانتماء الديني او الطائفي ام من العيش في حيز جغرافي واحد، ام ان الثقافة هي التي تحدد الهوية الوطنية لأي شعب...؟ هل يمكن ان تصاغ الهوية على نحو قسرى مثلا؟.

أبسط ما يمكن ان يقال هنا هو إن الهوية نتاج تعايش. لكن التعايش على رغم جوهزه السلمي، يبقى عنصرا نسبيا ايضا لأن التعايش مجردا لا يمكن ان يصوغ هوية وطنية جامعة ومتماسكة كما ان عناصر تخريبه سهلة جدا ومتاحة. ان الهويات باتت تتشكل منذ نهاية القرن التاسع عشر على الاقل بمزيج معقد من العناصر والمقومات هي خليط من السياسة والثقافة والدين واللغة والانتماءات الصغيرة.

دعوني افصح عن قناعة مازلت متمسكا بما حتى اليوم بقوة. ان الناس عندما تترك لتتدبر امور حياتها اليومية وعيشها دونما وصاية، بامكانها ان تقدم نماذج اقوى وأكثر دفئا وصدقا من اي صيغة يمكن ان يقدمها تنظير سياسي او ثقافي. ان ذاكرتنا تختزن آلاف الصور والامثلة والتجارب العملية في تشكيل هوية وطنية وهي امثلة مازالت تنبض حتى اليوم.

والسؤال عن مقومات هويتنا الوطنية قد لا يستدعي تنظيرا سياسيا بقدر ما يتطلب احساسا بالحياة اليومية التي نتشارك فيها في الازقة والايحاء والشوارع والمدارس والاسواق، من مواقع العمل إلى المؤسسات المدنية والسياسية وكل مكان وصولا إلى الصورة والقناعات التي سنعمل على تركيب اجزائها في أذهاننا لشكل هويتنا الوطنية.

في هذا المكان (مأتم بن خميس) امام هذه المنصة التي اتحدث منها وقبل 46 عاما، اجتمع عدد من مثقفي البحرين وشخصياتها ووجهائها ووضعوا مقاربة مبكرة لصوغ هوية وطنية جامعة. كانوا شيعة وسنة، من المدن والقرى ومن جميع المنابت الاجتماعية. وعلى مدى عقود تلت، بقيت تلك المقاربة الاولى تصوغ هويتنا الوطنية بقدر فعال من التماسك باعد بيننا وبين ان نطرح مثلما هي الحال الآن سؤالا عن مقومات هويتنا الوطنية، فما الأسباب التي يمكن ان تدفعنا إلى طرح السؤال اليوم؟.

علينا ان نعترف بأن هويتنا الوطنية اصابها التشظي لحساب هويات اصغر وجزئية أكثر... طائفية، قبلية وعرقية ايضا. ما الذي يجمع الشيعي بالسني؟. إنه السؤال الذي يمكن ان يطرح في مصر عما يجمع المسلم بالقبطي وكذلك في لبنان عما يجمع ذاك الخليط من المسيحيين الموارنة والمسلمين المسنة والشيعة والدروز وباقي الطوائف المسيحية الاخرى ايضا، الكاثوليك والارثوذكس والسريان والارمن.

تجمعنا نحن مفردة «بحريني». هذه المفردة مكتوبة في البطاقات، لكن الاوراق الرسمية اعجز من ان تصوغ هوية وطنية جامعة، فهل هو الدين واللغة والعيش على ارض واحدة ام الثقافة ام التاريخ؟ في كل هذا الخليط ثمة من العناصر ما يسهم بفعالية في صوغ الهوية الوطنية وثمة ما يمكن ان يدفعها إلى التشظي.

سنة، شيعة، عجم وهولة على ارض صغيرة، ولكل من هؤلاء عوالم تتقارب وتتباعد وهي مزيج من الإحساس الطبيعي بالاختلاف وثقافات فرعية نمت مثل الفلكلور. ان الثقافات الفرعية مثلها مثل المقومات الاخرى للهوية، بإمكانها أن تدفع إلى تشكيل ثقافة جامعة وذات افق اوسع واكثر رحابة تشكل عنصرا حيويا من عناصر هوية وطنية جامعة، وبامكانها ان تكون أداة لتشظي الهوية الوطنية الجامعة. لكن الثقافة الفرعية لا تتحرك وحدها ولا تصوغ نفسها بنفسها، فهي ليست سوى خليط من الحقائق والمقولات والقناعات والأوهام أيضا. إنهم البشر الذين يصنعونها ويتداولونها، فهم الذين سيقررون في النهاية الوجهة التي يريدون ان تتوجه إليها هذه الثقافة وهم الذين سيقررون ما اذا كانت عنصرا إيجابيا في صوغ الهوية الوطنية الجامعة ام العكس.

لنضع كل هذا جانبا. لن نتمكن من صوغ هويتنا الوطنية الجامعة طالما ان ابن قرى شارع البديع لا يعرف شيئا عن فرجان المحرق ولا اسماء شوارعها ولا مناطقها ولا مساجدها الشهيرة. وكذلك، ابن المحرق أو الرفاع أو الحد ان اشكل عليه ان يعرف مداخل قرى شارع البديع مثلا او الطريق إلى مأتم يريد التوجه إليه لتقديم واجب العزاء إلى زميل في العمل او صديق.

قبل ان اتحدث إليكم، سألت مضيفيي الكرام ونحن في غمرة حديثنا عن مأتم بن خميس واهميته التاريخية، ما اذا كانوا يعرفون المكان الذي انعقد فيه مؤتمر هيئة الاتحاد الوطني في المحرق وهو المؤتمر الذي تلا تأسيس الهيئة في المأتم بأربعة ايام؟ مضيفيّ الكرام لم يعرفوا المكان. المدلول الذي يمكن ان يحمله مثال كهذا جد بسيط: الذاكرة تعاني خللا.

ومن المؤكد ان عددا غير قليل من أبناء المحرق او الحد أو أم الحصم الذين عايشوا سنوات الهيئة أو أبنائهم او حتى احفادهم او حتى اولئك الذين وصلهم شيء عن تاريخ الهيئة في صورة مرويات شفوية أو موثقة (على قلتها)، لا يعرفون مكان مأتم بن خميس على رغم اهميته ومكانته الرمزية. ادرك ان التاريخ بعيد وان الذكرى غائرة، كما ان هذا الفصل من تاريخنا ظل مغيبا من ذاكرة اربعة اجيال على الأقل، لكن العبرة تبقى مهمة: ان نتحاشى الاحادية في الفهم والتعامل مع تاريخنا ومع حاضرنا ايضا ومع ذاكرتنا الجماعية.

يمكن ان نضيف اسئلة اخرى: ماذا يعني لصديقي الشيعي ان اكون انا سنيا شافعيا متحدرا من احد احياء مدينة المحرق؟... وفي المقابل ماذا يعني لي انا السني الشافعي ان يكون صديقي الشيعي أصوليا أم اخباريا ام مقلدا لهذا المرجع الديني او ذاك...؟ لن يعني الكثير على ما اظن، عدا ان الحال ستختلف اذا ما ادركت انا السني الشافعي ماذا يعنيه التقليد والامامة بالنسبة إلى الشيعي ودورها المركزي والحاسم في المذهب، مثلما سيكون مهما ايضا ان يظهر مواطني الشيعي الشيء نفسه حيال مذاهب أهل السنة.

لكن هل سيغير انتماؤنا الذي ولدنا به في الامر شيئا عندما نحاول نحن الاثنين ان نصوغ هويتنا الوطنية معا على نحو جامع ومحصن من التشظي؟. هوية تتجاوز الطائفة والعرق والقبيلة وكل ثقافاتها الفرعية وتصهرها على نحو حميم وفعال ومحصن من التشظي في ثقافة جامعة؟. الثقافات الفرعية هي مكونات لثقافة بحرينية اكثر شمولا، واستيعاب هذه الثقافات الفرعية بأصولها العقيدية، يبدو خطوة مهمة لصوغ ثقافة بحرينية شاملة، ملونة وثرية متآخية العناصر والمكونات.

سيكون مهما ايضا ان يكون حديثنا في الشئون العامة والقضايا التي تطرح على مستوى البلد بأكمله، بعيدا عن كوني سنيا وعن كونه شيعيا او عن كون ذاك من الهولة وأولئك من العجم، اي عن كل تلك الخلفيات التي باتت تحملنا على ان نتعامل مع بعضنا بعضا بوجل وحذر. بعبارة اخرى ان تكتسب المصطلحات والمفردات المدلول نفسه. اي ألا تصبح مفردات مثل «البطالة» او «تحسين مستويات المعيشة» ذات مدلول ضيق. هنا تتبدى خطورة الثقافات الفرعية عندما تتعاكس مدلولات هذه المفردات، اي عندما تكتسب المفردة مدلولها لمواطني الشيعي على نحو يقصرها على صور المعاناة الماثلة امام عينيه وسط شبان القرى، فيما الجاهد انا السني كي اؤكد ان البطالة معاناة وطنية أشمل وان للسنة نصيبا من ويلاتها، كلانا يقود الحوار إلى الاتجاه الخطأ وكلانا في غمرة هذا الجدل نفتقد العنصر الاهم: الحقائق الموثقة عن سوق العمل والأرقام والإحصاءات الدقيقة والحقيقية للبطالة.

إن أمثلتي صغيرة وتفصيلية وقد تبدو ثانوية للكثيرين، لكنني ارى فيها ادوات قياس مثالية حتى للمسائل الكبرى المتعلقة اليوم بالاولويات والقضايا الكبرى واسئلة الهوية والانتماء والثقافة العامة وحتى تفسير التاريخ، ان إلحاحي على تقديم هذه الامثلة مقصود وأعنيه تماما. كيف لنا ان نصوغ هوية وطنية جامعة وان نعطي للجدل السياسي والفكري مدلولاته الوطنية لا الطائفية فيما نحن نجهل بعضنا حتى على مستوى الحياة اليومية وتباعد بيننا ثقافات فرعية نتمترس خلفها عوضا عن ان نصهرها في ثقافة وطنية اشمل؟.

لكن هل يكفينا ان نصوغ هويتنا الجامعة ونغلق افقنا عن الهوية الأكبر، هويتنا المستمدة من انتمائنا إلى وطن عربي يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الاطلسي مجتازا قارتين من الشرق إلى الغرب ومن اسكندرون وزاخو في الشمال إلى القرن الافريقي والصحراء الكبرى في الجنوب؟.

هل سيجعلنا هذا الانتماء إلى هويتنا الأكبر مطمئنين حيال مهمتنا في تحديد مقومات هويتنا الجامعة...؟ سنرتكب الخطأ ذاته الذي نرتكبه منذ وقت ليس بالقصير اذا اغلقنا آفاقنا وتشبثنا بمكون واحد لهويتنا وأسقطنا بوعي ام من دونه حقيقة ان الهوية ليست صيغة جاهزة ثابتة، بل «تتكون وتتحول طيلة حياة الانسان» مثلما يقول امين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة».

ان هذا هو ما يجعلنا نشعر بالانتماء احيانا إلى هوية انسانية اكثر رحابة، وهو أمر نشعر احيانا بأنه يلح علينا أكثر مما نسعى إليه، أي أن ننتمي إلى عالم يصغر يوما بعد آخر، عالم يحتاج إلى الحوار وتبادل المنافع اكثر مما يحتاج إلى الحروب، الحروب التي لا يتم التحضير لها بنجاح إلا على انقاض الهوية الجامعة، اي عندما يتم تفتيت الهوية الأكبر والأكثر رحابة وانسانية إلى هويات اصغر تعزز بثقافات فرعية يتم تطعيمها بروح عدائية حيال الثقافات الاخرى لتصبح في النهاية مزيجا من الاوهام والاحقاد.

علينا ان نحيي اولئك الذين اجتمعوا هنا في هذا المكان قبل 46 عاما. لقد تداعوا إلى هذا المكان واجتمعوا باعتبارهم بحرينيين قبل ان يكونوا شيعة وسنة وقبل ان يكونوا اتقياء ورعين او متقاعسين قليلا في اداء الفروض. كانوا اجرأ منا وأكثر وعيا وحرصا بكثير وهم يظهرون كل هذا العزم والارادة لصوغ هويتنا الوطنية الجامعة على ذلك النحو الفعال الذي جعل الهيئة وتراثها ملاذ ذاكرتنا الآن وهي تحاول ان تستدعي صورا وامثلة لهوية وطنية جامعة محصنة من التشظي.

أطرح اسئلة أكثر مما أقدّم أجوبة، فأنا هنا كي أتحاور لأنني أعتقد بأن الحوار هو الوسيلة الأولى لصوغ هوية وطنية جامعة محصنة من التشظي او حتى الانغلاق ايضا.

اشكر سعة صدركم وصبركم والسلام عليكم

نص محاضرة ألقاها الكاتب في مأتم «بن خميس» في قرية السنابس بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، (بتصرف في ضوء المناقشات التي تلت المحاضرة)

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 103 - الثلثاء 17 ديسمبر 2002م الموافق 12 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً