العدد 1044 - الجمعة 15 يوليو 2005م الموافق 08 جمادى الآخرة 1426هـ

القانون غير المكتوب

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

أخطأ المقاطعون برفض تعاملهم مع البرلمان بحجة أنه من ثمار التعديلات الدستورية التي لم يقروها لأنهم حرموا أنفسهم من هامش حركة ضروري في العمل السياسي. وبالمقابل لم تفعل الحكومة والمشاركون طيلة الأعوام الثلاثة الماضية سوى تأكيد أن بإمكان المقاطعين طرح وجهات نظرهم من داخل البرلمان وليس خارجه.

وعلى هذا فقد تمحور الخطاب الحكومي وخطاب التيارات المشاركة حول تأكيد أن الطريق مفتوح أمام الجميع للمشاركة في البرلمان. كانت وجهة النظر هذه في معرض إلحاحها تؤكد أن المشاركة مجدية ويمكن أن تأتي بالنتائج.

لكن هل صحيح أن الحكومة والنواب الذين أوصلتهم صناديق الاقتراع في انتخابات العام 2002 يريدون للمقاطعين أن يحملوا وجهات نظرهم بشأن الدستور إلى داخل قبة البرلمان والعمل من هناك وفق القنوات والأدوات التي يوفرها الدستور؟

في كل المحطات التي شهدنا فيها تأزما وتأزيما بين المعارضة/المقاطعة وبين الحكم، كان مجلس النواب يهرع دوما لتأكيد الموقف الذي تم التوافق عليه: البرلمان هو الجهة الوحيدة المخولة دستوريا بحث التعديلات الدستورية.

على هذا النحو، أصبحت تجربة البرلمان لدينا محكومة بمعادلة تتسم بالتحدي تقوم على إثبات جدوى المشاركة وتأكيد أن ما تم من إصلاحات على رغم كل التحفظات يمكن البناء عليه مقابل وجهة نظر معاكسة تماما.

لقد اعتبر المقاطعون الأمر محسوما سلفا، فهم يكررون دوما أن هذا برلمان عاجز عن أداء مهمته نتيجة القيود المفروضة عليه في الدستور. أما الحكومة فلم تفعل بعلاقتها المتأزمة مع المجلس سوى تأكيد هذا العجز وليس لنا هنا من استدلال سوى شكاوى النواب أنفسهم وحصيلة ثلاث أعوام من عمر المجلس.

إننا نتحدث عن مرحلة انتقالية بكل المقاييس، المرحلة التي تستدعي تطويرا تشريعيا لترسيخ المبادئ الجديدة التي حملها المشروع الإصلاحي، أي ترسيخ الحريات، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية، عدالة توزيع الثروة ووضع أسس إصلاح اقتصادي ورفع مستوى الأداء الاقتصادي وشفافيته وتحسين مستويات المعيشة. إن الأداة الوحيدة لمثل هذا التطور سيبقى البرلمان. لكن معادلة التحدي تلك دفعت بالأمور إلى مسار آخر، مسار أثمر بالنهاية عن "ميزان ضعف" شمل الجميع. فلا البرلمان قادر على أداء دوره، ولا الحكومة أثبتت أنها بوارد ترسيخ الحريات والمشاركة الشعبية، والأمر لا يتعلق بالنيات بل بمشروعات القوانين التي تقدمت بها وهي كافية للحكم على توجهاتها، فالحريات مثلما تراها مشروعات القوانين ليست سوى عبء وجملة من التصرفات غير الحكيمة التي تستدعي الضبط الصارم. النتيجة: "حال من التأزم والمراوحة".

لاحت فرصة ثمينة في الأفق عندما تداعت تسع جمعيات سياسية للتشاور بشأن قانون الجمعيات السياسية. وكان للأمر أن يكون عاديا لولا أن هناك ما يستوقفنا فعلا في تلك الخطوة.

الأول، هو العدد الكبير من الجمعيات التي قررت للمرة الأولى التنسيق فيما بينها بشكل عملي لإعداد مقترحات بديلة للقانون أو تعديله. والثاني، أن هذا العدد من الجمعيات يضم جمعيات مشاركة ولديها نواب بالبرلمان تنسق مع الجمعيات الأربع المعارضة التي قاطعت الانتخابات وجمعيات أخرى.

الأمر الآخر، هو أن هذه الجمعيات التسع مضت إلى ما هو أكثر من إعلان موقف من نسخة القانون المعروضة في البرلمان وصاغت مسودة قانون بديل اعتمد أساسا على مسودتين قامت بإعدادهما جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي "3 نواب بالبرلمان" وجمعية العمل الوطني الديمقراطي "مقاطعة". إنه ذلك النوع من التفكير الإيجابي الذي بقينا نؤكد الحاجة إليه زمنا طويلا. أما قراءة المسودة البديلة التي أعدتها هذه الجمعيات تحت اسم "قانون التنظيمات السياسية"، فلا يمكن أن تفضي بنا إلا إلى الوقوف أمام مستوى من التفكير العقلاني المتزن الذي لا يستبق الأمور ولا يغالي أبدا في تخطي الظروف الراهنة، لكن من دون أن يغفل عن المستقبل أيضا.

كانت هذه فرصة تاريخية للخروج من "معادلة التحدي" تلك، لكن الحكومة والنواب الذين صوتوا لصالح مشروع القانون بشكله الراهن لم يفعلوا سوى أن أضاعوا على البلاد والشعب فرصة تاريخية للتقدم وحلحلة حال التأزم تلك. بل يؤسفني أن أقول إنهم أسهموا في تعميق هذه الحال أكثر.

الرسالة الوحيدة التي قرأها الجميع من تمرير هذا القانون واضحة لا تقبل اللبس: "لا فائدة ولا أمل".

توافق الجمعيات التسع من منظور أشمل يمثل توافقا عقلانيا نادرا في الحياة السياسية المستجدة لدينا القائمة على الخطاب أكثر من الضرورات العملية. وفي بعده العملي كان التوافق مشروع جسر بين المقاطعين والمشاركين والحكومة. لكن تم هدم أول أساسات هذا الجسر بهذا القانون الذي لا يرى في التيارات السياسية بما فيها تلك المشاركة والمؤيدة للحكومة سوى مجموعة من القاصرين الذين يحتاجون إلى الضبط والرقابة المستمرة.

قانون مليء بالمفارقات والتناقضات التي تفصح عن هذا الميل والخاصية البحرينية الصميمية في تفصيل القوانين بناء على الاستثناءات لا المبادئ ومتطلبات المستقبل. إن هذا أكبر داء يمكن أن يصيب المشرعين في أي بلد والخطورة تتبدى من جديد في أننا نعيش مرحلة انتقالية، فإذا بالبرلمان يشرع فيها وبالتصويت الحر كل عوامل التأزيم.

بالإمكان المضي قدما في نقد مشروع القانون وتناقضاته وكل عوامل التأزيم التي يتضمنها، لولا أن في ذهني يتداعى ما هو أكثر من ذلك. هل سمعتم عن القوانين غير المكتوبة؟ يسمونها الأعراف أحيانا ويسمونها التقاليد وفي أفضل الأحوال انها قوانين غير مكتوبة لكنها فاعلة. إقرار هذا القانون بهذا الشكل وهذا الميل للتفصيل والبناء على الاستثناءات، ليس سوى استجابة لقانون غير مكتوب لدينا: ألا يحصل من يطالب على مطلبه. والجمعيات التسع وفق هذا القانون ارتكبت الخطيئة في أنها فكرت بشكل إيجابي وعقلاني وقدمت مشروع قانون. النتيجة هي نفسها: "لا فائدة لا أمل". هذه على الأقل الرسالة الأهم التي وصلت إلى الجمعيات التسع ولنا جميعا. وفيما خص المقاطعين فهي أكثر بلاغة ووقعا. بعد هذا علينا أن نتساءل عما إذا كانت هناك نية حقيقية لإقناعهم بالمشاركة وهم الذين حصلوا على الجواب الذي يؤكد منطقهم منذ أول اختبار

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1044 - الجمعة 15 يوليو 2005م الموافق 08 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً