العدد 1100 - الجمعة 09 سبتمبر 2005م الموافق 05 شعبان 1426هـ

لا تخشوا رأيهم

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في يوم خريفي مثل هذا، كانت جدتي تمسك بيدي تقودني من منزلنا في شارع الشيخ عبدالله بن حمد في أحد أحياء جنوب المحرق إلى مبنى أبيض جميل تغسل جدرانه أمواج البحر. كان ذاك يومي الأول في المدرسة، وإذ كنت طفلا شغبا كثير الحركة، أدخلني الأهل المدرسة صغيرا لم أكمل السادسة. حرص والداي على تلقيني المطلوب: "إذا سألوك، هل تطال أذنك، مد يدك من على رأسك بأقصى ما تستطيع لكي تصل إلى أذنك". ولما كانت فاطمة بنت محمود على دراية ببعض حيل اختبارات الذكاء في ذلك الوقت، فقد أجرت لي اختبارا بسيطا. سألتني: أين أذنك؟ سارعت لمد يدي اليسرى كي أصل إلى أذني اليمنى من فوق رأسي، لكن يدي توقفت في منتصف المسافة وأسرعت ممسكا بشحمة أذني اليسرى. طرحت وصيتها: حاذر، ثمة فرق بين "هل تطال أذنك" و"أين أذنك". كان ذلك اختبار الذكاء الشائع لقبول الصغار في المدرسة في ستينات القرن الماضي. وإذ تجدون أنفسكم مدفوعين مع هذه الملاحظة إلى مقارنات طويلة لن تنتهي، فإن الحنين ليس هو ما يحركني بل المدلولات. لنتوقف عند قرار منع الضرب في المدارس الصادر في الثمانينات، لن نتردد لحظة واحدة في وصفه بأنه قرار ثوري. كان ذلك مؤشرا لتغيير كبير في معايير ومفاهيم التربية وخصوصا مفهوم الثواب والعقاب. كانت العصا في أيامنا أكثر من أداة عقاب. كنا نتبادل الروايات المرعبة عن أساتذة ومديرين كانوا مولعين بحمل العصا بل ان بعضهم كان يبالغ بالعناية بها بالزيوت وكأنها سوط. وكانت توضع في أماكن ظاهرة في غرف المديرين والمساعدين، وهي بهذه المعاني كانت تختزل طبيعة علاقتنا بمعلمينا على أفضل وجه: "الخوف". لم يكن المعلمون يفتقدون للسوية، لكن العصا في الثقافة الشعبية السائدة لم تكن نقيصة بل كانت مبجلة أحيانا. كانت أكفنا الملتهبة على أقل خطأ لا تحرك في أهالينا أي مشاعر بغض تجاه المعلمين، بل كانوا يبتسمون ويضحكون إذا ما جئنا للمنزل بأكف محمرة وبكاء قد يستمر حتى المساء. كانت جدتي تقول لمدير المدرسة: "هم أبناؤك، ان أخطأوا وزلوا اضربهم بعصاك... الا تعرف أن عصا المعلم من الجنة؟". أكاد أن أختنق بالعبرات وانا استعيد هذه الصور، استذكر أكفي الملسوعة بالنار وآلام أصحابي الذين كانوا يتلوون من ألم سيصاحبهم لأيام، لكن هذا أصبح قصصا نستعيدها كنوادر أحيانا. وإلغاء الضرب لم يفعل سوى أن أزال هذا البعد الحسي في علاقة التلاميذ بالمدرسين ووجهه نحو بعد يتعامل مع الحواس والملكات أكثر. تغيرت المناهج وتطورت كثيرا إلى حد قد تصيبنا التفاصيل بالدوار، لكن ان كان هناك ما سيدفع إلى البكاء فهو هذا الخيط اللامرئي بين العصا كرمز للخوف في علاقة المدرسين بالتلاميذ في أيامنا وبين خوف من نوع آخر مازال مستحوذا على أروقة المدارس وفصولها. كانت العصا أداة لعقابنا على الخطأ والزلل، التأخير في الحضور، أخطاء السلوك بل حتى أخطاء التعلم وإهمال الفروض المدرسية. اختفى هذا منذ عقود وباتت أخطاء السلوك والتعلم لا تستدعي أكثر من تنبيه الأهل واستدعاء أولياء الأمور ومناقشات اليوم المفتوح. لقد كان حس المبادرة في أيامنا يعبر عن نفسه في وسائل الايضاح أو المشاركة مع مدرس العلوم في تحنيط الحيوانات والطيور أو حتى الإنشاد والتمثيليات في طابور الصباح. اليوم حل عنصر جديد في تنمية مهارات الطلاب: الأبحاث. يطلبونها من الصغار منذ الابتدائية وحتى الثانوية العامة، لكن من الصعب ملاحظة الفارق. صغار الأمس كانوا يجهدون في اختيار موضوعاتهم من المجلات ويقصونها بعناية ويلصقونها على الورق المقوى مع بعض الحواشي والزخارف، وكان هؤلاء قلة في الفصل الواحد. اليوم يرون أبناءهم يفعلون الشيء نفسه، لكن بأقل قدر من المشقة. فيما مضى كان الخوف عنصرا يعتد به في التربية، لكن هذا الخوف تحول مع إلغاء الضرب إلى مكان آخر. ففي الأبحاث التي ينجزها التلاميذ أو طلاب الجامعة أيضا، لن تجد رأيا. فالأبحاث تبدو أقرب للتمارين على جمع المعلومات فقط ولا تتجاوز ذلك إلى تدريب الطلاب على مهارات ذهنية أخرى: التحليل وإدارة الجدل. انهم لا يبدون رأيا في الأبحاث التي ينجزونها بل انها تعامل على أنها فرض. وكلما أمعنت في قراءة الأبحاث، أجد نفسي أتساءل: لماذا لا يطلبون من الطلاب أن يبدوا آراءهم الخاصة بعد جمع كل المعلومات من مصادر شتى؟ ليكن رأيهم مختلفا وليكن ذلك مدخلا للنقاش الواسع في الفصل حول كل وجهة نظر غير اعتيادية. فالمعلم أكثر من يحتاج إلى وسائل الاقناع لا التلقين. أي الفارق بين أن يكون المنهاج ملموسا وذا بعد عملي وبين أن يكون تجريدا نظريا بالنسبة للطلاب لا يتطلب أكثر من الحفظ. ربما يمتلك التربويون أجوبتهم، لكنني إذ أستغرق في المقارنة والتأمل أجد نفسي مدفوعا لتجاوز كل التفسيرات إلى ما هو أبعد: علاقتنا نحن بالرأي الآخر. هل نتقبل نحن رأيا مختلفا من الصغار؟ لا ينفع التباهي هنا ولا استدعاء المقولات من كتب التربية الحديثة، فإن كان هناك ما نخشاه فليس سوى أن يخالفنا أبناؤنا الرأي. ولكي نتمثل الأمر على نحو أدق، تصوروا أن يأتي طالب أو طالبة برأي حول شاعر تدرس قصائده في منهاج اللغة العربية. ان يكتب مثلا: ان صوره الشعرية أقل جودة من صور شاعر آخر ويمضي في مقارنة نقدية بين الشاعرين. قد يبدو مغاليا وقد لا يلم بأدواته النقدية، لكن لا اتصور أن رد فعل المعلم هنا هو زجره ومطالبته بالالتزام بما في المقرر بل إدارة نقاش خلاق معه بمشاركة بقية الطلاب. ربما انها صورة متخيلة حتى الآن وهذا يدفعني للتأسي قليلا واطلاق تنهيدة والترحم على والدي ووالدتي وجدتي وكل الآباء والأمهات من ذلك الجيل. هل سأبدو مغاليا إن اضفت هذه الصيحة: "دعوهم يعبرون عن رأيهم... لا تخشوا رأيهم... عودوهم على إبداء رأيهم... فإذا كنا قد تعلمنا بالتلقين والخوف، فقد آن الأوان لكي يتعلم أبناؤنا متحررين من الخوف... الخوف من إبداء رأيهم".

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1100 - الجمعة 09 سبتمبر 2005م الموافق 05 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً