العدد 1131 - الإثنين 10 أكتوبر 2005م الموافق 07 رمضان 1426هـ

عناد الأرقام وعنادنا

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

ان أحصينا أكثر الكلمات المتداولة منذ 3 اعوام، ستحيلنا كل المفردات المتكررة إلى جذر اساسي: الهموم المعيشية للمواطنين. تتكرر العبارة بتنويعات شتى: رفع المستوى المعيشي للمواطنين، تحسين مستويات المعيشة، الهموم المعيشية للمواطن، محاربة الفقر. كلمة مفتاحية في الخطاب الحكومي تعيد تذكيرنا دوما بوظيفة أساسية لأية حكومة في العالم. كلمة مفتاحية في خطاب المعارضة والتيارات السياسية بمختلف تلاوينها. المفتاح في أشد وجهات النظر تطرفا واكثرها اعتدالا. اللازمة المتكررة على لسان الكتاب، الكلمة المفتاح في التحليلات الاقتصادية. هذه الأخيرة توجت بخطة اصلاح اقتصادي شامل هي تلك التي اقترحتها شركة "ماكينزي" وتم تبنيها كبرنامج عمل للحكومة للسنوات المقبلة. هل نسينا احدا؟ آه نعم البرلمان. الكلمة التي تتردد اكثر من مفردة "الحرية" تحت قبة البرلمان. فلقد خاض النواب حملاتهم الانتخابية و"تحسين مستويات المعيشة" هي كلمة السر في برامجهم الانتخابية. ومضى النواب خطوات ابعد من الوعود عندما راحوا يكثرون من الاقتراحات بصرف المكافآت من كل نوع قبل ان يعيدهم عناد الارقام الى حدود 200 دينار صرفت بعد مشقة لموظفي الحكومة. انها الغاية والمنتهى، فما الذي يريده الناس اكثر من العيش الحسن لكي يتغلبوا على كل انواع الانحراف في التفكير والسلوك. فالتطرف والغلو يرد لتردي الاحوال المعيشية "لا تطلب ممن لا يملك قوته وقوت اولاده ان يكون عقلانيا". والسرقات ترد في جزء كبير منها إلى الحاجة "لا تطلب من فقير ان يرضى بقدره فيما الآخرون يبدلون السيارات والهواتف النقالة كلما عن لهم". ومع هذا فإن 450 الفا من السكان وصفوة نخبهم الاجتماعية مازالوا لم يجترحوا من حلول سوى المساعدات. للحكومة صيغتها: برنامج قديم لمساعدة الأسر المحتاجة يعتمد على مساهمة من الحكومة ومن المتبرعين. الموازنة فهي في حدود 3 ملايين دينار، اما المساعدات فلا تكفي، فهي في النهاية مساعدة. برنامج الأسر المنتجة. واذ تصاعد شره الاستهلاك في السنوات الاخيرة، فقد وجدت بعض الأسر المحتاجة طريقها من خلال مهارات النساء والعجائز. تزويد المطاعم بوصفات خاصة من الطعام أو الحلويات، تميز في صنع البخور. أي تلك المهارات الصغيرة التي كانت تنتظر سوقا وطلبا يتصاعد من المستهلكين. أما جغرافية الفقر فهي شاملة، صناديق خيرية نمت وترعرعت في محافظاتنا الخمس متساوقة مع ازدهار قطاعات اخرى كالقطاع المالي وقطاع التشييد والخدمات. الأرقام قادرة على رسم لوحة بيانية تظهر أن خط النمو وخط الفقر كانا متلازمين طيلة العقدين الماضيين، يفترقان ويتقاطعان ويصعد الأول ويهبط الثاني لكنهما متلازمان. لكن هذه هي احدى حقائق الاقتصاديات المفتوحة والسوق الحرة، فمع كل ازدهار أو انتعاش أو حتى اصلاح أو تصحيح اقتصادي، ثمة من سيترك في الخلف. لكن الفارق سيبقى في ادراك هذه الحقيقة سلفا والاحتياطات التي يتعين ان تتخذ سلفا لحماية طبقات اجتماعية ستترك وراء. من الواضح ان هذا لم يكن بالحسبان او لم يكن خيارا اساسيا واضحا طيلة السنوات الماضية. لكن عناد الحقائق الاقتصادية والارقام لا يضاهيه الا عناد البحرينيين واصرارهم على التجريدات النظرية، أي تلك الصيغة المخففة للجدل العقيم والغرق في متاهات الايديولوجيا بعيدا عن الذكاء العملي والحس السليم. اكثر ما يكشف هذا هو رد فعل المجتمع حيال المشكلة نفسها. قبل الاصلاحات: عمل خيري تصدت له جمعيات دينية وصناديق خيرية. وتم اعطاء الفقر والحاجة هوية متغيرة. فتعريف الفقير في هذه المدينة يختلف عن تلك والامر يقرره القائمون على الصناديق. واذا ما استوقفتنا حقيقة هذا الانتشار الكثيف للصناديق الخيرية، فلن نظفر بجواب سوى ان مبادرات المجتمع لم تنم بشكل طبيعي لكي تتوج بصيغة على المستوى الوطني. ذات يوم كان هناك اقتراح بدمج الصناديق أو انشاء اتحاد للصناديق الخيرية، ما الذي منع ذلك؟ ليس من جواب واضح. المنطق والحس السليم يقترح ان صيغة كهذه على المستوى الوطني هي الثمرة الطبيعية لنشأة وانتشار الصناديق في كل مدينة وقرية، لكن ما من منطق يمكن ان يبرر هذا التشظي سوى ان فهمنا لمسألة الفقر نفسها والمساعدات وكيفية مواجهته تعاني من خلل جسيم. لم كل هذا العناء؟ لقد اصبح للفقر دين ومذهب ولون وعرق. وتعريف الفقر نفسه بات متغيرا منذ ان دخل موظفون رسميون خانة المحتاجين او العاجزين عن اكثر من مجرد العيش ومنذ ان بات مذهب الفقير هو الذي يقرر كل شيء. اما المساعدات فهي مرجع الخلل الجسيم في فهمنا ومقاربتنا لعلاج الفقر وتحسين مستويات المعيشة. لماذا نقدم المساعدات للمحتاجين؟ في الثمانينات كنت صحافيا شابا امتلئ بالغضب على كل خلل. واذ كنت قد كلفت من قبل مسئولي بأن أجري تحقيقا عن المساعدات، بدأت استقصائي وفكرة واحدة تستحوذ على ذهني: تجار البحرين بخلاء ولا يكترثون لمعاناة الفقراء. وما ان جلست مع احد رجال الاعمال وألقيت بالتهمة امامه، بادر بهدوء الى استخراج اوراق من الدرج وشرع في قراءتها قبل ان يمررها لي. كانت اوراق المحاسبة في الشركة والتي تظهر موازنة الشركة وأوجه الدخل والصرف والانفاق لعدة سنوات. كان فيها بند ثابت متكرر هو بند المساعدات والتبرعات وكان يحتل مساحة لا بأس بها من الجداول لأن قائمة المستفيدين تضم ما لا يقل عن اربع او خمس جهات. سألته: لماذا لا تعلنون عن تبرعاتكم؟ مازال الضيق يرتسم على ملامحه: وهل يتعين علينا الاعلان عن مساعداتنا؟ ليس لنا غرض سوى المساعدة بحد ذاتها وليس اي غرض آخر. كانت تلك سنوات الثمانينات، السنوات التي شاع فيها كتابة اسماء المتبرعين على السيارات المهداة الى المؤسسات الاجتماعية والصحية ونشر صور التبرعات في الصحف والتقاط الصور التذكارية مع الاطفال المحتاجين. أي السنوات التي تحول فيها مساعدة الآخرين ومحاربة الفقر إلى اداة علاقات عامة فعالة. لم يختلف الأمر كثيرا اليوم في ظل الديمقراطية. فالكل مأخوذ بتحسين مستويات المعيشة لكن الارقام وحقائق الاقتصاد مازالت عنيدة والبحرينيون مازالوا يبدون العناد نفسه مع اصرارهم على حصر محاربة الفقر في اكياس الارز والسكر وبضعة دنانير "حق اليهال"

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1131 - الإثنين 10 أكتوبر 2005م الموافق 07 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً