أمامنا أسئلة حرجة محرجة، تدور حول العراق وموقف الدول العربية، والجامعة العربية من التطورات السياسية والصراعات العسكرية الأمنية الدائرة هناك بالتهاب مزعج. .. أسئلة من نوع هل تذكر العرب أخيرا العراق وما يحدث فيه وله، وهل لديهم القدرة على لعب دور ما في إطفاء الحريق، وهل هو دور عربي نابع من إرادة عربية، أم هو دور شكلي في إطار الاستراتيجية الأميركية، التي طالبت الدول العربية أخيرا، ودفعتها دفعا لإيفاد بعثة للجامعة العربية برئاسة أمينها العام عمرو موسى "لإجراء مصالحة وطنية"، وهل يملك عمرو موسى وبعثته بل جامعته القدرة على النجاح! ومن غرائب الأمور أن تصحو الذاكرة العربية من سباتها العميق أو من غيبوبتها الذاهلة، بين الحين والحين على وقع دوي هائل، لكنها صحوة متأخرة دائما تأتي بعد وقوع الحادث، فإذا بها مجرد رد فعل ظاهري! في الأسبوع الماضي، حين كانت تركيا الجارة الآسيوية الإسلامية "العلمانية" تدق باب الاتحاد الأوروبي بقوة، تطلب الالتحاق عضوا عاملا فيه تحتمي به وتستفيد منه، كأول دولة شرقية غير أوروبية بالمعنى الدقيق، كان العرب يناقشون بتردد أو تحت ضغط وإغراء إمكان ولوجهم المتأخر بوابة العراق، الشقيق المذبوح، بعد تغيب متعمد أو تغييب مقصود، منذ استولت عليه الاستراتيجية الأميركية. وحين قرر العرب اقتحام الساحة العراقية بعد تخلف طويل وكسول، وقرروا قبل أيام إيفاد ممثلهم الأعلى عمرو موسى إلى بغداد، كانت الأنباء تتطاير حول عمرو موسى نفسه ومدى استقراره في منصبه، وعن احتمال اعتزاله منصبه الرفيع في مارس/ آذار المقبل، بعد أن ضاق به ليتركه فريسة للتنافس والتجاذب المشكوك في جدواه ومداه. وحين نشطت "إسرائيل" في التدخل السافر في الشئون الفلسطينية، لتشعل الفتنة بين السلطة وحماس، بل بين بعض اطراف السلطة ذاتها، على نحو أراق الدماء الفلسطينية كما رأينا، كان العرب يتباعدون عن الحريق الفلسطيني، وينأون بأنفسهم طلبا للنجاة، وابتعادا حتى عن الشبهة! وحين نرى الساحة اللبنانية تشتعل بنيران الحروب السياسية والإعلامية المتصادمة، بما في ذلك التحريض العلني ضد العرب عموما وسورية خصوصا، أدار العرب وجوههم بعيدا، حتى لا تطولهم لسعة السياط الأميركية، وكأن لبنان لم يعد عربيا، كما هو الوضع المطلوب للعراق، وكأن سورية المطلوب رأسها لم تعد الشقيقة الأعز قبلة العروبة وكعبة المقاومة! وحين كانت مجموعة من أقباط المهجر المصريين، تدعو إلى عقد مؤتمر دولي في واشنطن، بحجة استعادة حقوق الأقباط المضطهدين في مصر، تذكيرا بمؤتمرات للمعارضات العراقية والسورية والليبية والجزائرية التي استضافتها العاصمة الأميركية والعواصم الأوروبية من قبل، كانت النخبة السياسية والثقافية المصرية منهمكة في عراك الديكة بشأن إمكان تحالف المعارضة للحصول على بضعة مقاعد في البرلمان، بينما يتجاهل الكل مثل هذا المؤتمر الذي قد يؤسس لشق ظهر مصر شقا! فماذا جرى لنا، حتى تغيب الذاكرة ويسهو الوعي إلى الحد الذي لا ندرك فيه أين الخطر الأساسي وأين الخطر الشكلي... متى وكيف نواجه هذا أو ذاك، أي ببساطة نجهل حتى ترتيب الأولويات، ونكتفي بالعوم فوق موجات من الألغاز والأحاجي، ثم ندعي أننا نتحرك في الزمان والمكان الملائمين!

الآن... حين نأخذ حكاية التحرك العربي نحو العراق، الذي اجتمعت من أجله على عجل في جدة، لجنة المتابعة العربية، وقررت الانتقال الفجائي من موقف الممتنع المبتعد إلى موقف المتدخل المشتبك المتفاعل، بدءا بإيفاد الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بغداد للإعداد لمؤتمر مصالحة وطنية لكل القوى والطوائف العراقية. فإننا نلاحظ أولا أنه تحرك جاء متأخرا بشكل لافت، ومن ثم فإن توقع نجاحه في إنجاز مهمته مشكوك فيه بداية، لأن الظروف الموضوعية والشروط الضرورية للنجاح غير متوافرة، وخصوصا أن التطورات السياسية، ناهيك عن العمليات العسكرية الطاحنة تجري بسرعة نحو إقرار وضع جديد للدولة العراقية، وفقا لنصوص الدستور الذي سيصوت عليه العراقيون بعد أيام قلائل - 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري - وسط خلافات جذرية عليه. ونلاحظ ثانيا أن الغياب العربي، أو التغييب بمعنى أصح قد جرى بقرار أميركي منذ الاحتلال في العام ،2003 ليس فقط عقابا أميركيا للدول العربية الرئيسية التي عارضت أو ترددت في مساندة وتأييد الغزو الأميركي للعراق، ولكن أيضا بهدف سلخ العراق المطموع في مخزونه النفطي الهائل، عن الجسد العربي، الأمر الذي لقي للأسف استجابات عاطفية من بعض القوى والطوائف العراقية، التي غلبت مكاسبها الصغيرة "طائفيا وعرقيا" على المصلحة الوطنية والقومية العليا. ونلاحظ ثالثا أن "الصحوة العربية المفاجئة" وقرار الذهاب إلى العراق بحثا عن مصالحة وطنية، تحوطها شكوك الضغوط أو الإغراءات الأميركية، التي بعد أن عانت من الورطة السياسية العسكرية في العراق، كما عانت من إبعاد الدور العربي منذ البداية، تسعى الآن جاهدة لجذب وتوريط الجامعة العربية في دور قد يكون إضفاء شرعية عربية على حكاية الدستور، دفعا للمسيرة السياسية التي يراهن عليها صقور البيت الأبيض من أمام وخلف الرئيس بوش المتدني الشعبية هذه الأيام. وإقرار الدستور بالصيغة المطروحة لا يغضب السنة العراقيين وحدهم ويقوي شوكة الآخرين، بل إنه قد يؤسس هو الآخر لشق ظهر العراق الدولة الموحدة، ويفتح الباب شرعيا ودستوريا وواقعيا أمام التقسيم على أسس عرقية وطائفية باسم الكونفدرالية واقتسام السلطة والثروة، فضلا عن تقويته لدوافع ونوازع الاقتتال الأهلي بصورة أسوأ وأعنف مما نراه الآن من قتل وتدمير في مستنقع مؤهل للبقاء هكذا لفترات طويلة، بينما الإدارة الأميركية تبحث عن مخرج لها من هذا المستنقع على وجه السرعة، يحمي سمعة الامبراطورية ويصون كرامتها. ومن أساليب البحث عن "مخرج لخروج مشرف" إصرار الرئيس الأميركي بوش، صباح مساء، على أنه نجح في غزو العراق وفق وحي الهي ملهم، في إقامة ديمقراطية وإقرار دستور وإجراء انتخابات في العراق تشكل نموذجا هاديا للدول العربية والإسلامية المجاورة، وهو في سبيل الترويج لذلك، يحرق محافظات غرب العراق "ذات الغالبية السنية" حرقا هذه الأيام تمهيدا للاستفتاء على الدستور وهو دفاعا عن الديمقراطية المزعومة يزيد قواته هناك ببضعة آلاف أخرى تدعيما لـ "القبضة الحديدية" التي تمارس القتل والعنف على أشده من دون رادع. وفي ظل كل ذلك، انفتح العراق شعبا وأرضا، ساحة لتدخل مباشر أو غير مباشر من دول الجوار المؤثرة، كل يبحث عن نصيبه في الكعكة اللذيذة، وخصوصا إيران من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، ناهيك عن سورية التي تتهمها أميركا بتسريب المقاتلين عبر حدودها الى داخل العراق... ولقد أغمض بوش عينيه لسنتين وبضعة شهور عن هذا التدخل، منهمكا في اعادة ترتيب الوضع العراقي وصوغه على هواه، وحين استيقظ فجأة من الوهم، وجد ان الأمر يفلت منه رويدا رويدا، بينما جيوشه متورطة في قتال لا نهائي، وها هو يستعين بصديق قديم، كان همش دوره وأخفاه قسرا.

لا نريد ان نستبق الأمر بالتشاؤم، ولا نبغي ان نحبط عمرو موسى الذي يتاهب للسفر إلى بغداد بعد أيام قلائل فقد يحقق المعجزة، ولكن من حقنا ان نسأله ونسأل كل دول لجنة المتابعة العربية، التي اجتمع وزراؤها فجأة في جدة، بعد عودتهم مباشرة من لقاءات نيويورك وواشنطن في الاسابيع الماضية، ما الذي حرك مكناتكم بعد ان كانت صامتة هامدة طوال الفترة الماضية بينما العراق يحترق وأنتم ممتنعون متباعدون أو مبعدون بمعنى أدق! ثم... هل تحرككم هذا يتوازي مع السياسة الأميركية في العراق أو يتقاطع معها، هل يجري باستقلال كامل ومبادرة ذاتية، أم هو جزء صغير في اطار تلك السياسة، يأتي الآن استجابة لدعواتها "ضغوطها" انقاذا لصديق قوي من ورطة صارت أكبر منه وأقوى! ثم مرة أخرى... هل تحرككم هذا يأتي ضمن شروط محددة تكفل نجاحه في توحيد القوى العراقية في اطار الهدف المعلن وهو تحقيق المصالحة الوطنية، وما هي الضمانات التي حصلتم عليها، سواء من هذه القوى العراقية المتصادمة، أو من اللاعب الأساسي المسيطر المهيمن على كل شيء، ونعني الطرف الأميركي... أم ان ذهاب وفد عربي برئاسة الأمين العام للجامعة العربية الى بغداد، مجرد ضربة عنترية في الهواء، أو ابراء للذمة جاء متأخرا كثيرا، أوهي خطوة متقدمة للتضحية بشخص عمرو موسى وإلصاق الفشل المتوقع به، وهو الذي فاجأكم بغضبه مما يجري داخل الجامعة التي يديرها، فألقى بورقة التهديد بالاعتزال بعد ان اصابه اليأس... وهل في عرفنا من يعتزل ويستقيل بارادته هكذا... وببساطة! لا أريد ان أمضي أبعد من ذلك، ولدينا الكثير مما يجري في الكواليس العربية، المدهونة بالمواقف الباطنية والآراء الملتوية والسياسات التي ان تحدثت فهي لا تفصح ولا تبين. ولكن كل ما نرجوه ان تتضح المواقف لينطبق القول على الفعل، كي تستعيد بلادنا بعض ذاكرتها التي غيبتها الضغوط الأجنبية، خصوصا الأميركية، متحالفة مع السياسات الداخلية التي لا تريد الا الاستمرار في الحكم والحفاظ على الثروة، فقط نريد التحرك الايجابي نحو العراق، مدفوعا بارادة ذاتية، حتى لو كانت فرصة نجاحه واحدا في المئة. ونذكر أخيرا... ان ما يجري في العراق وله وبه، سيناريو سينتقل غدا وبعد غد الى دول عربية أخرى، تحاول اخفاء رؤوسها في الرمال كالنعام، لكن ماذا تجدي الرمال!

خير الكلام:

اللهم إنا نسألك قلبا مطمئنا، يرضى بقضائك ويقنع بعطائك، يا أرحم الراحمين... * مدير تحرير صحيفة "الاهرام