العدد 1065 - الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ

البحث العلمي

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في السنوات الأولى من التسعينات، أدخل ابني المستشفى ست مرات خلال عامين. في المرات الست وغيرها التي أخذته إلى المستشفى، كان التعامل مع حالته أكثر من جيدة بل ممتازة. توضع كمامة الأوكسجين على وجهه بسرعة ويتم تركيب الأدوية الأخرى بسرعة أيضا ويبقى تحت المراقبة، وفي النهاية يقرر الأطباء إبقاءه في المستشفى لمزيد من العلاج والمراقبة.

العناية في المستشفى ممتازة للغاية. كل ساعة تطرق إحدى الممرضات باب الغرفة لكي تغير الأدوية وتتأكد من تدفق الأوكسجين أو تغير المضخة. كما يزوره الطبيب المناوب كل ساعة أو ساعتين على الأكثر. يقضي أياما في المستشفى وسط هذه العناية الفائقة إلى أن تتحسن حالته ويعود إلى المنزل. لكن مع هذه العناية الفائقة تبقى مشكلة بسيطة.

في كل مرة آخذه إلى المستشفى، يتعامل معه الأطباء وكأنه حالة جديدة. يتعين علي أن أشرح المشكلة من البداية، من نقطة الصفر. علي أن أعيد سرد تاريخ المرض من البداية وبكل التفاصيل. بل ان الأمر نفسه يتكرر مع الأطباء المناوبين. فمع كل طبيب يتعين علي وعلى والدته أن نشرح من جديد. كتبت هذا في التسعينات وتساءلت: أين تذهب المعلومات في ملف المريض؟. وهل يتم الاستفادة من هذه المعلومات؟ لم أجد إجابة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

لكن لنتخيل الأمر على نحو آخر: أن يأتي الطبيب المناوب وقد قرأ كل المعلومات المتعلقة بالحالة من حاسوب موجود في الجناح مرتبط بقاعدة بيانات مركزية. قاعدة بيانات تتغذى من قسم الطوارئ ومن عيادات الاستشاريين الصباحية ومن المراكز الصحية ومن العيادات الخاصة أيضا.

هذه صورة متخيلة، وعلى الوزارة الآن أن تجيبنا على سؤال واحد: ماذا تنوي أن تفعل مع الملفات المتراكمة على الأرفف في مجمع السلمانية؟ هل تنوي تحويل كل بياناتها إلى الحواسيب لكي يصبح لكل مريض قاعدة بيانات إلكترونية؟ أم سنحظى بملفات إلكترونية بيضاء جديدة؟

هذا ما نفترضه طالما أن البطاقة الذكية التي تعتزم الحكومة إصدارها تضم من بين ما تضم الملف الصحي لكل مواطن.

قبل أيام، كان صديق لي يستعيد معي بعضا من معاناته مع مرض السكلر. أجرى عملية جراحية في الثمانينات وعندما ذهب قبل عامين إلى الطبيب سأله عما إذا كان الأطباء أزالوا المرارة في العملية الجراحية الأولى فلم يعرف أي منهما أي جواب. لم يكن أمام الطبيب أية معلومات موثقة في ملفه الصحي تفيد ما إذا كان الأطباء أزالوا المرارة أم لا. ولم يكن أمام الطبيب في النهاية سوى أن أقترح عليه أن يعيد فتح شق العملية الأولى لكي يتأكد فقط.

قضية ملفات المرضى هذه تطرح سؤالا مازال المسئولون عن الخدمات الصحية يشيحيون بوجوههم عنه: هل تلعب الملفات دورا أساسيا في الخدمات الصحية؟ متى يكون دور الملف حاسما ومهما؟ ماهي قيمة الملفات في الخدمات الصحية؟

لا أبحث عن تلك الأجوبة التي ستحيلني إلى أبسط إجراء متعارف عليه، واختبرناه عمليا: أن يطلب الطبيب ملف المريض أثناء المعاينة. هذا يحدث في حال المواعيد فقط وحتى في هذه الحال فإن القيمة الحقيقية للمعلومات تبقى معطلة.

ضعوا هذا جانبا ولنتساءل: ما الأمراض المستوطنة لدينا. ما أكثر الأمراض انتشارا في بلدنا الصغير؟ هناك دعابة متداولة تقول إنه ما إن تبلغ الأربعين إلا ويصيبك واحد من اثنين: السكر أو ضغط الدم أو كليهما. الدعابة هنا تنطوي على مرارة. وماذا عن السرطان؟ وأمراض القلب؟

وقبل شهور خلت، تابعنا ذلك الاستعراض الذي سميناه "غاز المعامير". اشتبك الجميع بما فيهم وزارة الصحة في جدل واتهامات وشكاوى ونفي، ونفي مقابل... لكن أحدا لم يقدم دليلا علميا واحدا يدعم فيها وجهات نظره. لم يكن هناك أي دليل علمي يستند إلى بحث أو تحليل مختبري. السبب واضح في غياب هذا النوع من الأدلة: "نحن لا نملك مركزا للأبحاث". هل بقي شيء آخر لكي تكتمل صورة الخدمات الصحية التي تقدم بعقلية التسيير اليومي؟

الحال مع الخدمات الصحية أننا نملك كفاءات ومعدات جيدة ومستشفيات جيدة أيضا "ربما تحتاج لتحسينات" لكن الخدمات هذه يغلب عليها طابع التسيير اليومي. أي ان مركز السلمانية الطبي والمنشآت الصحية الأخرى ليست سوى عيادات كبيرة تعمل يوما بيوم. ليس لها ذاكرة وليس لمرضاها تاريخ ولا تقاليد تتراكم ولا خبرات تتراكم. بل العكس، التضخم في أعداد المرضى والمراجعين "كنتيجة طبيعية لتزايد السكان" يضاعف من وطأة المشكلات حتى الصغيرة.

هذا أوجد حالا للتغيير وكانت الحلول مطلوبة، لكن المقاربة التي ظفرنا بها هي فتح الباب أمام الطب الخاص والمستشفيات الخاصة.

الآن دعونا نتساءل: هل لدى وزارة الصحة موازنة خاصة للأبحاث؟ أنا لا أقصد بالأبحاث تلك الاستمارات التي توزع على المرضى لمعرفة مدى انتشار مرض السكري أو العادات الغذائية أو انتشار الرضاعة الطبيعية أو معدل تردد المريض الواحد على المستشفى أو المركز الصحي. أقصد البحث العلمي عن الأمراض المستوطنة، البحث العلمي القائم على المختبرات ذات الكفاءة العالية. تلك المختبرات التي تتبع حالات البحث لسنوات معينة قبل أن تخلص للاستنتاجات التي يقترحها البحث. البحث العلمي الذي سيقدم لنا إجابات عن أسباب انتشار مرض السرطان مثلا ولماذا تصل الإصابة بسرطان الثدي إلى نحو 40 حالة شهريا، وفق إحصاءات وزارة الصحة نفسها. ولماذا ينتشر مرض السكري والضغط إلى هذا الحد الذي تحول فيه إلى مادة للفكاهة. هل لدينا نحن البحرينيين والخليجيين عموما خواص جينية تساعد على هذا الانتشار؟ أم ان في بيئتنا خللا آخر يؤدي إلى مثل هذا الانتشار؟

ألم يحن الوقت بعد لكي ينشأ مركز وطني للأبحاث الصحية وعلوم الأمراض؟ مركز تسهم في موازنته الحكومة والقطاع الخاص والمستشفيات الأخرى كالمستشفى العسكري والمستشفيات الخاصة الأخرى. البدائل والخيارات هنا كثيرة، فمن الممكن أن ينشأ المعهد هذا كفرع إقليمي لمعهد أو مركز أبحاث دولي متقدم. ومن الممكن أن يكون نواة لمعهد على مستوى دول الخليج.

الأهم من إنفاق الأموال على العلاج والمستشفيات والأجهزة هو البحث عن أسباب الأمراض نفسها وانتشارها وهذه الخدمات التي تنفق عليها ملايين الدنانير سنويا ستبدو غير ذات قيمة إذا لم تستند إلى قاعدة علمية متينة من البحث العلمي التي يمكن أن تخلق خبرات جديدة في مكافحة الأمراض وتحسين صحة السكان

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1065 - الجمعة 05 أغسطس 2005م الموافق 29 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً