العدد 1051 - الجمعة 22 يوليو 2005م الموافق 15 جمادى الآخرة 1426هـ

ما تبقى من نصف الكأس

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

متى نتمنى من أعماقنا أن نكون مخطئين؟ في حالة واحدة فقط: عندما يتعلق الأمر بـ "أسوأ المخاوف". ومتى نتمنى من أعماقنا أن نكون محقين؟ في حالة واحدة فقط: عندما يتعلق الأمر بـ "أفضل التوقعات".

أسوأ المخاوف تحققت الآن بعد ثلاث سنوات من الاستعراضات والتمارين العملية وكل أشكال الجدل العقيم الخالي من الذكاء.

عشية إصدار دستور ،2002 ترددت هذه العبارة كثيرا: "ملأنا نصف الكأس فلنعمل معا على ملء النصف الآخر الفارغ". إنها عبارة استدراكية لكنها كانت دعوة للتلاقي في منتصف الطريق. محطة في منتصف المسافة ما بين الرفض الكامل لما تحقق وما بين الطموح الحقيقي الذي يراودنا جميعا فيما حمله المشروع الإصلاحي من عناوين أساسية: الحرية، العدالة، المساواة.

أولئك الذين لم تقنعهم نصف الكأس المملوءة "محقون" والفضل ليس لهم لأنهم ظلوا غارقين في التشاؤم ويرددون أسوأ المخاوف. الفضل للحكومة بجدارة ثم للبرلمان.

إننا أمام واحدة من تلك الحالات الفريدة في التاريخ التي يجمع فيها البرلمان والحكومة معا على تحقيق أسوأ المخاوف مباعدين بإصرار بين الناس وبين أفضل التوقعات. وفي المراحل الانتقالية كهذه التي نعيشها، لا يمكن للناس إلا أن تتوقع الأفضل. لكن هذا يتطلب شرطا أساسيا: أن نظهر أفضل ما فينا وأفضل ما لدينا.

طيلة السنوات الثلاث الماضية لم نظهر أفضل ما فينا. لا الحكومة ولا البرلمان ولا المعارضون ولا النخب. إن الحكم ليس قطعيا طبعا، وطيلة هذه السنوات يمكن إحصاء بعض مظاهر أفضل ما فينا لكنها بقيت ضائعة أمام هوس استحوذ علينا جميعا. هوس صاغته معادلة حكمتنا منذ مطلع 2002: "معادلة التحدي". كان كل طرف يسعى لإثبات وجهة نظره مهما كلف الأمر، فلم نشهد سوى اختبارات القوة بين الحكومة والتيارات السياسية. وإذا ما وضعت الأطراف جميعا في كشف الحساب، فإن الحكومة هي الطرف الأقوى في هذه المعادلة لكنها للأسف أكثر من أثبت أنها لا ترى في نصف الكأس الملآن الذي حمل لنا تباشير الديمقراطية إلا عبئا ثقيلا وصداعا يتعين التخلص منه بكل الطرق.

قيل للمقاطعين: ادخلوا البرلمان واطرحوا تعديلاتكم للدستور وشاركوا في صوغ القوانين. اليوم مع تصديق البرلمان على قانون الجمعيات ثبت أن هذا الكلام لا يعني شيئا لسبب بسيط هو أنه جعل أسوأ المخاوف حقيقة وقضى على أفضل التوقعات. فالتبعات لا تعني المقاطعين وحدهم وإن كانوا أكثر من سيشعر بوطأتها الثقيلة، بل بات يعني الجميع بمن فيهم المشاركون. وفي هذا البلد ثبت تماما أن لا أحد يفكر على المستوى الوطني بل على مستوى أقل وأصغر من ذلك بكثير. لقد قال أحد أعضاء مجلس الشورى إن المقاطعين لا يحق لهم الاعتراض على القانون لأنهم لا يعترفون بالمجلس. رد عليه عضو آخر: "نحن لكل البحرين".

الفارق بين العبارتين جلي وواضح ولا يحتاج إلى الكثير من العناء لكي ندرك نوع الهوس الذي لفنا جميعا.

بالتصديق على قانون الجمعيات تكون حلقة التراجع قد أضيف إليها قيد ثقيل آخر. حلقة فيها قانون الطباعة والصحافة والنشر. وعلى رغم كل التطمينات وتشكيل اللجان وتسلم المقترحات، بقي القانون في جوهره كما هو بعد التعديل: قانون مقيد يجعل الصحافة استثمارا باهظ الكلفة ولا يريد إلا لأصحاب الملايين أن ينشئوا الصحف. يقصر حق إنشاء الصحف كأداة لحرية التعبير على هؤلاء حارما كل الشرائح الاجتماعية الأخرى من هذا الحق. الأسوأ من هذا هو أنه يشكل عقبة أمام تطور المستوى الاحترافي للصحافة لأنه يكرس رؤساء التحرير لا كمخططين بل رقباء بجدارة، مسئولين عن كل كلمة تنشر في صحفهم ويكرس قانون الخوف داخل الصحف.

هناك المرسوم 56 والجدل من حوله معيق ومازال يشد أقدامنا بقوة إلى الماضي الذي نسعى إلى التعافي منه كأحد أفضل التوقعات.

والآن جاء قانون الجمعيات ليثبت بجدارة كيف أننا نصر على ألا نظهر أفضل ما فينا. قانون يحركه هاجس الرقابة ويتعامل مع العمل السياسي باعتباره منتديات للنقاش فحسب ويغفل عن حقيقة تاريخية مهمة وحيوية. كانت المعضلة التاريخية أن العمل السياسي ظل تحت الأرض تحركه النوازع الانقلابية. وعندما اقتنعت التيارات السياسية بانتفاء الحاجة إلى العمل السري بما يعنيه ذلك لها من تكريس نهائي للشرعية السياسية في البلاد، جاء هذا القانون ليقول بصريح العبارة إن العمل السياسي العلني لا يعني أكثر من ندوات ولقاءات اجتماعية وفناجين قهوة وشاي. ومن أجل احكام الطوق، دفع بالشباب إلى خارج العمل السياسي بطريقة تذكرنا بسياسة "تجفيف المنابع". تعامل مع السياسيين الذين يطلب منهم دوما المشاركة في مسيرة الإصلاح كقاصرين يحتاجون إلى الرقابة والضبط عندما حرم عليهم حتى الاتصال بالأحزاب والمنظمات والمشاركات الخارجية إلا بإذن ولي الأمر تماما مثلما يفعل الآباء مع أطفالهم.

ليس هذا فحسب، بل عندما استدرك هؤلاء وخصوصا المقاطعين شيئا من الحس السليم والعقلانية وتقدموا خطوة واحدة باقتراح قانون للتنظيمات السياسية، تم دك وهدم هذا الجسر الذي كان من شأنه جسر الهوة وتخفيف الهوس الذي يستحوذ علينا من أساسه. كانت الرسالة واضحة: لا نريد أية مشاركة منكم. مرة أخرى إصرار على جعل أسوأ المخاوف حقيقة.

أما البرلمان، فقد راح يقدم إلينا البرهان تلو الآخر على أنه ليس في وارد ترسيخ الحريات والبناء على المكاسب "لملء نصف الكأس الخالية" والعبور بالبلد من مرحلة انتقالية إلى مرحلة تتأسس فعلا على ما جاء في المشروع الإصلاحي: الحرية، العدالة، المساواة.

إنها واحدة من الحالات المتكررة في التاريخ التي يقدم فيها نواب منتخبون على التضييق على الحريات وقضم الهامش المتاح منها والانقضاض على ميراث مجتمعي قديم وراسخ من التسامح واحترام الحريات الفردية بما يذكرنا بأسوأ المخاوف: "مرشح واحد، صوت واحد لكن لمرة واحدة فقط".

هستيريا التضييق على الحريات تلك كانت تلح على تمرير قانون آخر سمي "قانون التجمعات" ولا ندري ما إذا كانت العناية الإلهية أم عوامل بشرية هي التي دفعت به إلى التأجيل، لكنه يبقى برهانا آخر على ما ينتظرنا في حلقة التراجع. الحلقة التي تلح علينا في طرح السؤال عما تبقى من نصف الكأس المليئة

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1051 - الجمعة 22 يوليو 2005م الموافق 15 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً