العدد 1135 - الجمعة 14 أكتوبر 2005م الموافق 11 رمضان 1426هـ

السياسة والمشاعر

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

هل تعرفون ذلك النوع من القرارات التي يتخذها المرء على الضد من مشاعره؟ السياسيون لديهم عبارة: "قرارات غير شعبية". الغاء الدعم الحكومي عن سلع معينة او اجراءات تقشف ضمن خطط اصلاح او تصحيح اقتصادي، الجلوس مع اعداء الامس. كل هذا النوع من القرارات قد يتخذها السياسيون على نقيض مشاعرهم. اكثر ما علق في اذهاننا الآن هي مصافحة عرفات ورابين في البيت الابيض العام .1993 لقد تعرض الاثنان للهجاء والسخط واللعنات، ومع هذا ليس بوسع احد الجزم ان كلا من ابوعمار ورابين كانا مقتنعين تماما بأن تلك اللحظة كانت ما يتمنيانه فعلا، او ان مشاعرهما قد تغيرت تماما بعد عقود من العداء. والاهم انهما قد غفلا عن مشاعر شعبيهما. وعما تمثله مصافحة مثل هذه بالنسبة لجزء غير قليل من الفلسطينيين والاسرائيليين ايضا. هذا النوع من القرارات التي سيجد أي مشتغل في السياسة نفسه مطالبا باتخاذها في يوم، ان يعلن موقفا او يتخذ خطوة على النقيض من مشاعره او مشاعر الجمهور. هذا يشمل الجميع: الحكومة، المعارضة، التيارات السياسية بمختلف تلاوينها وتوجهاتها. وطيلة الاعوام الثلاثة الماضية، شاهدنا من الامثلة الكثير التي كنا نشعر بأن على الزعماء والناشطين ان يعلنوا فيها موقفا محددا وصارما. لقد فعلوا ذلك في مواقف معينة وكانوا شجعانا في ذلك، لكنهم ايضا ترددوا وتلعثموا في مواقف اخرى فتركوا الساحة لابطال الساعة 25 كي يختطفوا القضايا ويحرضوا الشارع بشكل غير عقلاني. كانت النتيجة تلك الاستعراضات التي تابعتموها بقلق ووضعتم ايديكم على قلوبكم خشية على الديمقراطية الوليدة. اعلان المملكة برفع الحظر على السلع الاسرائيلية يدخل ضمن هذا النوع من القرارات التي يضطر السياسيون لاتخاذها على النقيض من مشاعرهم ومشاعر شعبهم. الحكومة شرحت مبرراتها وركزت على انها كانت خطوة ضرورية لإمرار الاتفاقية في الكونغرس. وكانت الخطوة اعلانا جاء على لسان مسئول بحريني في العاصمة واشنطن وفي الوقت الذي كان فيه الكونغرس يناقش اقرار الاتفاقية. هذا كله ليس كافيا لكي يفهم الكثيرون توقيت الاعلان ومبرراته والاهم فهم آلية عمل النظام الاميركي نفسه وآلية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة. لا اعلم كيف يغيب عن بال الكثيرين هنا ان هذا الكونغرس الذي يصبون عليه اللعنات ليل نهار بسبب خضوعه لسيطرة جماعات الضغط اليهودية سيجيز اتفاقية بمثل هذه الاهمية دون ان يسعى لفرض شروط من هذا النوع كالغاء المقاطعة. وعليكم ان تتخيلوا الامر بالنسبة لمسئولي حكومتنا عندما يكون عليهم المفاضلة بين توقيع الاتفاقية بعد كل هذا العناء من المفاوضات او ان يعلنوا قرارا من هذا النوع. اذا ما وضعنا هذا في اطاره الطبيعي ايضا دون تهويل، فان هناك مهمة ملقية علينا دون مواربة. لقد استمعنا لمداولات مجلس النواب حول الاتفاقية وردود ممثلي الحكومة في الجلسة. وتعاقب النواب في ابداء وجهات نظرهم وأبدوا وحدة في الموقف عندما رفعوا توصياتهم للحكومة. في الحقيقة لقد ادوا دورهم كممثلين منتخبين، لكن الدور الآن ينتظر هذا الجسم الهلامي الذي نتحدث عنه مرارا ونسميه "المجتمع المدني". الاقتراح برغبة، التوصيات مهما كانت بليغة، الخطب، كلها لن تؤثر في انتهازية البشر او جشعهم او طمعهم. ولو كانت الكتابة والخطب كفيلة بانهاء رذيلة ما من رذائل البشر لكان الكذب قد توقف في حياة الناس. فما من شيء يكتب عنه الناس منذ فجر التاريخ سوى الكذب لكنه مازال موجودا ويتطور ايضا. اذا اردتم ان تمنعوا دخول البضائع الاسرائيلية الى بلادنا او وقف أي اتجاه للتطبيع او ان تكون خطوة رفع الحظر اول وآخر الخطوات التي يمكن ان تتخذها حكومتنا او حتى مقاومة اية ضغوط خارجية، فإن الامر يتطلب ما هو اكثر من البلاغة السياسية او اعلان المواقف. الامر الآن متروك لهذا الجسم الهلامي الذي نسميه "المجتمع المدني"، ان يتخذ زمام المبادرة، لكن لكي يتمكن المجتمع المدني من لعب دوره عليه ان يفكر بطريقة اخرى غير طريقة "الهجاء". أي التعامل مع السياسة وكأنها بلاغة لغوية قائمة على الهجاء والتحريض. عدا المتطوعين الاذكياء، فإن الامر يتطلب اساليب عمل من نوع جديد. فمراقبة البضائع الداخلة في الاسواق، او التصدي لانتهازية بعض التجار الصغار او حتى الحالمين بالثروة بأي طريقة يتطلب ان يبادر المجتمع المدني لتنظيم نفسه ضمن مقاربة عقلانية تشمل مراقبة دقيقة للاسواق والصفقات. تنظيم الحملات بشكل فعال ومقنع دون الاكتفاء بإعلان المواقف واصدار البيانات. على هذا يتعين التعامل مع الخطاب بعناية. فاذا كانت المداخلات في مجلس النواب ستبدو طبيعية بالنسبة لنا، فإن جرعات التحريض الزائد قد تأتي بأعراض جانبية. الاهم هنا هو وضع القضية في اطارها الطبيعي دون شطط او مبالغة. فان تجد الحكومة نفسها مجبرة على اتخاذ قرار من هذا النوع لدواعي المصلحة الوطنية الاشمل "توقيع الاتفاق والمكاسب المرجوة منه للبلد والناس"، فان هذا امر يمكن قبوله كقرار ضروري غير شعبي. لكن من هذا الفهم بالضبط علينا ان نتعامل مع القضية كلها باعتبارها ضغوطا خارجية. أي ان نشاط المجتمع المدني المرجو في هذا الصدد عليه ان يتأسس على هذا الفهم، أي مقاومة الضغوط الخارجية للتطبيع ومقاومة أي ميل للانتهازية والجشع داخل بلادنا لدى أي شخص يفكر في لحظة واحدة باستيراد بضائع اسرائيلي

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1135 - الجمعة 14 أكتوبر 2005م الموافق 11 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً